نشرة “الإنسان والتطور”
الأحد : 8-1-2017
السنة العاشرة
العدد: 3418
الطبنفسى الإيقاعحيوى التطورى (144)
نحو تخطيط النفسمراضية التركيبية: حقائق وفروض
(كل الأمخاخ إيجابية ولها دورها : هنا والآن !!) (2)
مقدمة:
لعل النقلة الأخيرة فى هذه الفروض وذاك التنظير تقرّبنا، إذا تغلبنا عن الأحجية اللغوية فى استعمال كلمة مخ، لعلها تقربنا أكثر من مهمتنا الأساسية فى الاستفادة من هذه الفروض لصالح العلاج: فعلا يوميا له نتائج ملموسة فى إطار ما ندعو إليه من احترام ثقافتنا المنغرسة فى مرضانا قبلنا، هذه النقلة الأخيرة زادت من اهتمامنا بما يسمى الأمخاخ، بما تعنيه من أنها: “منظومات الوعى الفاعلة النابضة المشاركة، إذْ لم تعد مهمتنا قاصرة على البحث عن منظومات الوعى المختلـّة، والمفككة، والمنحرفة، وإنما امتدت إلى ضرورة النظر فى منظومات الوعى (الأمخاخ) الفاعلة، والتكيفية، والإبداعية الخلاقة ، والتى لا بد أن يتجه العلاج إلى هدف دعمها على حساب المعيقات والتشتت، وبهذا فإن تخطيط النفسمراضية تركيبيا ينبغى أن يشمل قراءة كل ذلك معا، الآن، وقبل ذلك (من واقع تاريخ المريض السابق الممتد إلى تاريخ الأسرة، وما قبلها إن أمكن).
لا يحتاج الأمر إلى التذكرة بأن ما يسمى التكيف الاجتماعى، والذى يقاس بمقاييس سلوكية محكمة،هو أيضا نتيجة نشاط منظومة وعى متسقة هادفة فاعلة، وقد كان هذا من أهم ما أضيف عندي إلى منظومات الوعى السالفة الذكر، فوجب الحديث عن “المخ الاجتماعى” بما يستحق، أما التعرف على “المخ الجدلى الجامع الإبداعى” فهو أمر أكثر صعوبة، مع أنه أقرب إلى قوانين التطور، وقواعد الإيقاعحيوى، فبدون هذا الجدل الضام الخلاّق لم يكن من الممكن أن تتواصل عجلة التطور هذه البلايين من السنين بفضل الله.
مزيد من التوضيح:
الذى يزيد الامور صعوبة، هو أن على من يريد أن يمارس ما ندعو إليه، ونحن نتكلم عن الوعى البينشخصى، فالجمعى، كعامل علاجى جوهرى، أن ينتبه (طبيبا كان أو معالجا) إلى منظومات وعيه هو أيضا، ما دام التفاعل العلاجى، والأثر العلاجى لا يتحققان إلا من خلال هذه العلاقة، مستعملين كل الوسائل والمعلومات المساعدة الأخرى.
قبل أن أواصل اليوم رحت أراجع نشرة أمس فوجدت أن الأمور تحتاح إلى بعض الإيضاحات قبل الانطلاق إلى توصيات التطبيق تحديدا
أولا: إن كل هذه المنظومات (الأمخاخ) هى كيانات إيجابية بغض النظر عن اسمها، أو عن دورها النشاز إذا انفصلت عن الكل، فالمخ البدائى الارتدادى ليس سلبيا إلا إذا انفصل عن جمّاع منظومات الوعى الأخرى، واستولى على الطاقة الحيوية لصالح الانسحاب والنكوص، أما إذا تناوب مع سائر الأمخاخ فى دوره المناسب فى دورات الإيقاعحيوى، فهو منظومة إيجابية تشارك فى برامج الإيقاع، ومن ثـَمَّ برامج النمو، فمثلا: هو يمثل ذراع الدخول فى دورة برنامج “الدخول والخروج”، in-and-out program، وهى دورة ضرورية للحفاظ على حركية نبض النمو المرتبطة تماما بفاعلية الإيقاعحيوى، بل إن النوم نفسه يمكن أن يُعزى إلى نشاط هذا المخ فى دورة الإيقاع اليوماوى، فالنوم موت صحّى وبعث واعد (اللهمَّ إن قبضتَ نفسى فاغفر لها، وإن أرسلتَها فاحفظْها …إلخ).
