الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / نجيب محفوظ : قراءة فى أحلام فترة النقاهة الحلم (9)، والحلم (10)

نجيب محفوظ : قراءة فى أحلام فترة النقاهة الحلم (9)، والحلم (10)

“يوميا” الإنسان والتطور

22-11-2007

نجيب محفوظ : قراءة فى أحلام فترة النقاهة

الحلم (9)، والحلم (10)

الحلم (9)

على اريكة فى حديقة المنزل الصغيرة جلست أختى تتأمل ضفدعا يسبح فى القناة التى تروى الحديقة: وانتشيت بالنسيم الرقيق وعناقيد العنب المدلاة من التكعيبة.

وسألت أختى ماذا تنتظرين؟

وقبل أن تجيبنى قلت: من الأفضل أن نجلس فى الحجرة لنسمع الفونوغراف وتبادلنا نظرة اختيار، ثم انتقلنا إلى الحجرة وازداد الجو صمتا، وحتى النسيم لم يعد معنا ونظرت إلى أختى، فإذا بها قد تحولت إلى الممثلة السينمائية جريتا جاربو، وهى ممثلتى المفضلة وطرت من السعادة بغير أجنحة وملأ السرور جوانحى غير أن ذلك السحر لم يدم طويلا. وأردت أن أستعيد المعجزة السحرية مرة أخرى ولكن أختى رفضت الذهاب معى، فسألتها عن سبب الرفض فقالت:

– أمى

فقاطعتها قبل أن تتم عبارتها

– إنها لا تدرى

فقالت بيقين

إنها تدرى كل شئ

وشعرت بأن الحزن غشى كل شئ كأنه شابورة مفاجئة.

القراءة

الاقتراب من هذه المنطقة حتى فى تشكيلة حلم، حتى من خلال  شطح الإبداع، هو أمر صعب دائماً، برغم أنه ضرورى، وما لم نتناول إشكالة العلاقة بالمحارم إبداعياً من منطلق التطور، قبل وبعد سجن المنظومة الأوديبة الفرويدية التأويلية ، (دون رفضها كليةً) فقد تظل منطقة مخفية فى الظلام تحت رحمة الكبت من ناحية، والتفسيرات التقليدية المعادة من ناحية أخرى .

البداية بالضفدع، وصلتنى – متحيزا لفكرى التطورى- أنها تذكرة (حدْسية غير مقصودة) بالتطور، وهذا ما سمح لى أن أمر بمراحل طويلة طويلة بين الأحياء عموما، ثم مع الإنسان، قبل أن أصل إلى قراءة ما يسمى الآن “نحو الأسرة “. نحن نعرف كيف أن “النحو” Grammar  هو الذى يحدد “إعراب” وتشكيل موقع اللفظ فى الجملة، بما فى ذلك المسموح والممنوع (من الصرف وغير الصرف).بنفس القياس اصطلح الباحثون مؤخرا على اعتبار تنظيم موقع الفرد فى أسرته بمثابة “نحو” يضع التشكيل على الأفراد، ويقرر الجائز و”الممنوع”!

لابد وأن أذكر هنا أن لى إجتهادات متعددة فى إعادة النظر فى تفسير ما، يسمى عقدة أوديب والتنظير البديل بغير ما جاء به فرويد، وأهمية هذا الحلم هنا – من ناحيتى- شخصيا: علما ونقدا- أنه يدعم بعض ما ذهبتُ إليه فى مسألة العلاقات المحارمية مما لامجال للاستطراد إليه هنا/الآن.

  محفوظ تناول المسألة برقة مناسبة، فمن ناحية جعل النداء ياتى  من الراوى، لكنه عاد يثبت أن الاختيار كان متبادلا، وهذا بعض ماتناوله تنظيرى الخاص لتجاوز “نحو الأسرة”، وإن كان النداء الأغلب – فى خبرتى – يبدأ من الأم (لا شعوريا أكثر)، وفى نفس الوقت يكون الاختيار متبادلا فى النهاية، لاحظ التعبير شديد الكثافة والدلالة هنا: “وتبادلنا نظرة اختيار“.

محفوظ فى الحلم (الإبداع) بدا قادراً على أن يدور حول حكاية المحارم هذه حين أحلّ حليلةً محل مُحَرّمة، هكذا حلت جريتاجاربو محل الأخت، ثم أنه جعل الراوى يتجنب ذكر تفاصيل ما تمَّ بينهما حتى بعد هذا الإحلال، لكنه يعلن مصاحبات اللقاء ونتيجته: الفرحة مسحوراً بالنشوة، إلاّ أن هذا اللقاء الساحر لم يدم طويلا. ولم يذكر الحلم صراحة متى اختفت جريتاجاربو لتظهر الأخت من جديد.

