نشرة”الإنسان والتطور”
3-6-2010
السنة الثالثة
العدد: 1007
الحلقة السادسة والعشرون
2/2/1995
تأكد لى فى رمضان، أكثر مما هو فى غير رمضان، أن جماعة الحرافيش، إن كان لها أن تستمر لم يعودوا إلا تاريخا، بل خطر لى أنه لابد أن يُضخ بها دم جديد بشكل ما، تجلت لى هذه الحاجة الليلة بشكل لحوح، فمن ناحية بدأ اللقاء فى السابعة والنصف (وليس فى السادسة، وهذا أمر نادر بالنسبة لطبع الأستاذ وما عودنا إياه، ومن ناحية أخرى اعتذر أحمد مظهر، وكلمنى توفيق صالح أنه سوف يلحق بنا حيث نحن، لأن عنده ضيوف بالمنزل ولن يغادروا إلا بعد الموعد، ولم أكن أعرف بعد أى بديل – للجزء الثانى من اللقاء- لمنزل توفيق صالح بعد جلسة فندق الهرم، لو أن ظروفه التى جعلته يتأخر ليلحقنا، طالت وغاب بقية الليلة، وقد خيل إلىّ أن توفيق يفضل أن يكون الاجتماع فى شهر رمضان خارج منزله، لا أعرف من أين جاءنى هذا الشعور ، ضربت لخمة، فأنا حرفوش لم يثبّتْ (ظهورات)، دخل مدرسة الحرافيش بعد إغلاقها فى الأغلب، أو كما قلت سابقا: أنا لاعب احتياطى، استُدعى لدخول الملعب فى الوقت بدل الضائع، ولا أعرف مكانا بديلا عن بيت توفيق نقضى فيه الجزء الثانى من السهرة، ولا أحفظ طقوسا حرفوشية تساعدنى على حسن الاختيار، كلمت توفيق هاتفيا وأبلغته أننى والأستاذ نفتقده، وأننى عرضت على الأستاذ أن نحضر نحن إليه من الفندق بدلا من أن يكلف خاطره للحاق بنا ولم يبق لنا إلا دقائق، خاصة وقد بدأنا متأخرين الليلة، قلت لتوفيق أنه بذلك يوفر نصف ساعة على الأقل يمكن أن يمضيها مع ضيوفه، فأخبرنى أنه غير متأكد متى ينتهى هذا الالتزام العائلى أو الاجتماعى.
فى الطريق إلى الفندق سألت الأستاذ عن بقية الحرافيش، قال لم يبق إلا بهجت عثمان وهو فى لبنان الآن، وجميل شفيق، ثم أحمد مظهر وتوفيق صالح كما تعلم، ثم أضاف أنه “حتى قبل الحادث، كان لقاء الحرافيش كثيرا ما يكون قاصرا علىّ وعلى توفيق”، فسألته من جديد عن بعض الأسماء ، فأجابنى بمن أعرف مثل عادل كامل ومحمد عفيفى، لكنه اضاف أيضا: ثروت أباظة و لويس عوض ، وصلاح جاهين ومصطفى محمود، وتعجبت – لست أدرى لماذا- عند سماع اسمى ثروت أباظة ولويس عوض، وكنت قد عرفت من قبل علاقة الأستاذ العاطفية بثروت أباظة، ولم أجرؤ أن أكرر إعلان عدم حبى له بعد أن عرفت كم يكن له الاستاذ من معزة خاصة وامتنان، لكننى تعجبت أيضا من أن يكون لويس عوض حرفوشا، أما مصطفى محمود، فجائز، وحين سألت الأستاذ عن عمر حرفشة مصطفى محمود، قال “إنه لم يطوّل معنا إذ سرعان ما أصابه هوس الفلك والدروشة”، لا أذكر بدقة إن كان الاستاذ قد أضاف ذكر أسماء أخرى أم لا، ربما جورج البهجورى مثلا، إذن لم تكن جلسة الحرافيش الأصلية مغلقة تماما كما تصورت، وصورت.
كنت قد سألته ونحن نغادر المنزل فى طريقنا إلى الفندق: هل نمر على “بتاع السودانى،” فأشاح بيده وقال: “سودانى ماذا، إن السودانى لزوم الأكل عند توفيق، ونحن فى رمضان والنظام لا يسمح” قالها وكأنه كان يتناول أكثر من “سودانياية” كما ذكرت أو اثنتين”
سمعت هاجسا فى نفسى يقول: هذه الليلة ” ليست هي”.
