“يوميا” الإنسان والتطور
31-3-2008
العدد: 213
هيجل
قصة قديمة (ليست كذلك)
قبل الحكى:
- أغرانى ما نشرته يوم السبت – أول أمس_ أن أتعرف بهذه الطريقة الغريبة، على هؤلاء الأصدقاء الجدد، زوار الموقع، بأن أخرج من خزائنى، أو حتى من صندوق قمامتى، (آسف) ما أتصور أنه “أنا”، مما لم يصل إلى الناس فعلا أبدا، برغم نشر أقله لبضع عشرات هنا وهناك.
- انتهيت اليوم لتوى من قراءة ثلاثية “أحلام مستغانمى” (ذاكرة الجسد- فوضى الحواس- عابر سرير) فحضرنى فجأة نقدٌ كثير. قلت: متى أكتبه وقد امتلأ وقتى بهذه النشرة اللحوح؟ (هذا فضلا عما أثاره ما حضرنى من تذكر عشرات المباحث النقدية الكاملة والناقصة والتى لم تنشر منذ سنة 1974)
- ثم أننى، وبعد عشرين عاما، بعد حوار طيب مع جسدى داخل البحر، ومعه طوال أكثر من ساعة،وكان البحر عنيفا بالغ الحنان، وجدتنى أكتب قصة قصيرة احترت أن أختار لها اسما من بين اسمين إما “جسد الرائحة” أو “هسهسات المربع الصغير جدا“، وحين طالت حيرتى، وكنت قد نويت أن أنشرها فى هذه النشرات التى قررت أن أضمّـنها بعض مثل هذه الأعمال بمناسبة الحديث عن أنواع الإبداع،
- طال التردد وأزف موعد الدخول بنشرة الغد إلى الموقع، وإذا بى أتذكر مجموعة قصصى القصيرة التى لم يقرأها أحد، قلبتها ووجدت أننى لو قدمت بعضها فى الموقع أحيانا فإنها قد تصلح للوفاء بأكثر من غرض، مثلا: أن أعيد تقديم “بعضى” مما لم يصل إلى الناس ، وفى نفس الوقت أن أوفر بعض الوقت لمهام تحتاجه أكثر، ربما هى أولى ، وغير ذلك كثير،
وهكذا مددت يدى عشوائيا، فوقعت هذه القصة فيها فنشرتها اليوم دون أن أقرأها.
شكرا لتحمّـلكم.
هيجل
ـ 1 ـ
عاد قرب المغرب وهو ينفخ دون سبب ظاهر، سأل عن الأم فوجدها فى الخارج دون أن تحدد وجهتها، جلس على طرف المائدة وحيداً، كشف عن الأطباق المغطاة وراح يأكل دون تمييز وهو ينظر إلى ابنه فى أقصى الصالة وهو يُعد واجباته المدرسية فى حماس واهتمام، كان الولد قد بدأ مؤخرا يلتزم ويستقل ويواصل التقدم كل”فترة”، وكل عام، وكل امتحان، حتى أصبح قريبا من أن يكون أوّل فصله بكل جدارة، لم يفرح لهذا الخاطر الذى طالما انتظره وأمِل فيه، بل راح يتذكر كل الأوائل الذين كانوا معه فى الدراسة.
ـ 2 ـ
قابل منهم أخيراً ذلك الطبيب المشهور، فتطرق الحديث فاترا طيبا أطلّت من خلاله ذكريات لالزوم لها، فلم يرد الطبيب قيمة الكشف، هل هذا هو الفتى الذى كان موضع أنظار الزميلات، تراخى جسده حتى ليعجز أن يحيط بمحتواه، ولا بد أن عقله قد تبعه، أو لعل العكس هو ما حدث، طالما شعر بالنقص الذى كان ينتابه عند المقارنة بين إمكاناته المتواضعة فى الدرس والبنات، وبين تفوّق صاحبه هذا الذى صار طبيبا جدا فى العلم والجاذبية معا، راح ينظرإلى ما آل إليه جسد زميله الطبيب جدا، وحسه وأشياء أخرى، فاقترب منه همسُ شماتة، فأنكره، هذا الطبيب الزميل لم يكن يكف عن التنافس فإن لم يجد من يتنافس معه تنافس مع نفسه، يبدو أنه ما زال يتنافس وإن اختلفت التفاصيل، تُرى مع من يتنافس هذه الأيام فى هذا العمر؟
وعلى الرغم من الفتور السائد وضيق الوقت فقد ذكر له الطبيب الأشهَر عدد العـُمـْرات التى عملها هذا العام، كما سأله حين علم أنه مُحاسب وله زبائن يتعاملون فى البورصة التى لم يألف لغتها بعد عن أى الأوراق أضمن، هو لا يتوقف عن العدّ واستعمال أفعال التفضيل، لابد أنه سجـّل مضاعفات الركعات: سبع وعشرين ضعفا، مائة ألف، ولا بد أنه حسب كيف يمكن أن تعوّض تلك الأضعاف الصلوات المتروكة، والمخطوفة، التى يؤديها غالبا بنصف وعى.
