نبذة: تعقيب على حكاية (وكتاب) نهاية التاريخ لفوكوياما، لا توجد نهاية إلا للبداية، إلا فهو الفناء.
الاهرام: 6-5-2002
نهاية التاريخ أم دورة جديدة !
إن مجرد التأكيد على أن للتاريخ نهاية، ناهيك عن تحديدها لصالح جانب بذاته، هو إعلان عن موقف سلبى من الزمن ومن التطور ومن الإبداع. حين تكون هذه المقولة عنوانا لكتاب يحدد فكر كاتبه فإن الكاتب يصنف نفسه جامدا مغلقا فى موقع وموقف ضد الحياة من حيث المبدأ. هذا ما فعله فوكوياما.
التاريخ ليس له نهاية إلا يوم القيامة، وحتى يوم القيامة يمكن أن يكون نهاية لنوع الإنسان دون غيره، أو حتى نهاية للحياة على الكرة الأرضية دون سائر الأكوان. لقد عرى فوكوياما نفسه وكشف موقفه الجامد من المستقبل ومن جدل النمو. بنفس البله عرى دبليو بوش نفسه ومؤسسة السلطة فى بلده فلم يعد يمكن أن يقبل زعمه بالانحياز إلى الحرية أو العدل أو الحضارة.
لا انهيار أو تفكك الاتحاد السوفيتى هو نهاية التاريخ، ولا انتصار أمريكا المزعوم فى أفغانستان هو نهاية الإرهاب، ولا مجزرة شارون فى جنين هى نهاية التحرير، ولا حرب أكتوبر هى نهاية الحروب. الحياة حركة دائمة ، التغير قانونها، والتطور مسارها، والله سبحانه هو الذى يعلم ويحدد نهايتها وحده. إن اختيار موقف السكون ضد الحركة، والجمود ضد الإبداع، واحتمال الانقراض ضد التطور هو ما ينبغى أن ننتبه إليه ونحن نصنف الناس والشعوب والسلطات وأنواع التفكير وجمود التدين الخطأ. إن نبينا الكريم عليه الصلاة والسلام حين كــلف أن يبلغ الناس أنه خاتم الأنبياء كان يبلغهم نهاية النبوات لا نهاية التاريخ . يفسر فيلسوف وشاعر الإسلام محمد إقبال هذا البلاغ بختم النبوة بأنه تكليف من الله سبحانه وتعالى للناس أن يتولوا أمورهم بعد ذلك بأن يتعهدوا رسالاته الكافية لتعمير الأرض ونفع الناس بما يستلهموه منها مجددا باستمرار. يقول إقبال إنه تنبيه للإنسان بعد ختم النبوات ألا ينتظر وحيا جديدا من السماء وأن عليه أن يفجر الإبداع من فطرته ومعرفته وخبراته القادرة على استلهام النصوص المقدسة بما يعمر، وينفع، ويضيف، ويبتكر.
فى كتابى ‘حكمة المجانين’ قول ينبه أننا :’ لسنا فى حاجة إلى دين جديد، لكننا فى حاجة إلى ملايين الأنبياء’. هذا ما وصلنى من خبرتى مع أساتذتى المرضي. فهمت من خلال ذلك أننا نعيش عصرا رائعا يسمح للبشر أن ينهجوا نهج الأنبياء إبداعا دون أن يضطروا إلى أن يدعوا النبوة أو أن يجنوا.
لقد فرح فوكوياما ومن يمثله بانهيار الاتحاد السوفيتى وكأن هذا الانهيار هو إثبات لصحة نقيضه. هو لم ينتبه أن انهيار نظام ما لا يعنى بالضرورة انهيار النظرية التى فشل هذا النظام فى تطبيقها، وبالتالى فهو لا يثبت صحة عكس هذه النظرية. كان الأولى به، كما هو الأولى بنا، أن نتدارس أسباب الانهيار الحقيقية لنتقيها، ليس فقط على مستوى قطر بذاته أو مجموعة شعوب، وإنما على مستوى البشرية كافة. إن الحديث عن التهديد بالاضمحلال فى التاريخ الغربى (وقد ألم به كتاب أرثر هيرمان بهذا الاسم – ترجمة طلعت الشايب فى المشروع القومى للترجمة – شكرا د. جابر عصفور) هو حديث قديم ممتد، وكان أولى بفوكوياما ومن إليه ممن يصنفونا أشرارا أن يرجعوا إليه قبل أن يتورطوا فى هذا الخطأ الفادح.
الفرحة بهزيمة الخصم فالإسراع بالتحيز إلى الفائز هو تصرف بدائى ليس له عمر. يعبر عن ذلك مثلنا الشائع ‘الناس مع الرايجة’ كما يعبر عنه شعرنا العربى ‘تحالف الناس والزمان، فحيث كان الزمان كانوا’. إن أمريكا الآن (ربما دون، أو قبل سائر الغرب) تمر بمرحة تنذر بأفولها على الرغم من اجتهاد المبدعين الشرفاء بها فى محاولة الحيلولة دون ذلك. إنها تعانى من نفس الأمراض التى هيرت الاتحاد السوفيتي: الافتقار إلى المصداقية و التباعد بين النظرية (الحرية وقود الإنتاج وغذاء الإبداع) والتطبيق (الديمقراطية وسيلة الخداع، والإعلام تزييف للواقع، والإعلان ينفى الموضوعية..إلخ)
إن المواجهة الدائرة على أوسع نطاق عبر العالم ليست صداما بين حضارات محددة جغرافيا، أو دينيا، أو تاريخيا، وإنما هى مأزق إنسانى شامل.
لا يصح الآن – وربما قبلا – الحديث عن حضارة غربية وحضارة شرقية، أو حضارة إسلامية وحضارة مادية. هذا التحديد إن جاز تأريخا فهو لا يجوز الآن بعد التقنيات الحديثة وانفتاح العالم على بعضه البعض. لا يصح الحديث إلا عن حضارة إنسانية واحدة متصلة، وقد تجلت تاريخا هنا ثم هناك، وهكذا.
الجارى الآن – بدءا من فلسطين- يقول إن إنسانا آخر يولد من جديد. إن نظريات النمو للفرد ترفض فكرة التقدم الخطى المضطرد وترسم النمو فى دورات دائمة لا تتكرر وإنما تستوعب لاحقتها سابقتها لتحتويها، كذلك تاريخ الأمم و الحياة.
لقد بدأ الفلسطينيون دورة جديدة فى تاريخ الإنسان والحياة. علينا أن نتعلم منها قيما جديد عن الموت، والناس، والعدل، والجمال، قيما غير التى تروج لها شركات السلاح والدواء، والإعلان، والإعلام المزيف.
على من ينتمى إلى الحركة دون الجمود، إلى الإبداع دون التكرار، إلى الإيمان دون التسليم شبه التديني، إلى العدل دون أوهام التفوق العنصري. أن ينضم إلينا.