كنت قد أعددت أستراحة خاصة تصلح لجلستنا معاً فوق المستشفى بالمقطم، وقد فرحت بها لأنها تطل على القاهرة من أعلى الجبل، فتبدو الأضواء المتناثرة وكأنها نجوم هبطت تحييى أرض العاصمة وهى تقرص أذنها لاتساخ ثوبها الناصع بكل هذه الأتربة العالقة، فقررت أن نجرب أن نمضى النصف الثانى من لقاء الليلة فيها، لكن يبدو أن خيالى الذى صوّر لى أن الأستاذ سوف يسر بهذه الاستراحة، وهذا المنظر قد نسى أن نظر الأستاذ لم يعد يسمح له بالرؤية أبعد من بضعة امتار دون تمييز، حين انتبهت إلى ذلك لم أتراجع، ولو لليلة واحدة ثم نرى.
رحت أنظر ونحن فى مطلع المقطم إلى منظر القلعة عند انحناءة المطلع، وهو منظر رأيته مئات المرات، لكننى شعرت هذه المرة أننى أنظر بالأصاله عن نفسى وبالنيابة عن الأستاذ، وحضرنى التقليد الجميل حين يحج الإبن أو يعتمر نيابة عن والده لمرضه أو بعد رحيله، رأيت المنظر هذه المرة لحساب الأستاذ، وكأننى أعيره عينىّ، فبدا لى أجمل وأسطع،
كنا أيضا هذه الليلة نحن الثلاثة فقط كما هو الحال فى أغلب لقاءات الحرافيش، فقد هاتفت توفيق أن يلحقنا وقد كان، حسبت أن الوقت لن يمر، وأن المواضيع سوف تنضب، لكن أبدا، إن حضور الأستاذ بانتباهه واقترابه اليقظ من الناس، كل الناس، مهما كانت النقلة جديدة، يجعل الحياة تنبض بحضوره المشع، وكأنه يعكس على الناس ما يُحْييهمْ – عدت أسأل توفيق صالح عن كيف آل حال الحرافيش إلى ما هو عليه حتى قبل الحادث، وجاء ذكر مظهر، وخوفه من المصعد فى عمارة توفيق، وتعلله بذلك الذى لم يقنعنى أبدا، ثم عرج الحديث إلى عزلة مظهر وشغفه بها وضيقه منها فى آن، وكيف أنه تنازل عن شقته الخاصة لابنته حديثا، وهو له ولد متيسر وثلاث بنات، وأنه طلق زوجته منذ زمن، ومع ذلك كلما ألمت به ضائقة أو احتاج لرعاية فإنه لا يلجأ إلا إليها وهى لا تتأخر، ونبهنى توفيق صالح إلى ما قاله لى مظهر وهو يستعمل تعبير “أم الأولاد”، وتحدثت مع الأستاذ عن وحدة المبدع وأهمية أن يكون له “ركنه” الخاص، ركنه المادى وركنه النفسى فى نفس الوقت، وأن المبدع كل مبدع، لابد أن يشعر أن قوقعته هى فى متناوله فى أى وقت، وأنه وحده القادر على الدخول فيها والخروج منها بإرادة واعية مستقلة، وبقدر علاقته الحميمة بالناس إبداعاُ، فالمبدع يحتاج أن يشعر باستمرار بقدرته على، وحقه فى، الانسحاب إلى ركنه بعيدا عنهم ولو قليلا وقتما يريد، هز الأستاذ رأسه تلك الهزة التى لا تعلن الموافقة ولا ترفض الرأى ولكنها جزء من عملية التفكير المقدر، رد توفيق صالح أن ذلك قد يصلح لغير الممثل، فنوع الإبداع للممثل يحتاج إلى توثيق متصل لعلاقاته بالناس طول الوقت، نبهت توفيق إلى إن إشكالة الممثل كمبدع هى إشكالة مختلفة، ففى الوقت الذى هو يعيد نصـا لم يكتبه، وينفذ تعليمات آخر (هو المخرج)، حتى فيما يتعلق بكل التفاصيل، نجده -إذا كان مبدعا- يخلق دوره خلقا حقيقيا، مع أنه ليس سيد الموقف تماما، إلا أنه فى نفس الوقت هو الذى يتصدر واجهة العمل، وهو الذى يلام على الفتور أو التسطيح أو غير ذلك، ثم أضفتُ إننى أشفق على الممثل المبدع أكثر من أى مبدع آخر، وحين أتقمصه أرعب رعبا حقيقيا، ولا أتصور كيف يستطيع أن يقف ممثل المسرح مثلا على خشبة المسرح أربع ساعات كل ليلة يعيد نفس الكلام، وأذكر كيف تناول جان بول سارتر مأساة الممثل فى مسرحيته “الممثل كين”، ويوافق الأستاذ موافقته المحدودة، وكذلك توفيق، ويتدخل الأستاذ متعجبا من عادل إمام – مثلا- الذى تستمر مسرحيته سبع سنوات، وأقول إننى كأستاذ بالجامعة لا أستطيع أن أعيد نفس المحاضرة، فى العام التالى مهما كانت فى نفس الموضوع، ولذلك فأنا دائما أحاول أن أختار أن أحاضر فى فرع دقيق جديد كل عام، ما أمكن ذلك، فإذا اضطررت لتدريس نفس المقرر فإننى أدرسه بطريقة أخرى وربما محتوى آخر، ثم أضفت أننى لا أفخر بذلك، فالإعادة الراتبة لها ميزاتها الرائعة، لكن المسألة تتعلق بقلقى من الرتابة، وخوفى من التكرار.