ـ 3 ـ
عاد ينظر إلى ابنه فى شكٍّ رافضٍ واحتار:
حين كان الولد بليدا كان يقيم الدنيا ويقعدها حتى يتقدم فى الدراسة، وحين تقدم فى الدراسة هاجمته خيبة أمل متوقعة وتذكر زميله الطبيب الأشهر.
إذن ماذا؟
ـ 4 ـ
انتهى من غذائه دون أن يدرى،
وكان عادة يتصفح الصحف أثناء تناوله طعامه فلا يستطيع أن يميز بين البازلاء من القلقاس، ولا يعوقه من ممارسة هذا النشاط المزدوج إلا طبق ملوخية يحتاج إلى درجة من الانتباه تسمح بلف اللقمة عدة مرات حتى يتقطع “العرق”، أما الآن فالملعقة تمسخ طعم الملوخية، وعادة ما ينتهى الأمر إلى الإمساك بالطبق من كلتا الناحيتين، بكلتا يديه، لا حبّاً فيه، ولكن من باب العجلة العاجلة.
فى هذا اليوم تساوت عنده ـ أكثر فأكثر ـ الأطعمة والأمور والعادات والأخبار السياسية وصفحة الوفيات وصفحة الاجتماعيات . ثم نسيها جميعاً، كما نسى أيضا أنه نسيها، ولم يأكل سوى ما هو جاف جاهز بما تطوله يده وهو مستغرق فى القراءة، وكأنها هى .
هو مازال يصرّ على هذه العادة .
ـ 5 ـ
توقف فجأة وهو يمر بابنه دون أن يقترب منه، وسأله عن مكان بقية صحف اليوم، بادر الولد بأنها على المنضدة بجوار الباب وأنه سيأتى بها حالا، وهـّم أن يقوم لإحضارها، لكن يدا حازمة ربتت عليه بشدة غير مناسبة، ثم تدافعت الأمور على غير توقع، هكذا:
ـ وأنت؟
ـ نعم يا والدى؟
ـ الصحف؟
ـ أُحـْضـِـُرهم حالا؟
ـ لم تقرأهم، أليس كذلك؟
ـ فعلا…
ـ وأمس؟ هل قرأت صحف الأمس؟
ـ كلا
ـ وأول أمس؟
ـ ولا أول أمس.
قالها الصبى وهو يتدرج فى مراتب الحيرة والتوجس والخوف معا،
انفجر الرجل يسب ويلعن الصحف والأولاد والحكومة والمهندسين، والتجار وخاصة شقيق زوجته، وزوج شقيقتها، وشقيقته أيضا، وإبنها الشاطر فى الشطرنج والكرة الطائرة معا. أولئك الأوغاد الذين يعيشون فيها “كالمهاجرين”، أليست هى بلدهم أيضاً؟
لم يستطع الولد أن يتابع كل ما لم يسمع، فوالده لم ينطق بكل هذا السباب، .
راح الولد ينظر لوالده، منتظرا تحويل الفوهة إلى ما يخصه هو، لابد لهذا الموقف أن ينتهى.
هدأ الرجل بسرعة غير متوقعة، واستدار مبتعداً.
