نشرت فى روز اليوسف
30 – 9 – 2005
سلسلة الإنسان
أ.د.يحيى الرخاوى
أما قبل
لماذا انتشر “هارى بوتر” كل هذا الانتشار؟ لماذا خلدت ألف ليلة وليلة كل هذه القرون، هنا وهناك؟ لماذا حضرت أحلام محفوظ، ومن قبلها أصداء السيرة الذاتية، ومن قبل قبلها ليالى ألف ليلة فى وعينا بهذه الروعة، فالعودة، فالإرواء؟ لماذا وزع السيميائى (كويهلو: ساحر الصحراء) كل هذا العدد مع تواضع مستواه الروائى؟ لماذا تجلت مائة عام من العزلة شامخة بديعة؟ لماذا تسطحت معظم مجلات الأطفال عندنا، وكذا أغلب برامج الأطفال، حتى كادت تصبح ضد ما نريده ونرجوه لأطفالنا، ولنا؟ لماذا خلدت قصص هانز كريستيان أندرسون، فى حين تظرفت قصائد شوقى للأطفال وكأنها سخرية منشورات سياسية للكبار على لسان الحيوانات والأطفال؟ لماذا تراجع الكدح الإيمانى الطليق المتواصل إلى وجه الله تعالى لحساب تعليمات السلطة الدينية المنغلقة؟ لماذا ظهرت قصيدة النثر؟ لماذا اعترضوا عليها؟ لماذا اقتحموَنا بالفيديو كليب ونحن نلعنه، ثم نشاهده جدا؟ لماذا أكتب فى هذا الموضوع؟
لأننا – فى الأغلب – لا نعرف ما هى حقيقة ما نسميه “خيالا” !!
تراجعت أحلامنا الواقع، أمام واقعنا الراسخ الجاثم تحت مسميات مختلفة، كثير منها زائف أو مصنوع. خذ مثلا واقع الاستقرار، أو رسوخ المنهج العلمى جدا، أو مظهر شكل التنوير، أو إشاعات الأمن والأمان، أو خدر الرفاهية، أو سعادة الرضا الساكن، أو سوء فهم الحلال والحرام، كل ذلك يقدَّم لنا على أنه “واقع ما”، فنستسلم له لأنه ظاهر، وقد لا نكتشف أنه من صنع أوهامنا أو آمالنا بعيدا عن واقعنا الواقع، أو واقعنا الآخر الذى نسميه خيالا، نحن لا نعرف الخيال ولا نتعهده واقعا آخر يثرى واقعنا الفقير أو يصحح واقعنا المزعوم.
الخيال هو مثل طائر طليق، يطير فى واقع حقيقى لا يتحدد إلا من خلال طيرانه، وهو واقع ماثل، لكنه يتخلق بالطيران حسب السرعة والوجهة والمصادفة والغاية الغامضة القوية، حين يحط هذا الطائر على شجرة ما، لا يصنعها هو من فراغ، وإنما هو يحط عليها لأنها هناك، ولأنه اختار أن يحط عليها، ثم ينتقل منها إلى زهرة، فصخرة، فيدخل فى مغارة، فتعيق طيرانه، فيفر منها، ليجد نفسه فى سماء (حقيقية) سابعة، دون أن يمر بالسماوات الست، ثم يلتقى بك فى حارة سد، دون أن يستأذنك، فيؤذن للفجر وهو لا يعرف كلمات الأذان، فيوقظك لتصلى، فلا تصلى ..أو تصلى. هذا هو الخيال الحى الواقع، وليس ما نصنعه افتعالا باعتبار أنه نقيض ما اتفقنا على أنه واقع.