ثم نرجع إلى موضوع العزلة الإرادية، وحركة الذهاب والعودة فى الناس وبينهم، ويعلق الأستاذ على أماكنى الخاصة التى زارها معي، وكان قد علم فى استراحتى فى المنوات أننى أمضيت ست سنوات فيها مستقلا، وأننى أنتجت أهم إنتاجى فى هذه السنوات الست، وأن ذلك كان على حساب زوجتى وأولادي، فاكتفيت أخيرا بأن يكون لى سكنى الخاص تحتهم وفى متناولهم، ولكنه سكن مستقل أيضا، فيقول الأستاذ أنه معجب بطريقة بناء وتنظيم وتأثيث أماكنى التى زارنى فيها، وأنها تدل بشكل أو بآخر على شخصيتي، فشقتى الخاصة الكائنة فى الدور الأول تحت شقة الأولاد، بفرشها العربى والحديقة الصغيرة، ثم استراحة المنوات، ثم هذا الركن الهاديء فوق المستشفى أعلى القاهرة، كل منها يشير إلى جانب من جوانب وجودى ونشاطي، ويضيف الأستاذ وأنا لا أخفى فرحتى بملاحظاته قائلا “فهذا للتأمل، وذاك للفيلسوف، وهذا للأديب، وذاك للمفكر” ولم يذكر أى ركن للطبيب ضمن ذلك، فارتحت، لست أدرى لماذا، ربما لأن الطبيب لا يحتاج إلى خصوصية مكانية ليمارس مهنته منها وفيها!! – وقد كنت وأنا أتابعه مغتطبطا أنه يتكلم عنى بعد هذه المدة القصيرة، كما كنت أتعجب كيف ألتقط تفاصيل كل مكان هكذا، والأهم روح المكان التى سمحت له بمثل هذا التعليق التفصيلى. ربنا يخليه!
يبدأ توفيق صالح فى تلخيص مقال ظهر New Yorker ويقدمه توفيق بأنه يقع فى سبعة عشر صفحة، وأن كتابته استغرقت من صاحبته ستة أشهر من البحث والحوار، وتضمن الحوار مقابلات كثيرة مع ”الجماعات”، وزيارات لامبابة (معقلهم السابق)، ومقابلة مع حسنى مبارك، ومع عمر عبد الرحمن، ومع توفيق صالح، وآخرين من أصدقاء الأستاذ، ويمثِّل المقال موقف الأمريكى المتفرج (وأحيانا المنشق، هذا حسب استقبالي)، لكنه مقال جامع أتقن استعمال أدوات الصحافة ومتطلباتها وحبكتها وإتقانها، وينحى المقال باللوم على موقف حسنى مبارك الذى يبدو على حسب رأى المحررة: أنه ليس عنده فكرة عن حقيقة وعمق مايجرى من ناحية، كما أن سياسته هى السبب من ناحية أخرى، ثم يذكر توفيق لقاء المحررة مع د. عمر عبد الرحمن فى سجنه، وأن د. عمر قال لها إنه لم يفْتِ بقتل نجيب محفوظ، وأن المفروض أن السلطات الدينية فى مصر كانت تستدعيه للمناقشة، فإذا اثبت أنه جـدف أو ارتد فإنه يستتاب، فإذا تاب فليس عليه ذنب، وإلا أقيم عليه الحد، ويضيف د. عمر عبد الرحمن فى المقال أن كل ما قاله هو أنه: لو كان نجيب محفوظ قد أوخذ أو عوقب على ما تجرأ عليه وتجاوز به، لما كان سلمان رشدى تجرأ على فعلته، ويعقب الأستاذ أن هذا بالضبط ما وصله من تصريحات عمر عبد الرحمن فى مواقع أخرى، وهو ما نشرته الأنباء الكويتية مثلا فى حينه، ولذلك فإن الأستاذ لم يعتبرها فتوى بإهدار دمه، وإنما اعتبرها رأيا مشروطا، وقد كلمه صبرى الخولى وكان مسئولا عن النشر أو شيئا من هذا القبيل، بشأن نشر أولاد حارتنا، وحدد له ميعادا للمناقشة مع لجنة من الأزهر يوم الاثنين الساعة العاشرة صباحا، وقد ذهب الأستاذ فى الميعاد إلا أن اللجنة لم تحضر ولم تناقش، وقال له صبرى الخولى حين ذاك: أنشرها فى لبنان كما تشاء ولا داعى للنشر هنا تجنبا لمواجهة مع الأزهر، ويسأله توفيق صالح ولـم لـم تذكر ذلك لوسائل الإعلام من قبل؟ فيرد الأستاذ لقد قلت هذه القصة عشرات المرات فى الإذاعة والتليفزيون والصحف ولم يعقب أحد عليها، لا من الأزهر ولا من غيره، وأكمل توفيق تلخيص المقال بما فيه من همز ولمز، وتساءلنا عن توقيت النشر، فقد صدر رأى (وليس فتوي)، عمر عبد الرحمن هذا من سنوات عديدة فما الذى أيقظ الفكرة وخطط للنشر فى هذا الوقت بالذات؟
أعدت على الأستاذ وعلى توفيق ما سبق الإشارة إليه من أن ثمة إشاعة تقول إن الحكومة هى التى دبرت كل ذلك لأنها تعلم شعبية الأستاذ وبالتالى حين يـعتدى عليه فإن ملايين الناس سوف تثار حفيظتها ضد الجماعات، وتأخذ الإشاعة شكلين أولهما مبالغ فيه: وهو أن الحادث لم يحدث أصلا، وأنها كلها تمثيلية مصنوعة مع مستشفى الشرطة والجراحين ونحن بالمرّة، وحين ذكرت ذلك للدكتور سامح همام الذى أجرى العملية، ضحك معقبا أنه بذلك قد تحول إلى ممثل، فقام بأداء دوره بفتح رقبة الأستاذ وربط شريانه ورض أعصاب أحباله الصوتيه حتى ببح صوته، كما قام – تمثيلا- بإتلاف أعصاب ذراعه ويده ليتقن دوره، وضحك د.سامح (كنت أحكى للأستاذ وتوفيق)، أما التفسير الآخر لتدخل الحكومة – وهو من عندى- فهو أن الحكومة اخترقت الجماعات بعميل من المباحث أو المخابرات، وهذا العميل هو الذى حدد التوقيت ورسم التخطيط،
لكن النقاش انتهى إلى قبول تفسير أبسط من كل ذلك وهو الأقرب للحقيقة فهؤلاء الشبان الصغار ليس عندهم فكرة عن ”حسن التوقيت” أو حتى عن “اختيار أداة القتل” أو مكانه فى إطار خطة عامة، وهم كانوا بعد فى سن الصبية فنفدوا ما فهموه من رأى د. عمر عبد الرحمن على أنه فتوى فكان ما كان، فعقب الأستاذ: أنا حين قلت لرجال المباحث الذين عرضوا علىّ الحراسة بعد تصريح د. عمر عبد الرحمن إن هذا رأى وليس فتوى أجابوني، هذا كلامك وفهمك أنت ولكن من يضمن كيف سيفهمها هؤلاء الشبان، ولعل عدم الفهم هذا هو الذى حدد التوقيت والتخطيط، ثم إن مثل هذه النظرية تظهر عادة بعد أى حادث بالبحث عن المستفيد منه، وعادة ما يتصور الناس أن المستفيد لابد أن يكون هو المتسبب: حدث هذا مع مقتل السردارمثلا. فأضفت من جانبي، وربما هذا أيضا ما حدث وهم يفسرون حرب الخليج بعد مقابلة سفيرة أمريكا فى بغداد، بأنها هى التى أعطت الضوء الأخضر للحرب، قال الأستاذ تعقيبا على كل ذلك وهو يشير إلى هؤلاء الشباب: بصراحة إنهم طوال هذه السنوات كان يمكن أن ينفذوا خطتهم بأبسط الطرق وأحكمها فقد كانت خروجاتى محسوبة بالثانية، ومجلسى وأنا وحدى معروف، ومواعيدى محددة، كنت أجلس مثلا فى قهوة “على بابا” بجوار النافذة، ويتقدم لى شاب لا أعرفه ولا أكاد أميزه يطلب منى أن أتوسط له ليحصل على شقة فى مساكن كذا، وكأنى أعرف المسئولين، فأعتذر له أو أفهمه أو أعده أن أفعل ما يمكننى إن اتيحت الفرصة، وكان فى مقدور مثل هذا الشاب -لو أراد- أن يفعل بى ما شاء كيف شاء، ولكنها إرادة الله.
