الأهرام 18-10-2004
هذا القتل… ورائحة الغدر !
مازلت أتعرف على النفس الإنسانية من إبداع المبدعين وتعرى مرضاى (ونفسي) أكثر مما يأتينى من معلومات مرصوصة فى كتب تقليدية، كررت كثيرا كيف أننى تعلمت من ديستويفسكى ماهو طفل وما معنى قتل الوالد ثم استحالة الإلحاد بيولوجيا..إلخ، كما تعلمت من ملحمة حرافيش محفوظ -مثلا- كيف يكون الخلود الساكن موتا خامدا فى مقابل نبض الإيقاع الحيوى وحتم الحركة، ثم إننى اكتشفت مؤخرا عمقا آخر: حين يغوص الإبداع فى المنطقة المرعبة الجميله بين الموت والجنس والذاكرة والقتل والمعرفة والزمن والبعث، أروع ذلك يكون عبر يقظة الحس الأعمق والأقدم مثل الشم والتذوق، هذا بعض ما أعايشه وأنا أعاود حاليا نقد رواية زوسكند “العطر” مع “مائة عام من العزلة”. جارثيا ماركيز
الذكريات روائح أكثر منها معلومات مرصوصة يمكن استعادتها. حصل العالمان الأمريكيان ريتشارد اكسيل وليندا باك على جائزة نوبل فى الطب هذا العام لأبحاثهما فى مجال حاسة الشم، حيث قاما باكتشاف عائلة من الجينات تحدد قدرة الإنسان على تمييز حوالى عشرة آلاف رائحة مختلفة وتذكرها مدى حياته، طمأنتنى الفكرة والنتائج على قدرة العلم الحديث على الكشف عن حقيقة التناهى واللاتناهى بالنسبة لما نعيشه من حس وواقع، ثم نضطر أن نختزله ونقربه لأقرب ما يمكن أن نعبر عنه.
حاسة الشم لم تكن أبدا بهذا الغموض بالنسبة لعلماء التطور أو للمبدعين أو للمرضى، هى أصل ثابت فى حفظ النوع. الفص الشمى هو أقدم المخ الحديث. حين يمارس مريضا العادة السرية فيشم رائحة مقززة نقول إن عنده هلاوس شمية لأننا ببساطة لا نعرف رائحة اسمها “رائحة الشعور بالذنب”، وحين يصف سارتر العلاقات البشرية بالغثيان، فإنه يشير إلى إحساس غامض هو مزيج من إثارات رخوة لزجة ناعمة متسحبة منفرة معا.
حضرنى كل ذلك حين هفت على خياشيمى رائحة حادث الأقصر وأنا أتابع حادث طابا. لم تتطابق الرائحتان فعلمت أن الفاعل مختلف، وهما معا ليستا مثل الرائحة اللاطمة الغاشمة التى تصاعدت مع دخان برجى التجارة العالمى مصنوعة من قسوة صلب المبنيين دون البشر بداخلهما. رائحة طابا جاءتنى أقرب إلى رائحة جثث الأبرياء فى بغداد والموصل وبعقوبة ورفح وجباليا، لكنها لم تكن متطابقة تماما مع رائحة أشلاء أطفال مدرسة بيسلان بأوستيا الشمالية المختفية خلف رائحة البارود البارد والدم الجارى والمتخثر، تعجنه قذارة وقسوة بلادة وعى الخاطفين والمخلصين جميعا.
ثمة روائح أخرى ليست لها رائحة هى المسئولة عن هذا الناتج البشع الذى نعيشه مؤخرا، تلك الروائح السامة السرية النفاذة، التى تتصاعد من خزائن شركات البترول والدواء والسلاح ومؤامرات المافيا السياسية وتزييف الإعلام، روائح تتجلى آثارها فى الحروب الاستباقية، والمفاوضات الصورية، والوعود الكاذبة، وقهر الفيتو. تلك الروائح لا يشمها أصحابها، نحن الذين نعرفها، كما نعرف أن كل الروائح النشاز التى تخرج من بعض المارقين يأسا ما هى إلا نتاج هذه الروائح السامة الأخبث والأخطر.
لكن جسد “إيمان الهمص” (13 سنة) الملقى يحتضر تتصاعد منه رائحة خاصة هى مزيج من الطهر والألم والعرق والأمل والكرامة المنغرسة فى طين الأرض المقدسة، لم تمنع هذه الرائحة الزكية ذلك الضابط الإسرائيلى المغلق الحس من أن يفرغ سلاحه الرشاش فى الجسد الطاهر ينتفض استشهادا.
أتساءل: لماذا وكيف تنازلت هذه المخلوقات -هنا وهناك- عن إنسانيتها وأحاسيسها حتى لم يعودوا يستعملون حاسة الشم مثل سائر البشر، مع أنهم مازالوا قادرين على إعلان التقزز من رائحة جثث ضحاياهم؟