 التى دعاها الراوى فى الجزء الثانى من الحلم كانت أخته وليست ممثلته المفضلة، دعاها بما هى، وليس كبديلتها، ليستعيد المعجزة السحرية، فترفض، دون أن يعلن أنها شاركته الجولة الأولى الساحرة، ثم ها هو الراوى يدعنا نستنتج ما نرى، وهو يعلن سبب الرفض: إنها الأم (وليس الأب) التى تعرف كل شئ.

توظيف الأم (وهى الأقل سلطة فى ثقافتنا) للرفض سمح لى أن أتمادى فى تدعيم فروضى الخاصة البديلة عن عقدة أوديب، والتى تشير إلى أن النداء المحارمى يأتى من “لاشعور” الأم، وليس أساسا: من تنافس الإبن مع الأب عليها.

 هل سبب رفض الأم وخوف البنت هنا هو تطبيق “نحو الأسرة” الذى يحدد الممنوع من المتاح؟ أم أنه غيرةٌ ضمنية من الأم نحو الأخت؟ أم الاثنان معاً؟

الحزن الذى انتهى به الحلم له أكثر من قراءة، فهو لا يشير أساسا إلى الشعور بالذنب (وإن كان لايستبعده) وإنما يبدو أنه نتج ابتداءً عن إحباط الرغبة المحارمية، حتى ولو تمت تحت ستار إبدالٍ سحرى.

ومع الحزن تنزل ستارة الوعى الظاهر (شابورة مفاجئة)

ليقوم الكبت بدوره الضرورى.

 الحلم (10)

جمعتنا‏ ‏الصداقة‏ ‏والنشأة‏ ‏وتواعدنا‏ ‏فى ‏تلك‏ ‏الحارة‏ ‏وذيول‏ ‏الليل‏ ‏تهبط‏. لا‏ ‏هدف‏ ‏لنا‏ ‏إلا‏ ‏الانشراح‏ ‏باللقاء‏ ‏والاستسلام‏ ‏للمزاح‏ ‏والضحك‏ ‏على ‏طريقة‏ ‏القافية‏.‏

وتبادلنا‏ ‏النكات‏ ‏وأخذنا‏ ‏نتحول‏ ‏إلى ‏أشباح‏ ‏فى ‏الظلام‏، ‏وتعارفنا‏ ‏بأصواتنا‏ ‏ولم‏ ‏نكف‏ ‏عن‏ ‏المزاح‏ ‏والقافية‏ ‏وانطلقت‏ ‏قهقهاتنا‏ ‏ترج‏ ‏الجدران‏ ‏وتوقظ‏ ‏النيام‏. ‏الحارة‏ ‏متعرجة‏، ‏ونحن‏ ‏نتقارب‏ ‏حتى ‏لا‏ ‏نذوب‏ ‏فى ‏الظلمة‏، ‏وكلما‏ ‏تمادينا‏ ‏فى ‏الحيرة‏ ‏غالينا‏ ‏فى ‏الضحك‏، ‏وبدأنا‏ ‏نتساءل‏ ‏حتى ‏نجد‏ ‏خلاصنا‏ ‏فى ‏ميدان‏ ‏أو‏ ‏شارع‏ ‏كبير‏.‏

وذكّرنا‏ ‏أحدنا‏ ‏بأن‏ ‏الملكة‏ ‏الفرعونية‏ ‏التى ‏أرادت‏ ‏الانتقام‏ ‏من‏ ‏الكهنة‏ ‏الذين‏ ‏قتلوا‏ ‏زوجها‏ ‏دعتهم‏ ‏إلى ‏مكان‏ ‏يشبه‏ ‏هذا‏ ‏الذى ‏يغيطون‏ ‏فيه، ‏وسلطت‏ ‏عليهم‏ ‏المياه‏، ‏وما‏ ‏كاد‏ ‏يفرغ‏ ‏من‏ ‏حكايته‏ ‏حتى ‏هطلت السماء‏ ‏علينا‏ ‏بقوة‏ ‏غير‏ ‏معهودة،‏ ‏وأسكتنا‏ ‏الرعد‏ ‏ومضت‏ ‏المياه‏ ‏ترتفع‏ ‏حتى ‏غطت‏ ‏أقدامنا‏ ‏وزحفت‏ ‏على ‏سيقاننا‏ ‏وشعرنا‏ ‏بأننا‏ ‏نغرق‏ ‏تحت‏ ‏المطر‏، فى ‏ظلام‏ ‏الليل‏.