……
لنتعرف على التداخل والتكامل بين ما نسميه خيالا وما نسميه واقعا : تعالوا نبدأ بمحفوظ كالعادة (هذه المرة : حلم من أحلام نقاهته)
نجيب محفوظ
حلم 14:أحلام فترة النقاهة:
تريضت على الشاطئ الأخضر للنيل. الليلة ندية والمناجاة بين القمر ومياه النهر مستمرة تشع منها الأضواء. هامت روحى حول أركان العباسية المفعمة بالياسمين والحب. ووجدت نفسى تردد السؤال الذى يراودها بين حين وآخر. لماذا لم تزرنى فى المنام ولو مرة واحدة منذ رحلت؟ على الأقل لأتأكد من أنها كانت حقيقة وليست وهما من أوهام المراهقة. وهل الصورة التى طبعت فى خيالى هى الصورة الحقيقية للأصل؟
وإذا بصوت موسيقى يترامى إلى من ناحية الشارع المظلم. صارت أشباحا ثم تجلت مع ضوء أول مصباح صادفها فى طريقه،ا أدهشنى أنها لم تكن غريبة على، فهى الموسيقى النحاسية التى كثيرا ما استعمت إليها فى صباى ورأيتها تتقدم بعض الجنازات، وهذا اللحن أكاد أحفظه حفظا، أما المصادفة السعيدة غير المتوقعة فهى أن حبيبتى الراحلة تسير وراء الفرقة. هى هى بطلعتها البهية ومشيتها السنية وملامحها الأنيقة، أخيرا تكرمت بزيارتى وتركت الفرقة الجنائزية تسير ووقفت قبالتى لتؤكد لى أن العمر لم يضع هدرا، وقمت واقفا منبهرا وتطلعت إليها بكل قوة روحى. وقلت لنفسى إن هذه فرصة لا تتكرر – لألمس حبيبة القلب.
وتقدمت خطوة وأحطتها بذراعى ولكنى سمعت طقطقة شئ يتكسر وأيقنت أن الفستان ينسدل على فراغ. وسرعان ما هوى الرأس البديع إلى الأرض وتدحرج إلى النهر وحملته الأمواج مثل ورد النيل تاركة إياى فى حسرة أبدية.
القراءة
أولا:
هذا الذى يتريض على الشاطئ، حضرنا مستيقظا يتذكر، كان يتساءل عن الحبيبة ولماذا لم تزره “فى المنام ولو مرة واحدة” ؟. أثير احتمال من البداية أن هذه الحبيبة لم تكن واقعا أصلا، يقول النص: ” على الأقل لأتأكد من أنها كانت حقيقة وليست وهما” ؟ ثم يشككنا النص فى الصورة التى طبعت فى خيال الراوى، على احتمال أنها ليست الصورة الحقيقية كذلك. تردد كل ذلك بعد أن رحلت الحبيبة الحقيقية أو المتصورة: هل ماتت أم أنها اختفت مرحليا: من الذاكرة أو الحلم أو الخيال ؟ . هذه الزيارة المحتملة فى المنام بدت وكأنها هى الحَكَـم فى تحديد الحد الفاصل بين وجود الحبيبة أصلا، ناهيك عن رحيلها، كما جعلها النص أيضا الحكم الذى سيحكم على مطابقة زائرة المنام مع أصلٍ مشكوكٍ فيه، وعلى صورة ربما مصنوعة من البداية!!!
إلى هذا الحد داخَلَ هذا النص بين مستويات الحلم، واليقظة، والأصل، والصورة، والواقع، والخيال. ويا ليته توقف عند هذا المستوى ، نكمل معا :
تترامى إليه أصوات تنقلب إلى أشباح (وليست أشباحا تصدر أصواتا)، وهى أصوات مألوفة، لكنها جنائزية دون حزن كئيب. هذه الاحتفالية الجنائزية عادة ما تتقدم نعشا لا شخصا حيا، لكنها هنا تتقدم الحبيبة بلحمها ودمها “هى هى بطلعتها البيهية، ومشيتها السنية، وملامحها الأنيق’”
يبدو أن إبداع النص يحاول أن يؤكد للراوى أن الحبيبة كانت (وما زالت) حقيقة ماثلة وهاهى تسير خلف فرقة موسيقية جنائزية، وقد جاءت ..” ..لتؤكد لى أن العمر لم يضع هدرا”.
المعنى المباشر هو أن الراوى عاش التجربة فعلا, وسعد بها، وأن هذه التجربة لم تكن أبدا أوهاما، وأن حبيبته هى حبيبته، وأنها أخيرا تعطفت عليه وزارته، وإن كانت فى ظرف غير مألوف للقاء الأحبة، فهى تسير وراء فرقة الموسيقى الجنائزية
تنتقل الحركة والراوى يتقدم إلى محبوبته بكل قوة وثقة ، لكننا نلاحظ أن تلك القوة كانت “قوة روحه” ، فننتبه (أو نتذكر) أنه منذ البداية أقر أن روحه هى التى كانت تهيم: “هامت روحى حول أركان العباسية المفعمة بالياسمين والحب” , ومع ذلك، فإن مطلب الروح الأخير كان حسيا وباللمس للتحقق من الواقع ماثلا عيانيا” “… وتطلعت إليها بكل قوة روحى. وقلت لنفسى إن هذه فرصة لا تتكرر – لألمس حبيبة القلب.”
المفاجأة الأخيرة هى أن الحبيبة لم تكن إلا هيكلها العظمى المخفى وراء صورتها بطلعتها البهية ومشيتها السنية، ويالته هيكل عظمى متماسك ، بل تجسيد فراغ هش لم يحتمل مجرد التفاف ذراعى الحبيب حوله “….وتقدمت خطوة وأحطتها بذراعى ولكنى سمعت طقطقة شئ يتكسر وأيقنت أن الفستان ينسدل على فراغ”
هكذا نجد أنفسنا فى نهاية النهاية أمام وهم الأوهام “…. وسرعان ما هوى الرأس البديع إلى الأرض وتدحرج إلى النهر وحملته الأمواج مثل ورد النيل”
رحيل آخر أخير، لعله الرحيل الحقيقى، الذى لا عودة بعده لخيال، أو لحقيقة ملتبسة، أو لحقيقة أصلية، أو لصورة هى هى، أو كأنها هى. هذا هو الرحيل العدم الذى يمسح الخيال مع الحقيقة مع الحلم مع الواقع ويساوى بينها جميعا، هو النهاية الباعثة على الحسرة الممتدة، “تاركة إياه :” فى حسرة أبدية.” لكن أبدا، حتى هذا الرحيل، هو ذخيرة الداخل!
وبعد
نتذكر أن أحلام فترة النقاهة ليست إلا إبداع أصيل، وأن العنوان (أحلام) لا يلزمنا أن نتعامل مع النص إلا بصفته إبداعا متميزا لا حلما مرويا. هذ النص –كما قرأناه – يظهر لنا بشكل جلى أكيد : كيف أن الخيال هو واقع آخر، وأن الموت هو وهم آخر، وأن العودة هى غياب آخر، وأن الواقع هو خيال آخر. ليس معنى ذلك أن ثمة دعوة لتداخل مخل يسمح لكل شىء أن يكون ضده باستسهال غبى، لكن الدعوة هى إلى رفض سجن ما نسميه واقعا.
هى دعوة لإعادة النظر فى مدى واقعية الواقع المزعومة، وفى نفس الوقت هى دعوة لاحترام مستويات أخرى من الواقع لا نسميها كذلك، ثم التحرك بينها بأكبر قدر من الإبداع، لتظل الكينونة الجدلية الحقيقية تتخلق باستمرار.
ننتقل ألآن من النص الأدبى إلى النص البشرى، حالة مريض
قراءة فى نص بشرى
هو رجل فى الثامنة والثلاثين من عمره، (ولنطلق عليه اسم زيد) وقد عمل منذ طفولته فى نسج السجاد يدويا مع والده، وأحب عمله وأبدع فيه، حتى سافر يمثل مصر فى فرنسا سنة 1992 وظل هناك لمدة عام ينسج ويرسم ويبدع، فيحترمونه ويقدرونه، ويبيع ويفخر. وهو لم يكمل تعليمه المتوسط. تزوج مرة وطلق، ثم تزوج مرة أخرى زيجة لا تخلو من مشاكل زوجية جسيمة، كما أن حياته الجنسية بها ما يستأهل النظر(فيما بعد) .
كان أهم من ما جاء فى شكواه بما يشير إلى ما يسمى أعراضا ما يلى:
النص
… حاسس إن دماغى بتلق، وما باقيــتش عارف نفسى.
مش عارف إذا كنت ملاك ولا شيطان وعندى خوف من كل حاجة، خوف من الناس والعمارات والشارع . من سنة 2001 وأنا تعبان. (هذه المقابلة كانت فى أوائل سنة 2005) التعب ابتدا من ساعة ما اتعرفت على ناس مسيحيين فى الفيوم كان لى شغل معاهم. اكتشفت إنهم جماعة تبشير ….، وإن لهم أعوان فى كل مكان،…..، قالوا لى اكتب كل حاجة تعرفها وبعدها مشونى وماعملوش حاجة. حسيت انهم بيراقبونى ،…..، وفى نفس الوقت كان عندى إحساس إن هوه دا الوقت إللى ربنا اختارنى فيه أنا بالذات عشان أكشف الجواسيس ….والصهاينة،…. وإنى أنا المهدى المنتظر إللى حايحرر الناس من اليهود وأمريكا. ولحد دلوقت الإحساس دا معايا وأنا متأكد إنه صحيح………. كنت باحاول أهدى الناس وقلت لهم إن يوم القيامة خلاص جاى، وقلعت كل هدومى فى الشارع عشان استعد لمقابلة ربنا، لكن ما حدش صدقنى،……..،
وعندى قدرات تانية مش عند أى حد تانى زى إنى باشوف الملايكة والشياطين تظهر لى فجأة وتختفى.
القراءة
أولا: نتذكر (ونضيف) ابتداء: أن هذا المبدع هو مبدع نجح فعلا، ويمكن أن ينجح أكثر، وأحسن (انظر بعد، وطالع ملامح عمله فى صورة السجادة المنشورة) ، وأن كثيرا من أقواله (أزمته فى الفيوم مثلا) ليست نابعة من فراغ مطلق، وأن كل ما ذكره دون استثناء له وجود فى تركيبه “الآن” (وليس فقط : له أسبابه الحقيقية أو الوهمية فى ماضيه أو ذاكرته كما اعتدنا أن نسطح البشر بالدراما المسلسلة أوالتحليل النفسى التبريرى أو النصائح الطبنفسية المباشرة). ثانيا: نلاحظ أيضا رحابة المساحة التى يتحرك فيها الواقع الداخلى، (دون أن نسرع بتسميته: الخيال المرضى)، كما نلاحظ سهولة وسرعة النقلات ، وكذا حضور المتناقضات متجاورة، ثالثا: يظهر لنا هذا النص البشرى كيف تستيقظ الحواس (الشم) كأدوات معرفية وتصنيفية، والأزمة مرضية اصيلة
وأخيرا : نضيف بعض تجليات تشكيل المدركات بالمعنى الذى تقوله غائية المرض:
(….،. وكمان باشوف القطط والكلاب إللى فى الشارع وشها وش بنى آدمين بحقيقى.)
فنلاحظ كيف أن هذه صورة معكوسة لما شاع من خيال (مرضى أو غير ذلك) من أن نرى الناس حيوانات، أو أن نسب بعضنا أو أهالينا بأسماء حيوانات، زيد هنا يرى لها رؤوس ناس، فيذكرنا بإبداع آخر (أبى الهول) لكنه هنا يمثل لغة أخرى لغاية أخرى أبدعها المرض.
كل هذه الملاحظات لا ينبغى أن تنسينا أننا أمام مريض، يعانى، وقد يتدهور، وبالتالى فنحن لا نصفق لمرونة حركية واقعه الآخر (الذى نطلق عليه لفظ خيال استسهالا، أويسارع الأطباء ليسمونه بأسماء أعراض مرض كذا أو كيت). نحن أيضا لا نعرض واقعه الآخر لنتفرج عليه، ولكن لنتعلم منه، إذ هو هو واقعنا الداخلى أيضا، وهو واقع يرزخ تحت عادة وصاية سلطوية جاثمة، ليست بالضرورة هى أفضل الحلول.