ـ 6 ـ
أفل راجعاً إلى الولد قبل أن يغلق عليه باب الحجرة، عاد مندفعا وكأنه تذكر شيئاً هاماً، وكأن أصل كل ما حدث هو فى ذلك الشىء الهام، سحب كرسياً وجلس بجوار ابنه على الأريكة، ووضع جسمه فى هيئة استعداد متنمر، حتى أحس الولد طعم موت بارد على وشك أن يغمره
قال الرجل فى نبراتٍ واضحةٍ وببطء مرعب:
ـ هل “تعرف” هيجل؟
خاف الولد أن يرد بالنفى مثلما رد سابقا، كما خاف من الكذب على حد سواء، وتيقن أن الموضوع “هكذا” لن ينتهى على خير، إذ لابد أن يتفتق عن إهمال، أو تقصير، أو تجاوز، أو ما يرى والده مادام الأمر هكذا بهذه الصورة الحاسمة القابضة على مجهول، فانبرى الولد مدافعاً :
ـ ليس “علينا” هذا العام.
– ولن يكون عليكم فى أى عام.
راح الولد يتحسس أى ثقب نجاة وهو يحاول أن يعتذر عن ذنب لم يقترفه، وهو لا يعرفه أصلا.
ـ علينا أم ليس علينا؛ كل ما تشير به حضرتك هو علينا، حضرتك أدرى، حضرتك قل لى وأنا أنفذ، أحفظه عن ظهر قلب، فقط قل لى قبلها، وسوف…
قاطعه الرجل متحسراً:
ـ أقول لك ماذا؟
ـ أى شىء، هذا الاسم أو غيره، أو أى أحد، وسوف أفعل كل شىء، فقط قل لى.
قال الرجل فى نفس الهدوء الواثق الحاسم:
ـ كل ما فى الصحف كذب ونفاق وتلفيق، هل تعرف ذلك؟
قال الولد وهو لا يدرى إلى أين يذهب به الرد:
ـ هكذا تقول حضرتك باستمرار، نعم، هو كما تقول حضرتك.
قاطعه أكثر حسما:
ـ أعرف ردّك هذا، توقعتُه بالحرف، عذر أقبح من ذنب، لابد أن نقرأها يوميا، نستعين على ما بها بالصبر والعناد والاستمرار على الرغم منها، نعم، كل يوم، صباح كل يوم تال، صباح كل يوم بعد التالى،الآن فهمتُ لماذا قال هيجل إن قراءة الصحف اليومية هى صلاة الإنسان المعاصر، بل إنها فى أيامنا هذه هى الجهاد الأكبر، لابد أن نقرأها ونحن نعرف أنها لا تستحق القراءة، ولا يصح أن تصدر أصلاً.
لم يعرف الولد ماذا يخصه فى كل هذا، كان أبوه يكلم نفسه بصوت عال، ولم يحاول الولد أن يستبين أبعد مما يخصه، مع أنه لم يستطع أن يميز ما يخصه مما لا يخصه. ارتعد وهو يسمع نفس الإسم الغريب من جديد، ـ “هيجل” ـ فالتقط من كل ذلك كلمة “الصلاة” فلاحت له انفراجةٌ، لعل وعسى.
– أنا أصلى يا والدى بانتظام، وحضرتك تعرف، أننى أصلى كل الأوقات.
ـ 7 ـ
أفاق الرجل فوجد نفسه متلبسا، كاد يأخذ رأس ابنه فى صدره يعتذر له، تراجع فى آخر ثانية، وصله من داخل نفسه نشيج مكتوم، فخاف أن ينتفض جسده أمام ولده، دون أن يلحظ، تمنى لو أن ثمة وسيلة للاختفاء دون حركة، حاول أن يشير أية إشارة، أو حتى أن يقهقه، يريد أن يزعم أنه كان مزاحا لا أكثر.
حاول أن يبدأ أى حديث آخر، هل يقول له إنه كان يختبر أعصابه؟ هل يلفق له رواية تفسر بعض ذلك، كأنه سمعها فى المكتب فحاول أن يمثلها معه.
الثقل يزداد فى الساقين واللسان على حد سواء، فتمنى أن يكون كل ذلك حلماً.
ـ 8 ـ
حين عاد آخر الليل، اتجه إلى سرير الولد مباشرة، فوجده نائما ينتفض.
انحنى عليه يهم بتقبيله،
تراجع فى آخر لحظة خشية أن يستيقظ الود فيفزع، أو يتذكر، أو يسأل.
وحين هم أن ينسحب فى هدوء لم ينتبه إلى تلك “الدمعة” الدافئة التى سقطت على خد النائم. وحين تنبه لها بدرجة كافية،
لم يحاول أن يمسحها،
ولا أن يمسح لاحِقَتَها عن خده هو.