26-9-2012
تعتعة الوفد
هل من جديد بعد ثلاثين عاماً؟؟
باسم الله الرحمن الرحيم، باسم العدل الحق العليم، باسم الإنسان المصرى الطيب العنيد، باسم التطور الحتمى يقف على قمة هرمه الإنسان الساعى لوجه الله، باسم الحقيقة التى تفرض نفسها فى دورات حتمية مهما طال الزمن وطغت قيم الزيف، واختفى بريق التطور النابض الغائر الأكيد، باسم كل ذلك وما دونه وما بعده، نفتح هذه الصفحة من صفحات التاريخ، بمجرد أن سمحت لنا إمكانياتنا المتواضعة بفتحها .. آملين أن تخط على جدار الزمن أثرا يبقى بعدنا، يعلن بعض معالم محاولات إنسان العصر المقيم على هذه البقعة المباركة من أرض الله – “مصر” – أن يكون إنسانا كما كرمه خالقه.
لا يخفى على أحد ما وصلت إليه “الكلمة” فى عصرنا هذا من امتهان لكثرة ما تركها أهلها بلا رعاية وبلا قدسية، حتى أصبحت وظيفتها الأولى هى ملء وقت الفراغ بأصوات مسلية أو لاهية، أو تسويد بياض الورق بأشكال هى فى واقع الحال “ديكورات” العقل المعاصر.
هل نحن فى حاجة إلى مزيد من المساجلات العقلية، والمباهاة، والمهارب، والتفريغ المشل، بمجرد إمساك القلم وتسويد الأوراق؟ أم اننا فى حاجة إلى عمل وقدوة ومثابرة وإنتاج. ثم تأتى “الكلمة” نتاجا جانبيا شريفا سلسا؟؟
وبتعبير آخر: هل الكلمة هى التى تصنع الواقع وتؤكد الفعل، أم أنها ليست إلا تسجيل للواقع وتابع للفعل؟؟
والحق الحق أننا كنا – ومازلنا – نميل إلى الرأى الثانى رغم خطورته وصعوبته، ذلك الرأى القائل بأن العمل أولا، ومع هذا، فإن العجز عن الفعل الكافى وعن الإنتاج الباقى قد يلزمنا باتباع الطريق الأول مرحليا، ذلك الطريق الذى يحمل خطورة رص الحروف على أمل أن الكلمة القادرة الشريفة هى نور المسيرة البشرية، وأنها أمانة تاريخية لا مهرب من تسجيلها، ذلك لأنها تحمل فكرا إذا لم نستطع أن نصل إلى تحقيقه، فإننا لابد تاركين معالمه لأجيال من بعدنا تحكم علينا، وتكمل ما قد عجزنا عنه.
إننا فى مسيرتنا الحضارية نشارك إنسان العصر فى مواجهة أزمة وجود يكاد يتفرد بها عن أجداده، فعصرنا قد حطم حواجز كثيرة، وهز أصناما راسخة، حتى اختل كيان الفرد العادى فى مسيرته اليومية، وانتقلت مشكلة الوجود من صوامع الذهنيين إلى الشارع، وبهذا أصبح الفرد العادى أكثر فأكثر طرفا فاعلا فى تحديد مصير الكافة، بما أتاح له التقدم من فرص زيادة الوعى والمساهمة فى إصدار القرار.
أما علامات المسيرة البشرية فهى واضحة صريحة ومتحفزة أيضا تتحدى أى متقاعس أو مناور معطل، ومن ذلك تحطم الحواجز فى أكثر من مجال:
تحطمت الحواجز بين الصفوة المثقفة والرجل العادى قارىء الصحيفة اليومية. ثم تحطمت بين الأوطان بفضل ثورة الترانسيستور ثم التليستار (ثم الموبايل ثم النِّت…الخ).
ثم تحطمت بين الأجناس بفضل فشل التمييز العنصرى من الفوهرر هتلر إلى السيد بيجين. وكذلك تحطمت الحواجز بين العقائد بفضل فشل المذهبيين عند التطبيق الحرفى المتشنج لمذاهبهم.
وكادت تتحطم الحواجز بين الطبقات بفضل تنافس الأنظمة المختلفة – اقتصاديا – فى الإسراع برشوة الغالبية المنتجة .. حتى لو لم يصدق الراشون النية فى الاهتمام بتطوير الإنسان أو تعميق وعيه. وأخيرا نأمل بأن تتحطم الحواجز بين الأديان بفضل سعة صدر المتدينين على كل جانب، نتيجة لفهمهم الأعمق لرحابة الدين ووظيفته لعلهم يتسابقون فى التوصية بمنح تأشيرات دخول الجنان كافة بالعمل الصالح لكافة البشر، تاركين لله العلى القدير وحده حق الاطلاع على السرائر وما تخفى الصدور، ملتزمين بالشكل المنهجى الضرورى للعبادة السليمة والتقرب إلى الله.
لكن الخوف هو أن يختلط كل شيء بكل شيء، إذ يفقد التفرد مبرراته، ويكاد يفقد المنهج المحكم أنصاره، بل ويكاد يهتز المؤمن فى تقدير موقفه، وكل ذلك فيه خطر أننا نتخلى عن أسلحة بقائنا الحالية قبل الأوان، تحت دعوى ظاهرها الرحمة وباطنها من قبله العذاب، ومع ذلك فلا مفر من الأخذ بالمخاطرة باحترام المعطيات الجديدة، والتخطيط المسئول لمسيرة البشر من واقعها، لا من استسهال تجاهلها، ولا مفر من أن ينادى أى مواطن شريف فى أى بلد أنه “بلدى أولى بى … أبدأ منها.. ثم يعم الخير الجميع”, وأن يصر كل صاحب دين على الالتزام بتعاليم دينه لصالح البشر جميعا، ساعين إلى وجه الله من كل حدب وبكل لغة، وأن يصر كل صاحب مذهب على الدفاع عن وجهة نظره لإنجاحها، والتعلم من فشل تطبيقها لا الإسراع بالتخلى عنها.