عاد توفيق إلى المقال وأشار إلى تركيز الرئيس حسب رأى المجلة على الحل الاقتصادى لاصلاح أحوال الناس، والحل الأمنى للقضاء على الإرهاب، وترى المحررة أن الرئيس لا يعرف ما يجرى فى الشارع على حقيقته، وقد كررت رأيى فى أن إدارة البلاد تدور أغلبها فى المكاتب وبين الأوراق، وليست فى الشارع وبين الناس، وأنه ما لم يتدارك المسئولون الأمر، فالأمور تسير فى مسار خطير.
جاء ذكر “تحسين بشير” من جديد ونقلت رأيه فى أن موقف الأزهر كمؤسسة رسمية هو مسئول عن كل هذا الفكر الجامد، وكذا الفكر المتشنج، والمتفجر، وأن كل (أو أغلب) قادة الجماعات فى كل البلاد المحيطة هم من خريجى الأزهر، من أول البشير فى السودان حتى قادة الإنقاذ فى الجزائر، حتى الأردن، واستحسن الأستاذ هذا الرأى بطريقته، لكنه أضاف أن المسألة ليست مسئولية الأزهر، بقدر ما تبدو أنها مسئولية من أعطى للأزهر دورا فى الإفتاء فى مسائل ليست من اختصاصه فى المقام الأول، وأنحى باللوم على السادات فى هذا الشأن، لكن التفسير امتد إلى ما قبل السادات، ربما منذ أن استعمل جمال عبد الناصر بعد 1967 مباشرة اللغة الدينية، وكأنه يعلن التوبة والرجوع إلى الدين (وليس بالضرورة إلى الله).
يسألنى توفيق صالح هل شاهدت فيلميه اللذين أعطاهما لى فى الفيديو “يوميات نائب فى الأرياف” والمخدوعون فاقول له إننى شاهدت بعض أجزاء الفيلم الأول، ولم أكمله وهذا تقصير منى لاننى تعودت بعد عودتى من العيادة أن أفتح التليفزيون أأتنس به، دون تحديد موضوع بذاته، مجرد شخوص ملونة تتحرك، وأحيانا بدون صوت، وأنى أنام بعد خمس دقائق قبل أن ألاحظ ما يعرض، وقد خجلت أن أقول له أننى نمت بعد أقل من نصف ساعة وأنا اشاهد فيلم يوميات نائب فى الأرياف، لكننى عقبت لأؤكد حسن نيتى بأن سألت توفيق عن الممثل الأول أحمد عبد الحليم فقال لى أنه سافر للكويت، ثم أضفت أيضا أن الممثلة دورها قصير جدا كأنها “كومبارس” رغم تعبير عيونها الرائع، فيقول توفيق أن هذا الدور هو الدور الوحيد الذى قامت به هذه الفتاة واسمها راوية، فقلت له إن عينها كان فيهما كل شىء برغم ثبات جلستها معظم الوقت، وهو ما لم أره فى ممثلة أخرى أبدا، وحكى لنا توفيق كيف كان يبحث عن فتاة حول السادسة عشرة وأن شرطه الوحيد كان فى قدرة تعبير عينيها، وأنهم حين عرضوها عليه وكانت أخت الطفلة التى تؤدى بعض الأدوار فى برنامج بابا شاروا قال “هذه هى”، لكن آسيا (المنتجة)، لم توافق، وحتى زوجته (زوجة توفيق) لم توافق، ولكنه ظل مصرا عليها حتى صور لها اللقطة الأولى على أنها اختبارTest، مع أنه كان واثقا أنها من أصل الفيلم وفعلا دخلت اللقطة الإختبار باعتبارها الممثلة المختارة.
