نشرت فى الوفد
24-2-2010
تعتعة الوفد
هل بدأ الشارع السياسى يتشكل؟
“…فى منتصف وأواخر الأربعينات، على المصطبة، فى ليالى الصيف خاصة، بقهوة أو بدون قهوة، أحيانا حول راكية ذرة نشويها، كنا نتحوط جلسة الشيخ محمد أبو عبد الحافظ (كنا ننطقها بالضاد: عبد الحافض) الكفيف الظريف شديد الوفدية حاضر البديهة، وأخشى أن أقول سليط اللسان، لم يدع سعديا أو دستوريا إلا سلخه، وحين ظهرت جماعات من الشباب من الإخوان توقظ الناس قبيل الفجر بالعافية، وأحس بوعيه أن المسألة ليست هى، هاجمها من باب الاحتياط. ولم تكن ميكروفونات الأذان قد اخترقت حجب الصمت والنوم والظلام والسياسة بعد….”
أغلب من أعرف من مكفوفى قريتنا من حفظة القرآن الكريم كانوا بمثابة المقرئيين المحترفين إلا هذا الشيخ الطيب الظريف، لم أكن أعرف له مصدر رزق محدد، ولا حتى أسرة وأولاد، لم أره يطلب أو حتى يقبل من أحد عطاء ما، كان فقيرا عفا فى مسألته الخاصة، لكنه كان دائما حاضرا جهورى الصوت لاذع التعليق فى الأمور العامة، لم يكن يمر حدث سياسى كبير أو صغير إلا علق عليه، وحين صوروا أحد المرشحين الوفديين وهو يقدم الحذاء للنحاس باشا عقب صلاة الجمعة، هيج أعداء الوفد الناس ضد هذا المرشح مستشهدين بهذا المنظر، ولم يتوان الشيخ محمد ابو عبد الحافض فى طرح تفسير مضاد، قدمه لنا ونحن بعد أطفالا نجلس حوله، قال لنا إن هذا ليس إلا توقير للكبير، وهو ليس مذلة للزعيم ولا تقديس له، وأن أى ابن يمكن أن يساعد أباه فى العثورعلى حذائه وتقديمه له بعد الصلاة. لم يكن يتركه المحيطون به يفتى وحده سادرا فى تعقيباته، وتفسيراته، كان هناك من يوافق، ومن يسخر، ومن يصحح، ومن يثور، ومن يترك المجلس غاضبا. كل هذا هو ما عرفت لاحقا أنه ليس إلا “الشارع السياسى”.
“…. الشارع السياسى ليس مجرد الصحف المؤيدة، أو المعارضة، ولا هو الصالونات الثقافية، ولا حتى دردشة “النت”، ولا حلقات الديسكو ولا انسحاب المتبتلين، ولا فرقعات المهيجين…”
“الوعى العام يصبح حراكا سياسيا حين يؤثر على قرارات الحكام، وعلى اختيارهم، وعلى أدائهم، وعلى بقائهم، وعلى عزلهم أو قبول استقالتهم، أما هذا الحراك الموقوف عن التفعيل فهو بمثابة المتفرجين على فرق موسيقى البلدية التى كانت تعزف كل أسبوع فى الحدائق العامة أيام زمان، كما كانت تلف البلد فى المناسبات والموالد، وكانت مكونة من عازفين حقيقيين قد يصلون إلى خمسة لا أكثر، أما الباقى فكانوا يسمون “لابسى المزيكة” كل هذه الفئات من “متفرجين” أو “عازفين” أو “لابسى مزيكة السياسة”، لا يمثلون حراكا حقيقيا يستحق تعبير “الشارع السياسى”.