ثانيا: إن المخ القـِتالى له دوره الإيجابى فى الحفاظ على الحياة، بدءا بما ذكرناه من أن نشاطه قد يكون دفاعا ضد نشاط أكثر نكوصا، وأخطر تفكيكا، (نشاط المخ البدائى الارتدادى) وأيضا فإن ارتباطه بإيجابيات غريزة العدوان فى دورها فى القيام بتفكيك القديم تمهيدا لإعادة تشكيله جديدا فى دورات الإبداع المناسبة (1)، كل ذلك يحدد معنى الدعوة لأن تكون علاقتنا بكل منظومات الوعى هذه (الأمخاخ) علاقة قبول نتعامل معها بمحاولات الفهم فالاحتواء، وليس بالمبادرة برفضها من أساسها، إننا لا نرفض منها إلا نشازها عن الهارمونية الكلية، ومضاعفات انفصالها، واستحواذها على الطاقة الحيوية لغير صالح دفع عجلة الحياة والنمو والتطور.
ثالثا: فإذا انتقلنا إلى تقييمنا لنشاط المخ العلاقاتى فقد بلغ رفضى لما ذهبتْ إليه مدرسة العلاقة بالموضوع مبلغا فصـّلته فى كثير من النشرات السابقة، آخرها نشرة أمس، ذلك أننى أتعامل مع هذا المخ (لا الموقع) بترحيب خاص، وتقدير موضوعى بصفته الطور المميـِّز لنقلة الإنسان تطوريا، فالإنسان قد وقف على قمة هرم التطورليس فقط باكتسابه “المخ الاجتماعى”، وإنما أساسا بقدرته على التواصل الموضوعى مع “آخر” بكل ما يترتب عليه ذلك من إيجابيات محتملة، وما يصاحبه من آلام منتظرة، وربما هذه الصعوبة بما تصاحبه من معاناة هى ما دعت ميلاني كلاين لاعتباره “موقفا اكتئابيا” حتى أرجعته إلى شعور بالذنب لقتل ألام (مصدر الحب والحياة !)، (وقد فصّلتُ ذلك أمس ولا داعى لتكراره).
فقط أنبه هنا إلى أن دور هذا المخ (هذا الطور النشط) هو مفترقىّ أيضا، ففى حين أنه يمكن أن تصل الصعوبة والمعاناة فيه لدرجة أن يتولد منها اكتئاب حيوى مؤلم يصل إلى لدرجة الإعاقة فالحاجة إلى العلاج، إلا أن استيعابه، بالعلاج أو بمواصلة نبض النمو إنما يسمح بتخليق المرحلة التالية التى لها أكثر من مسار، أوضحها هو “المخ الاجتماعى التكيفى”.
رابعا: يتخلّق المخ الاجتماعى التكيفى من خلال النجاح فى التكيف مع الآخر (الآخرين) بأقل قدر من المعاناة نتيجة استعمال دفاعات تكيـّفية ناجحة هى التى تحقق استمرار الحياة الاجتماعية الإنسانية بقدر مناسب من الإيجابية، وهذا أيضا راجع إلى مرحلة تطور الإنسان التى نجح فيها أن يصبح كائنا اجتماعيا ، ينظم المجتمعات والدول، بل ويقيم الحضارات ويدفع التقدم.
