الاهرام:11/8/2003
نحن لا نعرف ما هو طفل فينا !!
هاتفتنى ابنتى من استراحة منتصف طريق اسكندرية الصحراوى، وابنها( علي:9 سنوات) بجوارها، هاتفتنى تستنجد بى، أو تحتكم إلى، على مسمع منه، شكت لى أن ابنها رأى كتابا بالانجليزية، ويريد شراءه، مع أنه توجد كتب بالعربية، شيقة وجذابة، وهى تصر على أن يشترى كتابا بالعربية ليقرأه فى الإجازة جنبا إلى جنب مع كتبه الإنجليزية العديدة، قلت لها رأيى، فناولته السماعة، رحت أشرح له كيف أنى فرح بكونه قارئا نهما فى هذه السن، وأننى أرى ضرورة التوازن بين لغة الدراسة ولغتنا الجميلة، وأنه بالتدريج سوف يتعرف على جمالها مثلى وربما مثل أمه، وكذا وكيت، فبدا لى أنه اقتنع على مضض. بعد وصولهم للشاطئ، كلمنى على شخصيا سائلا : ‘هل أعده، لو أنه أنهى قراءة الكتاب العربى الذى اشتراه (أو اشترى له), أن أقنع أمه لتوافق على شراء الكتاب الإنجليزى أثناء العودة؟ فوعدته بذلك وأنا حزين.
المسألة إذن لم تعد تتعلق بأولوية الدراسة بهذه اللغة أو تلك لهذا العلم أو فى تلك الكلية، المسألة أصبحت تتعلق بماذا نكتب لأطفالنا بلغتنا الجميلة، حتى يتعرفوا عليها وعلى أنفسهم.
ضبطنى حفيدى الأكبر -عمر، 15 سنة- ابن خال الأول، وأنا أقرأ الجزء الأول من ‘هارى بوتر مترجما فنصحنى، بأبوة حانية، أن أقرأها بلغتها الأصلية، ووعدته أن أفعل.
إن انتشار هذا العمل -هارى بوتر- بهذه السرعة إنما ينبههم – قبلنا- كيف أن الإنسان المعاصر لا ينبغى أن ينسى أو يتناسى تاريخه الحيوى والأسطورى الرائع. هذا التاريخ ليس ماضيا، بل هو حاضر لا نكون بشرا إلا به.
إذا كان الغرب قد رحب بألف ليلة وليلة كل ذلك الترحيب، فلأنها تكمل ما تورط فيه، وإذا كان قد عاد فرحب بهارى بوتر هكذا فلأنه يسترجع ما كاد يفوته. لعلها محاولة لتحديث الخيال البشرى بتلقائيته الحرة بعد أن كاد الكميبوتر يختزل الإنسان إلى ما تسمح به برامجه، وملايين معلوماته.
لقد سجنا أنفسنا فيما نتصورأنه العقل، وسجنا أخلاقنا فيما نتصور أنه الفضيلة، وسجنا خيالنا فيما نتصور أنه الطفل، فلم يبق منا إلا ما لم نعد نصلح بشرا نابضا مبدعا لو اقتصرنا عليه.
حاول نجيب محفوظ فى لياليه الجديدة (ليالى ألف ليله) أن يحدث القديمة، ثم ها هو يحدث خيالنا الطليق من جديد’بأحلام فترة النقاهة’, قبل ذلك، إلى درجة أقل كانت ‘رحلة ابن فطومة’. كذلك حاول المخزنجى فى ‘رنين أوتار الماء’ كما حاول باولو كويلهو فى ‘ساحر الصحراء’, وباتريك سوزكند فى ‘العطر’, ومع ذلك، فأغلب الأغلب هو أن أكثر ما يكتب عندنا، خاصة للأطفال، هو عكس ذلك .
حين تنكرنا للخيال، تنكرنا للطفل فينا وحولنا، رحنا نتوهم كل ما هو ليس طفلى ونطلق عليه لفظ طفل ونحن نصيغه كما نتصور لا بسين ثوب الفضيلة المسطحة والنصح الأجوف , فنبتعد بذلك عن خيالنا الأوقع من الواقع، وحلمنا الأقرب إلى التاريخ.
أحاط بى يوسف وحسن، حفيداى الأصغر، ليسألنى حسن ( ثلاث سنوات وبضعة أشهر) أن أحكى لهما حدوته، فتلكأت، كنت أود أن أحكى لهما حدوتة ‘أبورجل مسلوخة، وحواديت النداهة، وعلى الزيبق المصرى، والشاطر حسن، تلك الحواديت الأقرب إلى داخلنا، ربما هى التى حافظت على خيالى نشطا حتى الآن، وهى هى التى أصبحت محظورة حين تنكرنا لخيالنا وتاريخنا. قلت لهما صل على النبى. قال حسن: اللهم سلى عليك يا نبي. وتوقفت. قال لى أحكى لك أنا، وافقت. قال: صلى على النبى قلت:عليه الصلاة والسلام، وراح يحكى، ويؤلف ويستعيد ويضيف وأنا أنصت وأتعلم.
إذا أردنا أن نعرفهم لنحكى لهم، فلننصت لهم ولتاريخنا، بما هم خارجنا وداخلنا، ثم نحكى فيسمعون.
هذا ما فعلته رولينج وهى تحمل لتضع لنا هارى بوتر، فكان ما كان.