“بعد قيام حركة يوليو 1952، التى ثوّرها عبد الناصر اجتماعيا بعد ذلك، ثم نفخ فيها قوميا فاقتصاديا فأصاب واخطأ، تم تأميم السياسة مثل تأميم الشركات والأراضى الزائدة، فانسحب الناس إلى مغالق كثيرة متنوعة، انسحبوا إلى الدين ، أو ظاهر الدين، وإلى مصالحهم الخاصة، وإلى همومهم الذاتية، وإلى أكل عيشهم الصعب، وانتهى الأمر إلى قانون واقعى جديد يقول: “من كل حسب شطارته، وإلى كل حسب حاجته للتخدير والعمى”، أدّى هذا الانسحاب الجماعى إلى شلل حركية الحوار، كما ألغى تحمل الاختلاف واحتمالات الجدل، لتحل تجمعات الخوف والتعصب والإغارة محل ما يسمى “الشارع السياسى”.
فى نفس الوقت: تكونت التجمعات الصغيرة البديلة: من أول شلل الانتهازية والجوائز، حتى الصالونات الثقافية الخاصة جدا، والخاصة فقط، لتُمثل كل منها “مَكْلًمَة” تنفيثية، وخلاص. طبعا يوازى هذه التجمعات لقاءات الندوات والمحاضرات وفرق تحرير المجلات والصحف..إلخ، وتظل هذه النشاطات والتجمعات، مستمرة ومسكنة ومتكلمة، دون أن تصب فيما يسمى “الشارع السياسى”.
“على الجانب الآخر اتجه بعض الهائمين المُفَرَّغين أصحاب المزاج وأصحاب الدماغ وأصحاب الفن الزائط – من الشباب خاصة – إلى الانتماء إلى ثقافات فرعية، ثقافات الإغماء، داخل جماعات المخدرات، و ثقافات ساعة الحظ التى لا تعوض حول حلقات الديسكو وما أشبه، فأستغنوا بذلك عن السياسة وعن المشاركة فى الهم العام، من أصله، ولم يعرفوا أبداً ما هو “الشارع السياسى”.
“ثم ظهر التواصل بالنّت، ليحرك الكلام السياسى أجرأ وأفكه، حيث ظهرت مواقع على مواقع أدت إلى ظهور مواقع مضادة ومواقع مضادة للمضادة، وهات يا دردشة، وائتناس، وتفريغ، وغيظ، ونكت، وسباب، وفضائح، وتحريض، ولكن لم يتجمع أى من ذلك فيما يسمى “الشارع السياسى“.
وأخيرا اشتد الحال على أحدهم فصاح، من فرط ما به، أنه “كفاية”: معلنا أنه قد “طفح الكيل”، فترددت الكلمة كالصدى فى وديان مهجورة: “كفاية كفاية كفاية فايه فايه يه يه” وتصور الناس – بما فيهم من صاح – أنهم يقولون كفاية للرئيس، أو للنظام، لكن تسلسلت وراء ذلك كفايات أخرى كثيرة دون استبعاد أغنية فايدة كامل (المغنية لا النائبة) صاحبة السبق أنه: “كفاية شطارة .. ياواد يا سمارة”.
استدراك: أثناء كل ذلك – بالطول – أُعلن عن تكوين ما يسمى أحزاب، أى والله، غير الحزب الوطنى الذى ليس له علاقة بالسياسة من أصله، وإنما هو قام ويقوم بدوره الرائع “كمتعهد” سرى لتوريد التحركات البديلة المجهِضة، واجتذاب الكفاءات الإدارية الطموح التى ليس لها دعوة بالسياسة، والتى تدير البلد كإدارة متجر للأدوات المنزلية، ووجدت الأحزاب الأخرى نفسها أحزابا مع وقف التنفيذ من حيث إغلاق باب تداول السلطة نهائيا مدى الحياة ، وربما ما بعدها ما أمكن ذلك.
وبعد:
أغلب ما سبق هو مقتطفات حرفية تقريبا من كتابات لى سبق نشرها منذ أكثر من خمس سنوات، وقد قدرت أن إهداءها للقادم الكريم د. محمد البرادعى، حمدا لله على سلامته، قد يساعده فى رؤية بعض جوانب ما آل إليه حالنا، حتى لا يتصور أنه سوف يترشح (إذا ترشح) فى بلد مثل التى كان فيها شوارع وميادين سياسية كما ينبغى، برغم كل شىء، ومع ذلك فنحن نأمل أن يكون مجرد قبوله وحضوره هو بداية أفضل نحو مستقبل أفضل.