على أن المبالغة فى تقييم إيجابية هذا الموقف لا بد أن يكون لها حدود، لأن فرط الحرص على التكيف قد يصل بالشخص إلى درحة الامتثالconformity ، الأمر الذى قد يعيق حركية النمو، وهذا فى ذاته ليس مرضا (اللهم إلا ببعض المبالغة ووصفه كاحد صور اضطراب الشخصية)، أما التطور العادى فى حدود استعمال ميكانزمات التكيف المناسبة، فينبغى أن يـُقبل دون حماس شديد، ففى كثير من الأحياان تصل المبالغة فى فرض هذه الميكانزمات إلى نوع من الاغتراب الذى قد يدفع أحد مستويات الوعى الأقدم (الأمخاخ) إلى الرفض حتى المرض، من هنا ينبغى أن يكون حرص المعالج على قبول هذا الطور باعتباره “طورا” لا نهاية المطاف، ومن هنا أيضا نرجع إلى التوصية بأن علينا أن نتعامل مع كل مستويات الوعى بما يحقق كلا من التوازن المرحلى، وفى نفس الوقت الحفاظ على استمرار النبض النمائى، والإيقاعحيوى الطبيعى
خامسا: إن الفرق بين احترام وقبول كل مستويات الوعى، ومحاولة التوفيق بينها تناوبا أساسا، وجدلا وتخليقا ما أمكن ذلك، وبين البدء بوصم بعضها وصفا سلبيا وكأن المطلوب هو التخلص من هذا المستوى من الوعى (المخ) يكاد يكون هو الفرق الجوهرى بين الطبنفسى التقليدى، والطبنفسى الإيقاعحيوى التطورى، ذلك أن هذا القبول، والمشاركة ، ومحاولة التنسيق بين كل الأمخاخ بالتأهيل والعقاقير الانتقائية المؤقتة، هو ما يدعو إليه الطبنفسى الإيقاعحيوى، وهو فى ممارستنا أمر ممكن، بل لعله يكون أسهل من مجرد محاولة التخلص من أى سلوك شاذ باعتباره سلبيا على طول الخط، لا بد من قمعه طول الوقت.
سادسا: المهة الأصعب، والتى ينبغى أن توضع كنيتجة طبيعية للعلاج النمائى المناسب، وليست كهدف أولى أو حتمى، هى الإسهام فى مواصلة تخليق المخ التكاملى فى عملية لا تتوقف، ولا تكتمل، فهى عملية تخليق لمستوى من الوعى قادر على التكامل مع كل هذه المستويات ، مع التناوب والتبادل، هذا المستوى من الوعى الذى يتخلق باستمرار، هو ما وصفناه أمس قائلين إنه : تكاملى يشمل كل الأمخاخ وأنه يتخلق من خلال المشاركة فى الإيقاعحيوى النمائى طول الوقت، وفى نفس الوقت هو مشارك فى الإيقاع الحيوى النمائى باستمرار.
وأضيف اليوم أن هذا قد يتوقف كثيرا على درجة نمو المعالج نفسه، وعلى حركية وعيه، وعلى قدرة مشاركته، ومرة أخرى لا ينبغى أن يكون هدفا مبدئيا، أو مفروضا، وعموما فهو مستوى وعى مرتبط بالتطور أشد الارتباط، وفى نفس الوقت هو مرتبط بثقافتنا الغائرة، من حيث ارتباطه بالوعى المطلق إلى وجه الحق تعالى، وهو – مع أنه فى حالة تخلق دائم- هو الذى حافظ على بقاء كل الأحياء، هذا المخ برغم كل ذلك هو كيان قائم فاعل نابض مبدع طول الوقت.
خاتمة مؤقتة:
العجيب أننى حين اشاهد الطيور والحيوانات من حولى ، أتعجب كيف وصلوا إلى ما وصلتُ إليه بكل ما أتصور أنه اكتشاف غير مسبوق، وصلوا إليه ومارسوه، ونجحوا أن يستمروا بفضله، فبقوا مع من بقى ممن استطاع أن يقاوم الانقراض!!
ويحضرنى أيضا كيف أننى وأنا أمارس العلاج الجمعى ألاحظ أن المرضى، وبعضهم لا يفكون الخط، يعيشون هذه المستويات بالتبادل، ومعا، وبنموٍّ متصل، بدرجة أعجز عن توصيلها إلى طلبتى وزملائى
لكننى أحاول
[1] – انظر: يحيى الرخاوى:“العدوان والإبداع” مجلة الإنسان والتطور الفصلية، عدد يوليو – سنة 1980