نبذة: نقد لحكاية “حوار الآخر” والقبول الآخر باعتبارها ادعاء ماسخ فاتر ما لم يكن جادا – الحيرة التى تصاحب محاولة لبس قميص الآخر يمكن أن تخلق ابداعا يجمعها، وبغير ذلك لا قبول ولا حوار، وهذه ليست بالضرورة مهمة الطبيب النفسى (نقد مقال لدكتورة وفاء إبراهيم).
الأهرام: 29-7-2002
هذه الحيرة المبدعة
ونحن نحتفل بهذا اليوبيل الذهبى لهذا الحدث الفارق فى تاريخنا الحديث، من حقنا أن نختلف أو نتفق، نمدح أو نقدح، نلوم أو نشكر، لكننا فى نهاية النهاية لابد وأن نجد أنفسنا فى بؤرة اللحظة الراهنة. وفاؤنا لإيجابيات هذا الحدث الفريد هو أن نضاعف عملنا ونحن نوالى تركيزنا على ‘الهنا – والآن’، وفى نفس الوقت نرصد ونخطط للمستقبل، الذى هو ليس إلا ناتج ما نصنعه الآن.
أحاول فى معظم ما أكتب للقارئ العام أن أتجنب إدخال أية مصطلحات، أو تفسيرات أو فتاوى نفسية مباشرة. أفعل ذلك خشية أن يتوهم الناس أن اجتهاد من هو مثلى هو فتوى علمية ملزمة طالما صدرت من مختص بصفته هذه. لكننى أعجب وأتعجب – وأحيانا أغضب – حين يستعمل غيرى مصطلحات تخصصى بسهولة، وتعميم، وأنا لا أجرؤ أن أفعل.
كنت قد انتهيت لتوى من قراءة كتابها المتميز (باستثناء الجزء الأخير) ‘مائة وثمانون يوما فى بلاد اليانكي’، حين طالعنى مقالها فى أهرام الأربعاء 24 يوليو الجارى عن ‘الطريق الصعب والحوار مع الآخر’. فإذابها، د. وفاء إبراهيم، تنهى مقالها بتوصية تستلهمها من مفكر نمساوى يهودى معاصر، هو مارتن بوبر، وهو يوصى بحوار إيجابى، استلهمه من حوار الطبيب النفسى مع مريضه. وبعد تحفظها على نوايا المؤلف، دعتنا قائلة :’… فهل نأمل من أطبائنا النفسانيين أن يقدموا رؤية أولية قد تشاركهم فيما بعد تخصصات أخرى… إلخ’
إنها ليست مهمة الطبيب النفسى، وإنما هى فرض كفاية على من عنده ما يضيفه أو ينبه إليه، لنتميز.
تذكرت كيف استغرقنا مؤخرا فى الحديث عن ‘قبول الآخر، والحوار مع الآخر، على مستوى الحضارات والأديان جميعا. كما تذكرت – باحترام شديد- البابا شنودة وهو ينبه إلى أن الحوار هو بين المتدينين وليس الأديان، بمعنى أن كل متدين يتوجه من موقعه الثابت الذى يملأ وعيه، ويتمسك به، لكنه توجه ضام ليلتقى مع متدين آخر يبدأ من موقع آخر، وهم معا فى طريقهم إلى وجه الحق تعالى، آملين أن يلتقوا فى بؤرة مشتركة لصالح الناس، وتعمير الأرض بالإبداع، فهو التوجه الضام، الذى هو فعل تختلف تفاصيله، لكن تتوحد غاياته، على خلاف حوار المواجهة الذى يفترض تنازلات، وتسويات، وترضيات تصلح لجزئيات الاختلاف، ولا تنفع كثيرا فى كلـيات المسارات المتنوعة.