 ‏ونسينا‏ ‏نكاتنا‏ ‏وضحكاتنا‏ ‏ولم‏ ‏يعد‏ ‏لنا‏ ‏من‏ ‏أمل‏ ‏فى ‏الخلاص‏ ‏إلا‏ ‏أن‏ ‏نطير‏ ‏فى ‏الفضاء‏.‏

القراءة

هذا حلم  تشكيلىُّ جميلٌ

 جذبتنى الصورة والحركة حتى كدت أنسى المحتوى المروى حكْيا لفظيا.

 حضرت فى وعيى النقدى صور من ليالى ألف ليلة لمحفوظ ، ومن حكايات خرافية هانز كريسيتان أندرسون للأطفال، ومن حواديت طفولتى ، هذا حلم مُبْدَعٌ طليق، بعكس الحلم “8” الذى وصلنى منذ البداية “علماً لا حلماً”!.

فى الحلم (الابداع ) ينكسر حاجز الزمن ، وقد شاهدنا كيف تلاشى الزمن فى حلم (6) حين تلاشى الحاجز بين الموت والحياة ، واختصرت ستين عاماً، بين الدفن والعودة، إلى لحظة واحدة،

 هنا: الحلم يكسر حواجز أخرى كثيرة: بين الظاهر والخفى، بين الحاضر والتاريخ ، ثم تتداخل فيما بينها: السماء والمياه والفضاء .

تتحول العواطف البشرية فى انسيابات مفاجئة وغير مفاجأة ، ففى البداية ننتقل بين المزاح والضحك والسخرية، ثم يتراجع كل ذلك جزئيا – ليفسح مكانا للحيرة وتمنى الخلاص (برغم استمرار غلبة الضحك)، لينتهى التهيؤ الواجدانى إلى الصمت والخوف من الغرق والأمل فى خلاصٍ أقوى وأبعد من مجرد اللجوء إلى شارع متسع أو ميدان ، خلاص بالطيران فى الفضاء.

 الزمن يتحول فى الحارة المتعرّجة  وذيول الليل تهبط، إلى زمن الفراعنة، فيحضر جبروت الملكة وهى تعاقب الكهنة، ليصبح التاريخ حاضرا ماثلا يهدد الثلة الحالمة الشاطحة الساخرة الفِرَحَةْ، يهددها بالإغراق .

إلى هنا ونتوقف عن متابعة تشكيل الزمن، والنقلات، والحركة وكسر الحواجز لننتقل إلى المحتوى.

 لم أجد فى نفسى ضرورة لذلك محتمياً بتركيز “جاك لاكان” على الدال أكثر من المدلول، وأيضا اعتماداًعلى أن الصورة والحركة هما الأساس فى  طبيعة الحلم “بما هو” قبل أن يكون رمزاً أو حكياً وكل ذلك يسمح بتجاوزالمحتوى إنه يمكنك أن تستنتج من الحركة والنقلات والتقلبات، خصوصا إذا وصل الإبداع  إلى أن يقلب شخوصه أشباحاً تتعارف بالأصوات، وتحتمى ببعضها حتى لاتذوب فى الظلمة، كل ذلك يسمح بتقديم الشكل على المحتوى، حتى نتأكد أهمية وأسبقية الدال عن المدلول.

وبالرغم من كل ذلك فثمة إشارات موجزة من إيحاءات المحتوى فضلت أن أصيغها فى التساؤلات التالية:

*هل الخلاص من لعبة التلاشى فى الظلام يكون إلى ميدان أو شارع كبير ، أم العكس؟

 عندى أن فراغ واتساع الميادين هو الذى يدفع للاحتماء – حتى لعبا- بذيول الظلام ، فى حارة ضيقة!!؟

 ثم:

هل الطيران فى الفضاء هو الذى يمكن أن يحمينا من الغرق فيما نحن فيه، بما فى ذلك قهر وإرهاب السلطات؟ أم أن ثم طريقا أخر علينا أن نسلكه فى مواجهة القهر والطوفان معا؟ 

الحلم  – الإبداع – يكشفُ ولا يوصى،

 وعلينا نحن أن نتلقى ونتحمل مسئولية ما يصلنا.

وأخيراً:

وصلنى أنه لم يجمع بين أفراد هذه الثلة الظريفة إلا المرح والسخرية وحكى التاريخ، ولكن حين واجهوا القهر والخطر، لم أرهم – برغم ضمير الجمع – عصبة معاَ.

هذا حلم فيه من سحر الظلام، وعبث الصحبة، وألعاب الهرب، ما يؤكد أولوية الحركة والصورة فى إبداع الأحلام، قبل محتواها ورموزها.

كما أن فيه من الطلاقة والمراوغة وأحلام الهرب، ما يمكن أن يوقظ فينا الموقف المناسب لنكمل أو نراجع أو نتراجع.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *