الوفد:7/5/2001
هل هناك فرصة حقيقية لتداول السلطة
الأحزاب الحقيقية “فى بر مصر” الآن
ليس فخرا أن أصف نفسى بأنى مستقـل جدا. المستقل سياسيا هو- فى أحسن الأحوال- شخص عجز أن ينتمى إلى مجموعة بذاتها، وفى كثير من الأحيان، هو شخص يفضل الفرجة عن المشاركة، ويتجنب تحمّل أخطاء جماعته.
لعل غاية هذا المقال هو طرح أسئلة أكثر منه عرض إجابات أو اقتراح حلول.
هل توجد فى مصر أحزاب حقيقة وفعلا ؟
)يقولون إنها تربو على العشرين . شكرا(
ما أبعادها؟ وما مستقبلها؟ وما فاعليتها؟
هل هناك فرق بين مفهوم ووظيفة الأحزاب سنة 2001 بالمقارنة بـ سنة 1945(مثلا) ؟
ما هى الاختلافات الجوهرية فيما بينها؟
هل هناك أمل حقيقى فى “تداول السلطة” بهذا الأسلوب الحزبى الجارى ؟
حيرة قديمة وأمل غامض
بعد أحداث الأمن المركزى سنة 1986 كتبتُ رأيى بالصفة التى أعتز بها، صفة المواطن المشارك الذى هزه الحدث حتى فاض به الحال، حاولت أن أنشر رأىى هذا فى أى مكان يصل إلى عموم الناس، أو إلى السلطة، فلم أتمكن، فاكتفيت بنشره فى مجلة فصلية مجهولة، توزع بضع مئات من النسخ فى أحسن الأحوال، وتصدر كل بضعة شهور (إذا ربنا سهل) ، هى مجلة “الإنسان والتطور”. فى هذا المقال نبّهت أن أحداث الأمن المركزى هى بمثابة النذير الذى لا ينبغى أن يظل ما بعده مثلما كان قبله، وأنه لا دلالة له فى ذاته، إلا باعتباره شرارة عابرة انطلقت فى فراغ هائل: دوّامة تتسع باستمرار، ففجَّرَت الوضع كله. اعتبرت ما حدث بمثابة إنذار للإسراع بوقف دوامة الفراغ ، أكثر منه تنبيها لإطفاء النار التى انبعث منها الشرر.
كانت خلاصة فكرة المقال أنه إن لم يحدث تغيير حقيقى، وشامل، نتيجة لليقظة التى صاحبت الحادث، فإن الفراغ سوف يتمادى، والشرارات سوف تتطاير، والانفجار الناتج من مرور شرارة عابرة بهذا الفراغ الدوامة، واردٌ فى أى وقت، وأنه لن تـنفعنا – حين يحدث الانفجار التالى- تلك التفسيرات المختزِلة التى تقفز ساعتها، وتربط أى حدث جسيم، بما يجرى عابرا على السطح.
ثم استعرضتُ ما تصورته مسؤولا عن تكوين هذا الفراغ وتماديه، حكومة وشعبا، ومن ذلك “حالة الأحزاب” القائمة آنذاك.
عوْد على بدء
الآن، وبعد خمسة عشر سنة رحت أنظر حوالىّ أبحث عن حقيقة التغيير ومداه ، فلم أجد شيئا يذكر منذ استقالة الوزير النظيف أحمد رشدى بعد حادث الأمن المركزى، حتى انتخاب الوزير الملتبس موقفه “سيد مشعل”. ومع ذلك فنحن ما زلنا نعيش، ونأمل ونحاول (بطولة منّا والله العظيم. ثلاثا. ربنا يستر(
تناولتُ فى هذا المقال السرى القديم موقف الحكومة بأمل لا ينكِـر إيجابيات النظام الحالى. قلت مثلا :” ان الشعب يعرف – ويريد أن يحافظ على مكاسبه من الاستقرار والديمقراطية” و ” إن الناس تنتظر تغييراً فعلياً، وتأمل فيه قريباً. (لاحظ أن ذلك كان سنة 1986 !!!). كما قلت : “إن المواصلات بين الدولة وبين الناس لم تنقطع تماماً.”
(ولم تنجح هذه الرشوة فى التمرير للنشر).
حين أتيحت لى الفرصة الحالية للكتابة على هذا المستوى الأوسع، واختبرتُ هامش السماح من قِبَـل الدولة فوجدته أرحب مما كنت أحسب، قلت أختبر سماح المضيف الكريم، وأعيد فتح “ملف الأحزاب” آملا فى رحابة صدر المضيف أكثر من الحكومة.
راجعت ما كتبته عن الأحزاب حينذاك. (الإنسان والتطور:العدد26سنة 1986). قلت:
“الأحزاب الموجودة هى مشروعات حسنة النية، على أحسن الفروض، ما ظهر من معالمها حتى الآن لا يعدو أن يكون” نموذجا مصغرا (ماكيت) لما يمكن أن يكون:
- الوطنى: أصحاب مصالح، “جاهزون”، بلا جذور.
- الوفد: أصحاب ثأر، تاريخيون، بلا شباب.
- التجمع: أصحاب عقيدة، مثاليون، بلا إبداع.
- الأحرار: صحيفة مثيرة (ثم ربما تم تأجيرها من الباطن !!).
- العمل: أصحاب حماس، بلا معالم، (إلا طيبة رئيس الحزب).
- الأمة:صورة كاريكاتيرية لأى مما سبق.
ثم إنى صححت نفسى فى العدد التالى (27/1986) معتذرا قائلا:
“…. عند المراجعة رجّحتُ أنى أعجز من كل هذه الأحزاب، وأنه لا ينبغى أن أفخر هكذا باستقلالى-وأن أى انسان يبذل لهذا البلد من خلال قناة شرعية وبصبر مثابر، وبتضحية بالوقت والجهد، لابد أن ينال تقديرى لأنى لا أعلم سببا نفعياً للانتماء للأحزاب إذا استثنينا حزب الحكومة المزعوم”
عدت الآن أواجه نفس التساؤل القديم : هل عندنا أحزاب حقيقة؟ هل هناك فرصة؟ هل ما زال الأمر كما كان ؟ أم أننا أصبحنا على يقين من استحالة تداول السلطة ؟
أنا لا أعرف مجرد أسماء الأحزاب التى استجدت خلال خمس عشرة سنة، ولا أحد يعرفها (فى الأغلب)، رحت أعيد النظر فيما كتبت، فوجدتنى أعدّل انطباعاتى الآن كما يلى:
الحزب الوطني: لم ينجح أن يكون حزبا بعد. ظاهر الأمر أنه مؤسسة تديرها مجموعة الميليشيات لصالح جماعات المنتفعين، لها نظام سرى، يحدد قواعد وحوافز وشروط تحقيق أهداف المساهمين، ونحن لا نعرف عن ذلك النظام إلا بعض نتائج ممارسته التى تظهر فى شكل المضاعفات التى نعانى منها نحن دونهم، طول الوقت.
حزب التجمع: ما زال بنفس مثاليته القديمة، مع احترام عناد المثابرة، وتجديد المحاولة.
حزب الأحرار: بقايا الحزب آلت إلى رمز يظهر فى صورة صحيفة يومية، لا أحد يعرف من يقرأها، ولا من يصرف عليها.
حزب الوفد: مازالت نغمة التاريخ غالبة، وإن كان قد ضُخ فيه دم واعد جديد، لكنه ما زال يفتقر إلى حلول مبدعة لابد أن تختلف عن حلول القرن الماضى.
هو حزب معاق بالتربيطات الآمِلة فى صفقةٍ ما مع السلطة من ناحية، ومقهور بضيق فرص الحركة نتيجة لرعب السلطة منه، كمنافس تاريخى، من ناحية أخرى. صحيفته أكبر من حقيقته.
حزب العمل: تحوّل إلى حركة سرية بأمر الحكومة -رغم أحكام القضاء-وشلّت طيبة رئيسه.
حزب الأمة: نفس الصورة الكاريكاتيرية تأكدت بـفـتـح مدارس تعليم الحلاقة .
أما الأحزاب الجديدة التى ظهرت فى هذه الخمس عشرة عاما ، فأنا لا أعرف عنها شيئا، من أول حزب الخضر (الذى أشك أن أغلب أعضائه المثاليين لا يفرّقـون بين شجرة الجميز وشجرة السنط)، حتى ذلك الحزب الذى أصبحت متابعة نشاطاته من اختصاص شرطة الآداب، وربما المصنفات الفنية.
ما هى فاعلية الأحزاب هكذا ؟
حين أقرأ تعبير “زعيم المعارضة” فى مجلس الشعب ، أبتسم متألما، احتراما وحياء.
حين أسمع صوت نائب معارض جاد وهو يصيح فى حماس صادق يعبّر عن رأى وحوائج الملايين المقهورين العاطلين عموم القطر وليس فى دائرته فحسب، أو حين أراه وهو يتكلم مشيحا بوجهه عن المقاعد الخالية، وعن مطرقة الرئيس المتحفزة، حتى يتمكن من أن يكمل كلمته دون أن يصاب بالبكم أوالجنون، أدعو له بالصحة، وأخجل من استقلاليتى.
حين أتابع تحركات نعمان جمعة بطول القطر وعرضه، وأتابع تصريحاته الآملة، أتذكره سنة 1969 وهو يصلى ركعتىْ تحية مسجد باريس قبيل صلاة الجمعة، وهو يقرأ الفاتحة بصوت مرتفع لاهث، وهو لا يشعر بوجودى فى المسجد. أتابعه الآن وهذا المنظر فى ذهنى، فأشفق عليه، وأدعو له، وأخجل- من موقفى المستقل، ثم أتساءل”ماذا كان عليه من هذا؟”(كان عليه من ده بــإيه؟).
حين أترحّم على عادل حسين، متسائلا: هل كان هذا هو السبيل الوحيد أمامه؟ ألم يكن يعرف مخاطر هذا الطريق ودهاليزه، واحتمالات اللعب من خلاله. رحمه الله وهدانا من بعده.
أتأمل هذه الرؤية المراجِعَة، ولا أيأس بالرغم من ذلك. ليس من حقى أن أيأس أصلا. اليأس موقف لا يجوز معه أن تستمر حياة إنسان شريف. فقط أتساءل: ما العمل.
أظن أن أى خطوة لا بد أن تبدأ من الواقع :
لا يكفى الحديث عن “هامش الديمقراطية”.
لا يكفى السماح بالنشر فى الصحف.
لا يكفى التلويح بانتخابات أكثر نزاهة، فى الوقت الذى لا تخجل الحكومة من أن تفخر، وربما تمـُن على الأحزاب مجتمعة، ببضع وعشرين مقعدا من مئات مقاعد مجلس الشعب.
لا يكفى أن يعلن رئيس الوفد آمِلا متألما ، أن الوفد قادر وجاهز لتولّى المسؤولية. أين الفرصة الحقيقية؟ أبشر بطول سلامة يا “وطنى”.
لا بد أن نبدأ بالنظر فى الجارى كما هو.
ما هى القوى الفعلية التى تتكون منها رموز المعادلة السياسية المسؤولة عما يجرى فى مصر الآن، والتى يمكن أن نسميها “الأحزاب الحقيقية”؟
حقيقة واقع الحال فى بر مصر:
ليس فى نيتى، ولا هو فى مقدورى أن أعدد وأشرح كل تصورات مواطن مثلى لا يفخر باستقلاليته، لكن رحابة صدر المضيف تسمح لى بالمحاولة فيما تبقى من مساحة.
تعريف الحزب مجازا فى هذاالمقام هو : مجموعة متجانسة من أصحاب المصلحةٍ، لهم تأثير (بالسلب أوالإيجاب) فى مجريات ومصير مجتمعهم ككل.
المجموعة الأولى: أحزاب “اللاحزبية”:
وهى مجموعة تمثل الأغلبـية الغالبة، وتشمل (على سبيل المثال لا الحصر(
أ- حزب المتفرِّجين
ب- حزب المنتظِـرين
ت- حزب اليائسين
ث- حزب الحكماء الجاهزين بالأحكام الفوقية مع وقف التنفيذ
ج- حزب التخلىّ (= حزن الأنامالى(.
ح- حزب المثقفين الورّاقين (من الورق(
خ- حزب المستفيدين من ميوعة الموقف.
د- العاجزين عن الانتماء بوعى أو بدون وعى (بعذر أو بدون عذر- مثلى(.
أكرر هنا أنه بالرغم من اسم هذه المجموعة “أحزاب اللاحزب” ، فإنها حزب الأغلبية، وكل ما عداها – بما فى ذلك الحكومة – هى أحزاب أقليه. حزب الأغلبية هذا يؤثر فى مصيرنا بطريقتين، الأولى: بالحفاظ على استمرارية الوضع الراهن بخيره وشره، والثانية : بـإتاحة الفرصة لأحزاب الأقلية بالتمادى ، ربما إلى ما هو أخطر.
المجموعة الثانية: أحزاب الله (ليس اللبنانى(
هذه المجموعة هى من أكبر المجموعات الفاعِلة بالإيجاب (بالمقارنة بالمجموعة السابقة الفاعِلة بالسلب)، وهى من أكبر المجموعات المخدوعة (ولا أقول الخادعة)، لأنها تتجمع حول فكرة بسيطة صحيحة من حيث المبدأ، لكنهم لا يدركون خطرها التطبيقى.
تقول الفكرة: “إنه ما دام ليس عندكم حل، فالله سبحانه قادر أن يحلها بمعرفته”، هذا هو تفسير شعارات مثل: “الإسلام هو الحل”، “التراث هو الحل” إلخ ، وهم ينسون بذلك أن الله ينزل الحلول على الجميع بقدر اجتهادهم لنفع الناس على الأرض. و أنه سبحانه لا يحكم بنفسه مباشرة. هذه المجموعة تشمل:
(1) حزب”الإخوان المسلمون” العلنى والسرى
(2) حزب الجماعات الإسلامية، بشعبتيه : القاتلة، والذاهلة .
(3) حزب النشاطات الكنسية اللاهوتية ، والخَدَمِية، خاصة التى على اتصال بالخارج (إيجابا وسلبا، بوعى أو بغير وعى).
(4) حزب المحجبات والملتحين .
(5) حزب الجماعات الصوفية بشعبتيه: شعبة العارفين، فى الصوامع، وشعبة الذاكرين فى الموالد .
(6) حزب النشاطات الدينية داخل الأحزاب الرسمية.
أكتفى بهذا القدر لأذكّر أن ما يجمع هذه المجموعة-سياسيا- هو أن صوتها الانتخابى قوى، وحاضر، وهو يذهب إلى كل من يرفع شعار الدين، بغض النظر عمّا قبله أو بعده.
المجموعة الثالثة: الأحزاب البديلة
وهى ما أشرتُ إليه فى مقالى السابق عن الشارع السياسى وضربت له مثلا بـ “الصالونات الثقافية، كما أشرت إلى التجمعات الأسرية حول مسلسل بذاته، وبديهى أن هذا يشمل تجمعات النقابات والنوادى والجمعيات الأهلية، وغير ذلك.
هذه التجمعات لا تمارس عملا سياسيا (بنص القانون، ومن واقع الحال) لكن لها ثـقلها السياسى، سواء بتجنيبها، أو باستغلالها غير المباشر، فى الانتخابات وغيرها.
المجموعة الرابعة: أحزاب التحريك الفعلى
لن أعرج إلى تفاصيل هذه المجموعة لسبب بسيط هو أننى لا أعرفها يقينا، على الرغم من أنها الأهم والأخطر.
لذلك أفضل أن أترك تحديدها لاجتهاد القارئ، لأن المساحة المخصصة للمقال انتهت، كما أنى حريص على تنمية إبداعات القارئ، وليس على إثارة سوء ظنه لا قدّر الله.
وبعد
ليس معنى هذه الصورة أننى لا بد أن انتهى إلى الدعوة السهلة لإطلاق حرية تكوين الأحزاب تحت زعم أن هذا يمثل مزيدا من الديمقراطية ، إن مزيدا من الأحزاب قد يعنى مزيدا من الخداع والفراغ ما لم تتغير قواعد اللعبة الأساسية .
كيف ؟ هيا نجتهد جميعا.
حتى المستقلين أمثالى.