وإليكم قراءة أكثر تفصيلا:
…… ، زيد لم يعد يعرف زيدا، (ما بقيتشى عارف نفسى). هذا ليس تغيرا ووهما بقدر ما هو اكتشاف (وتعرية) مستويات أخرى من الوعى، إذا أضيفت إلى زيد المعروف، أصبح مجهولا، ومع هذا الكشف يصبح الإدراك غير معتاد فيصبح كل شىء مرعبا، لأنه يتعرف عليه من جديد (الناس والعمارات)، وهو أيضا يعيد التعرف على نفسه : فهو لا يعرف إن كان ملاكا أو شيطانا، لعله يطرح احتمال أن يكون ملاكا وشيطانا معا. هذا تساؤل غير التساؤل المائع الذى يخطر على الشخص العادى وهو يتصنع (او يتصور) أنه حائر بين الخير والشر!! ذلك أن زيدا أضاف أن رؤية الشياطين والملائكة هى من قدراته الخاصة الجديدة .
وعندى قدرات تانية مش عند أى حد تانى، زى إنى باشوف الملايكة والشياطين تظهر لى فجأة، وتختفى
ثم إن مرونة نقلاته بين مختلف مستويات الوعى وتفاصيل محتوى الداخل هى التى سمحت له أن يكون المهدى المتظر الذى سوف يخلص الناس من شرور الجواسيس والصهاينة، وأمريكا واليهود، ثم هو يحتاج أن يجمع كل المستويات معا فى قفزة مرضية عملاقة فتتجلى فيه القدرة الإلهية ، حين يناديه صوت حقيقى (من الداخل مهما أسماه الأطباء هلوسة) : “إنت ذات الله”. هذا بعد أن يقول له نفس الصوت “الناس دى مش حاتسيبك فى حالك”.
الواقع المرضى والواقع الإبداعى:
لاحظنا فى الإبداع الفائق فى نص محفوظ أن ثمة نقلات مفاجئة، وتناقضات مفيقة، لكنها فى نهاية النهاية، تتمحور حول محور يتجمع فى دلالات جديدة موقظة وجميلة، مهما بدت غامضة فى البداية. الأمر هنا يختلف، فبرغم رحابة المساحة التى يتحرك فيها الداخل نيتجة ثورة المرض المجهضة، وبرغم وفرة التناقض ودلالاته، إلى أن التناثر والتفسخ هو الناتج المعيق والمجهض، كما يلى:
أولا: إنه فى الوقت الذى يعتقد فيه زيد نفسه أنه المهدى المتظر، وأنه مبعوث العناية الإلهية لكشف الجواسيس والصهاينة، بل يناديه الصوت أنه ذات الله، فى نفس هذا السياق هو يشم رائحة براز حمار، ويميزها وحده، فيتقمص الحمار، ليصبح هو حمار العزيز.
ثانيا :مع إحياء الحواس كوسيلة معرفية، راح زيد يصنف البشر حسب إيمانهم وكفرهم بروائحم، تماما كما فعل زوسكند نفس مؤلف رواية العطر. إن بداية تلك الرواية تنبهنا أن المؤلف عرف الناس بروائحم قبل أن يفعلها جرينوى، فقد راح يقدم لنا العصر هكذا:
، “.. كانت رائحة الفلاح كريهة كرائحة القس،…. .كانت طبقة النبلاء كلها تنضح بنفس الرائحة الكريهة بما فيهم الملك نفسه الذى كانت تفوح منه رائحة حيوان مفترس، ومن الملكة رائحة عنزة شمطاء….إلخ”
يأتى زيد هنا ويصنف البشر بروائحم وألوانهم ، ولكن بصورة مباشرة أقل إبداعا:
”…. وباقدر أعرف إذا كان إللى قدامى دا مرتد وكافر ولا مسلم لو شميت ريحة معينة مش حلوة يبقى مرتد أو كافر، والمسلم الحقيقى له ريحة خاصة …،. ولو شميت ريحة براز حمار – بابقى أنا لوحدى إللى شاممها – أحس إنى أنا الحمار بتاع سيدنا عزيز وربنا أعاد بعثه فى صورتى.
وإذا كان غرينوى بطل العطر، قد أمضى كل عمره يؤلف –يبدع- لنفسه رائحته الإلهية المتميزة الخاصة، فإن زيدا هنا حصل على رائحته الخاصة الجميلة من خلال حيلة مرضية نفت البشر من حوله ، فلم تتبق له إلا رائحته الحلوة
وممكن أشم ريحة حلوة جداً، من غير مايكون فيه حد معايا أو حد معدّى
ثالثا: إن تغير الأصوات التى يسمعها (يسميها الأطباء هلاوس) من أصوات تبشره باختياره مبعوثا إلهيا، أوأنه ” ذات الله”، إلى أصوات المطاردة، ثم الاقتصار على أصوات العذاب والأنين ، يمكن أن يشير إلى : كيف أن محتوى الوعى الآخر هو زاخر بكل آلام البشر، وليس فقط بالآلام الشخصية ، تلك الآلام التى عبر عنها زيد كالتالى:
” . وباسمع أصوات رجالة بتتعذب، أصوات آلام وأنين غريب وأصوات صراخ. فى أول التعب كنت أسمع صوت راجل يقول لى: “الناس دى مش حا تسيبك فى حالك” “إنت ذات الله” وساعات أكتر من صوت يتكلم علىّ. لكن دلوقتى كلها أصوات العذاب والأنين”
“زيد المنتظر” فى مقابل “المهدى المنتظر”
واصل زيد تناول بعض العقاقيرالقوية التى تهدئ ثورة المخ القديم، فى نفس الوقت الذى واصل فيه حضور العلاج الجمعى بشكل متقطع للأسف، لكنه عاد إلى إبداع سجاده، كما نجح العلاج الجمعى فى ترجمة بعض الخبرة المرضية إلى احتمال خبرة إعادة بناء الذات.
مثلا فى إحدى جلسات العلاج الجمعى، عرضت فكرة المهدى المنتظر باعتبار أنها تعلن أن ذواتنا فى تشكل مستمر، وأن زيد “الأن” ليس هو نهاية المطاف، فثم زيد منتظر، وهو يتكون من جماع طبقات وعيه باستمرار، وذلك من خلال إبداعه وعلاجه ومراحل نموه . فى تلك الجلسة العلاجية التى مثل فيها زيد المريض دورا حواريا مع زيد المنتظر(مينى دراما)، عرض على بقية افراد المجموعة العلاجية أن يحاور كل منهم قرينه المنتظر (مثلا : حمدى المنتظر، سعاد المنتظرة، خليل المنتظر…، الدكتور أنس المنتظر- كلها أسماء مستعارة طبعا) ونجحت التمثيلية وحل زيد المنتظر محل المهدى المنتظر.
ومازلنا نأمل أن تتكامل المسيرة ، فهى ما زالت متعثرة.
وبعد: دعوة أخيرة حذرة
هل يقبل القارئ أن يجرب مع نفسه أن يتحسس أو يتبين أو يحاور ما يمكن أن يسميه باسمه المنتظر، أى أن القارئ شكرى ثلا يسمح لنفسهن ولو من باب المداعبة، أن يخاطب شكرى المنتظر، ولميس تسمح لنفسها أن تتحسس من يمكن أن تكون لميس المنتظرة، وهكذا؟
صحيح أن أى منتظر هو غير واضح المعالم، لكن لا ينبغى أن ننفيه بسبب هذا الغموض حتى لا نغطيه بوعى زائف، أو ينطلق منا مهديا منتظرا دون إذن.
هل يجرؤ أى منا أن يسمح لواقعه الآخر (ما نسميه خيالا) أن ينشط بمسؤولية مناسبة ليتخلق مع ما نعرف، إلى ما لا نعرف؟
فهو الإبداع