بعد أن تبين قصر العمر الافتراضى للحول الجاهزة المستوردة، خاصة وقد اهتزت قدسيتها، وتعرت وعـودها، لم يعد أمامنا حل إلا مواجهة التحدى طول الوقت. هذا هو ما يمكن أن يخلق منا ما هو نحن من واقع استلهامنا تاريخنا، ثم تحديثه بإعادة إبداعه.
إن المسئولية فردية، بقدر ما هى جماعية، فالله سيحاسبنا على وقتنا، وعلى حسن استعمال عقولنا، وعلى تنمية إبداعنا، سيحاسبنا فردا فردا، حتى لو لم تساعدنا سلطة مسئولة، أو يسمح لنا مناخ مناسب.
إن الإضافة الحقيقية تحتاج حيرة حقيقية، لكن فرقا بين حيرة يسميها الطبيب النفسى باسم مرض مثل القلق، وحيرة يواجهها المبدع المتحدى مع كل بداية جديدة لحل غامض. إن علينا أن نتعلم كيف نتحمل اهتزاز البديهيات، ونحن نحاول إعادة صياغة الحياة.
هذه الحيرة المبدعة لا يحلها حوار أشبه بحوار الطبيب النفسى والمريض، إنها تحتاج للاستعداد لها بأدوات حديثة قادرة، وزمن ممتد، ومحاولات مستمرة حتى تتخلق منها فروض ممكنة، قابلة للاختبار.
السؤال الآن هو: هل عندنا ما نضيفه من موقعنا؟
سوف أطرح فى نهاية المقال مثالين محددين:
المثال الأول: شاعت ثنائية ‘الآنا – مقابل – الآخر’. باعتبار أنها الطبيعة البشرية التى تسمح للفرد أن يتعايش مع أفراد نوعه مستقلا مختلفا. استوردنا هذه الثنائية منهم بزعم أنها تحافظ على المسافة، وتؤمن الاختلاف، وتسمح بحرية الفرد التى تنتهى عند بداية حرية الآخر، هذه العلاقة الجميلة حملت فشلا داخليا لعله المسئول عن بعض تفكك الأسر، أو عن العلاقات المهذبة الباردة، ثم عن بعض الاغتراب.
هل عندنا بديل؟ ربما.
عندنا علاقة أخرى تقول: ‘أنا- مع- الآخر: إليه’، وليس ‘أنا مقابل الآخر’، وحرف مع هنا يؤكد ‘المعية الجدلية’، وليس مجرد’ العطف’. العامل الذى يضمنا إلى بعضنا البعض هو وحدة ما نتوجه إليه، وليس فرط حرصنا على المسافة فيما بيننا. إنه الحق تعالى ‘نجتمع عليه، ونفترق عليه، لنتفجر إليه’ .
هو الكدح إليه كدحا لنلاقيه.
المثال الثاني: إن مجرد تكرارنا لمسألة حقوق الإنسان كما نستوردها منهم دون النظر فى مستويات أخرى، يجعلنا نمارس هذه القضية الرائعة ممارسة ‘خوجاتية’ دون النظر فى بعض ما عندنا، خذ مثلا: ‘حق الدعاء’ و’حق الاستجابة’. نحن لا نستطيع أن نصدر هذين الحقين بشكلهما القديم وإلا حسبوها ميتافيزيقيا مغتربة. هل نستطيع أن نعمق مفهومهما بلغة حديثة من واقع تجارب صوفية، ونماذج حياتية، ليست بالضرورة انعزالية أو فردية؟ هذا أمر وارد خصوصا ونحن نتذكر أنه لم يعد هناك ما يسمى ميتافيزيقا، ولكن ثمة فيزيقا قديمة، وفيزيقا كموية، وفيزيقا فائقة، وفيزيقا واعدة، وفيزيقا متلفسفة..إلخ.
هذا ثراء لا ينتهى، و هو موجود فى تراثنا بأسماء أخرى. إلى متى نهمله، لنستورد ما هو دونه، مما تجاوزوه هم ؟