إن أى دعوى انتكاسية تحاول أن تنتهز فرصة الفشل المرحلى الذى يعانى منه إنسان العصر، هى دعوى محكوم عليها بالموت تاريخا (إذا لم ينقرض الجنس البشري), وقد لبست الدعوات الانتكاسية فى أيامنا هذه أحد ثوبين: الثوب السلفى، وهو ثوب ضيق معوق، يخنق حركية التطور داخله بالحرفية والثبات والجمود، وأما الثوب الثانى فهو تلك العقائد الجديدة التى انتشرت باعتبارها “الأديان الحديثة” واحتكرت جنان الأرض، دون أن تتحلى برسالة الأديان باعتبارها أقوى ما عرف التاريخ تجميعا للبشر هدفا وعملا وتواصلا، حيث أن أغلب العقائد الحديثة قد جعلت حوارييها وأتباعها يقومون منها مقام الكهنة وحاملى القماقم وذابحى القرابين، وهم مازالوا ينتشرون ويبرقون ويرعدون، حتى حبسوا نبض الفكر فى سواد التعصب الغبى لمذهب عولمى جديد ضاربين بذلك أول ما ضربوا حركية التطور قبل أى شيء آخر.
وبعـد
إننا لنشعر أننا بهذا العمل المتواضع، وبقدر ما سنثابر ونواصل ونتعلم، ومن موقع أمتنا العريقة المنهكة، نستطيع أن نساهم فى تكريم الإنسان بإطلاق قدرات تطوره إلى الآفاق التى خلق لها، والتى تبدو أرحب بكثير من واقعه الخائف المحدود.
وهكذا نحاول – من واقع هذه المحدودية وتلك الآمال – أن ننقل، بصدور هذا العمل إلى الناس – بادئين بمصرنا والناطقين بلغتنا – بعض ما ينبغى أن يصلهم من معرفة بالإنسان .. معرفة قد تسهم فى إنارة بعض زوايا مشاكله المعاصرة … ومن ثم فى تغيير الفرد فالمجتمع إلى الغاية التطورية الطبيعية المتزايدة فى الإشراق دائما أبدا.
إذن، فهى كلمة علمية مصرية أساسا، إنسانية شاملة فى النهاية حتما.
وقد أسهم بالتعجيل فى ظهورها محاولتنا أن نواكب الأحداث، وأن نتحمل مسئوليتنا فى قبول التحدى الملقى فى وجوهنا. لقد أخذنا مخاطرة السلام كمجرد بداية حزينة لمستقبل تتوقف بهجته على قدر عملنا ومسئوليتنا، وهكذا أصبح كل فعل وكل كلمة لابد وأن تقاس بمقابلها عند جيراننا الألداء الجدد، ونحن نشعر فى مجال تخصصنا هذا، ورغم احتكارهم لقيادته فى كل انحاء العالم، أن عندنا من الرأى والفكر والأصالة ما يستحق أن يقال، بل وينبغى أن يقال فى حينه حتى نحظى بفضل السبق وفضل الأصالة جميعا، هذا هو قدرنا وهذه هى فرصتنا، وليأخذها كل فى موضعه، وقد فعلنا، والتاريخ يحكم بيننا.
……………
نحن نأمل أن تختلف الآراء وأن يقبل كل واحد أن يكون رأيه هو “الرأى الآخر” حتى لا تتميع طبيعة هذا العمل تحت دعوى تعادلية مستحيلة، نأمل من خلال ذلك أن نسهم بجهد متواضع أن يقول صاحب الاجتهاد كلمته دون اشتراط أن يتلون باللون السائد قبل أن يسمح لكلمته أن ترى النور، حتى لا تصبح الكلمات رشاوى أكثر منها حاملة لقدس الحق أو لاجتهاد الخطأ، رشاوى لصاحب القوة، أو لصاحب الحاجة، فمن منطلق علمى ينبغى أن يكون واضحا أن مهمتنا تختلف إذ نحن لا نبحث عن سامعين سلبيين أو مصفقين محتاجين، بل نحن ندعو للتفكير والتصحيح وبذل جهد تبنى الرأى ونقيضه حتى نسير قدما إلى ما هو أنفع وأبقى، وقد تصدينا لمسئولية “إشهار” ما نعرف لأصحابه دون رشاو صريحة أو مقنعة، مغامرين بالرفض ومحدودية الانتشار لفترة لا نعرف مداها، فضلا عن احتمالات الإهمال والازدراء والتهوين وما إلى ذلك، وعلى قدر إيماننا بشرف قدرنا، وعلى قدر إصرارنا على نقاء وصدق كلمتنا، وعلى قدر ثقتنا بقدرة إنسان مصرنا فى أحلك الظروف سيكون استمرارنا.
وبعد (23/9/2012)
كانت هذه هى معظم افتتاحية العدد الأول من مجلة الإنسان والتطور يناير 1980 وقد نشرناها بحروفها مع تغيير بضع كلمات.
فما رأيكم؟ هل من جديد؟ وكيف نواصل؟