ثم عرجنا إلى الحديث عن فيلم “المخدوعون”، وأبديت إعجابى به بلا حدود وقال لى توفيق بعض ظروف انتاجه، ومغزاه السياسي، وكيف أنه أبكى الكثيرين حين عرض، وقد أبديت تحفظى بصفة عامة على المسرح السياسى والفيلم السياسي، وقلت إننى أشعر أحيانا أن مثل هذا الفيلم السياسى يوهم الناس أنهم بمشاهدته يشتغلون السياسية وفى الحقيقة هى سياسة تفريغية بديلة “كده وكده”، وضربت مثلا فيلم “زد” لكن توفيق نبهنى أن فيلم زد هو فيلم بوليسى له محتوى سياسى وليس فيلما سياسيا ثم تطور الكلام إلى دور الفن وعلاقته بالثورة، وأقول للأستاذ أنه مرت علىّ فترة لا تقل عن سنوات فى السبعينات، كنت أعتبر أن الفن إجهاض للثورة وأنه تفريغ لشحنة كان ينبغى أن نحافظ عليها لنثور بها، ولكننى اكتشفت فيما بعد، وخاصة بعد أن ضبطت نفسى متلبسا بأفكار أقرب إلى شطح هتلر وجوبلر، اكتشفت أن المسألة ليست هكذا بهذه البساطة، وأن الإنسان – والشعب- لا يستطيع أن يكون ثائرا طول الوقت، وأن الفن يحرك الناس ويكثف الوعى حتى تصل قوة الدفع ووضوح الرؤية إلى عتبة الثورة، فى محيط مناسب فى وقت مناسب، فتقوم الثورة، ثم يبدأ ملءٌُ جديد للوعى الجماعى، ثم تقليب جديد، ثم تحريك جديد وتكثيف جديد فنبضة ثورية أخرى، وهكذا، ورحت أضيف للأستاذ أن ما وصلنى من توقفه عن الكتابة بعد 52 بأن الثورة قد استوعبت كل طاقته الإبداعية، وأن هذا من ضمن مضاعفات تحقيق الثورات على أرض الواقع، لكنه حين تبينت له طبيعة الثورة وحدودها، ومدى بعدها عن الناس وقصورها النظرى والتطبيقى معا، عاد الدفع الإبداعى يدفع الأستاذ من جديد ليقوم بدوره، وأنهيت حديثى أننى تعلمت من الواقع المـر دور الفن التحضيرى للثورات، وعقب توفيق صالح على أن كلامى وتحفظى قد يشير إلى دور الفن التفريغى الذى قال به أرسطو، فتحفظتُُ على فكرة توظيف الفن فى التفريغ أصلا، أو ما يسمى التطهير، وقلت إن دور الفن هو التحريك لا التفريغ، وهو تحريك لإعادة النظر، وترتيب الوعى لخلق موقف جديد، ووافقانى الأستاذ وتوفيق، فمضيت أقول: إن الفن يضيف إلى وعى الناس ما يسمح بإعادة تشكيله، والفن الذى لا أخرج منه بشىء جديد مهما ضؤل، وحتى دون وعى مباشر، يصبح فنا زائفا أو قاصرا عن أداء دوره.
نظرنا فى الساعة فإذا بها الحادية عشر، أهكذا؟
إذن فالحرافيش مازالوا موجودين مهما قل العدد أو تغير المكان.
قال الاستاذ قبيل الانصراف إن أمرا يشغله ويريد له حلا، وحين يقول الاستاذ مثل ذلك أستعد بكل ما أملك من حب وإنصات، قال: يوم الأحد. قلت له: ماله؟ حضرتك الذى طلبت أن نفرغه لك هو والسبت، قال بطيبة الطفل المحجوز فى المنزل بلا مبرر، اكتشفت أن السبت يكفى، قلت له تحت أمرك.
وقررت أن أكون فعلا تحت أمره مهما كان، وهل أنا فى ذلك النهار؟
وبدأت فورا فى التفكير فى خروج ليوم خامس: يوم الأحد.
لكن أثناء خروجنا من المستشفى وأنا أتأبط ذراعه لاحظت نظرات متسائلة بين الزوار، فبلغنى ما فزعتُ منه، إذ خشيت أن تفهم زيارة المستشفى هكذا بأن الأستاذ يتلقى علاجا ما، فقررت لفورى ألا يدخل المستشفى ثانية مهما نادانا الركن الأعلى الذى أعددته له.
وقد كان
ولم نعد إلى هذا المكان ثانية أبداً.