نشرت فى وجهات نظر
عدد فبراير-2006
نبض المكان فى الوعى البشرى
بين “لحس العتب” و “قنديل أم هاشم”
استهلال:
لا أعرف ما الذى جعل قنديل أم هاشم يقفز إلى وعيى وأنا أقرأ رواية “لحس العتب” لخيرى شلبى. أهو التعمق فى حضور “المكان” برغم الاختلاف الشديد بينهما؟ أهو التباين بين الوصف المتناهى الدقة لخارج الداخل، وبين الحدس المتناهى الكشف لداخل الخارج؟ أهو المسافة الزمنية الواقعة بين كتابة العملين (1939-1991)[1] برغم قرب زمن الأحداث نسبيا؟ أهو تميز الكاتبين تميزا إبداعيا ومصريا، كلّ بطريقته؟ أهو المقابلة بين ريفنا القديم، وقاهرتنا القديمة، بما يحمل من دلالات؟ أهو تناول كلا العملين لما يسمى التطبيب الشعبى على مستويين متناقضين تماما؟
لعله كل ذلك.
مقدمة
صدرت الطبعة الأولى لرواية “لحس العتب” سنة 1991. يقول عنها مؤلفها: “إنها لم تقرأ جيدا”، وهو يقر، على وفرة إبداعه وتميزه، أنها “هى الرواية الأحب إليه”، وها نحن نحاول يا عم خيرى، أن نقرأها معا لنرى لم هى “الأحب” إليك، فربما هى ليست كذلك عندنا، فنحب أغلب رواياتك دون تفضيل غالبا.
خيرى شلبى من أبدع من كتب عن الريف المصرى. استطاع أن يُحضر القارئ معه فى هذا العمل داخل المندرة والخزنة، وحتى تحت الترابيزة، سواء فى حركة مواكبة، أو من خلال دعوة مباشرة مثل وصفه لداخل المكان وكأنها دعوة للقارئ أن “اتفضل” مثلما يدعو الفلاح الجالس على باب داره المارة للدخول: “…ويجد كرسيا عباسيا بصينية نحاسية تضع فوقها صينية الشاى الذى سيجىء له بعد دخوله بدقائق”. نجح الكاتب مصادفة، لكن نادرا، فى أن يمد الداخل إلى الخارج ، ولكن فى لقطة عابرة لم تغص بدرجة كافية فى حضن الطبيعة وأنغامها (الذى اعتبرناه أنه قسم العناية المركزة لشفاء الطفل الراوى “فخرى” فيما بعد). نستمع له ص 9″ .. فإذا انفتح النصف العلوى من الشباك، …. حينئذ يندهن شكل الضحى بلون السماء الصافية، (ثم الحركة) وما أسرع ما تفوت الشمس غارقة فى خجل الحياء تاركة فوق الحائط المواجه بقعة من دمائها كالكرة الحمراء، تظل تضيق وتضيق إلى أن تمحوها ظلال المغيب، هذه الظلال التى ظلت تسكن المندرة منذ سنوات طويلة، منذ أن كفت مندرتنا عن استقبال الضيوف المهمين ..إلخ”. خيل إلىّ أنه حين أطلّت الطبيعة بكل هذا الصفاء، إنما حضرت للتعزية فى إفلاس الحياة بإعلان المرض والعجز والجمود.” (ص 9).، “بات منظرنا مألوفا كأنه جزء من الكنبة” (ص15) “…. ثمّ جلستنا القرفصاء، معا لا نفعل شيئا ولا نتكلم ولا نبتسم ولا نبكى كأنها فى انتظار حكم سيصدر علينا “وصار ضيوف أبى يسمونا المتهمين”(ص 14)،
بدت الرواية كأنها مسرحية ذات فصل واحد، برغم سفرة فخرى للعلاج، حيث بدا هذا السفر كحدث مكمل فى خلفية نفس الفصل من المسرحية التى دارت أحداثها بين المندرة والخزنة، فوق وتحت وحول الترابيزة طول الوقت. كانت المناظرالخارجية أقرب إلى الحكى منها إلى التصوير الخارجى مثل وصف منظر الشيخ كعبلها الكفيف وهو “يمشى بجنبه جنب الحائط، .. يعرف جيدا وبحكنة – متى يحود فيحود..(ص 28).
يكتمل حضور المكان بما يجرى فيه ، وحوله. لو تصورنا جلسة ضيوف عبد الودود أفندى والد فخرى فى أى مكان آخر غير المندرة بعيدا عن الترابيزة، لوصلتنا رسائل أخرى. صوّر شلبى مجالس السياسة فى الريف المصرى القديم بحيوية يفتقدها الجميع الآن، وحين عينوا والد الراوى “عبد الودود أفندى” رئيسا للوزراء ولم يفعل سوى أن هتف لوزارته باسم عائلته “تحيا الوزارة الزعلوكية” لم يرد أحد هتافه، فأقسم بالطلاق أنهم يكرهونه (بما فى ذلك من دلالات) وانتهى الموقف تقريبا بقول محمود جميل “قدر يا أخى أننا لقيناك ما تصلحشى للوزارة هنسيبك ولا نرفدك”؟ كان للكفيفين الشيخ محمد بقوش (كعبلها) والشيخ زيدان زيدان (حامل عالمية الأزهر) دورهما المألوف فى مثل تلك الأيام، بما فى ذلك أن يسحب الأول الاخير يرشده للطريق، كذلك قدم خيرى خفة ظل الفلاحين الساخرة غالبا، جنبا إلى جنب مع قوت يومهم من الحقد الطبيعى، والشماتة الصعب إخفاؤها (الطرابيزة مطمع الجميع). كذلك رسم شلبى الاهتمام السياسى الريفى البسيط، الذى يتجاوز الشأن المحلى إلى السياسية الخارجية (الحديث عن الحاج هتلر) كل ذلك كان من ملامح الريف المصرى فى ذلك الزمان .
من فرط دقة الوصف، حضرنى المكان بروائحه ودرجات إضاءته، وملمسه وريحه جميعا: وصلنى شعور حسى بالظلام أحيانا، وبرائحة الرطوبة أحيانا، كما سمعت فحيح الوحدة، وغثيان العشوائية المتناثرة عفنا، خاصة وأنا أبحث معهم تحت الترابيزة عما تدحرج منّى وأنا أقرأ.
هذا الجزء من الدراسة يتناول المكان كما جاء فى لحس العبت ، مقابلة بالمكان فى قنديل أم هاشم، حضورا فى، وجدلا مع : الوعى البشرى الفردى والجمعى.
الترابيزة
أتيحت لى فرصة عابرة لمشاهدة فيلم قصير من إستونيا باسم “المنضدة” عرض فى مهرجان الاسماعيلية التاسع (2005)” من إخراج “جلينا جرلين” و”مارى ليس” و”أورماس جويميس”، حاولت أن أجد أية إشارة مباشرة لما هو منضدة، أو مائدة (أو ترابيزة) ففشلت، وتصورت أن القائمين عليه تعمدوا ذلك ليتيحوا للمشاهد والناقد فرص أن يرى ما يرى، ربما مثلما فعلت ناقدة حاذقة (أمل زكى) حين اعتبرت” أن المائدة فى الفيلم “…. هى المكان و الزمان والرمز والأسطورة، هى أستونيا، هي مخاض الولادة ومقبرة الموت وباعثة الحياة، ………..، هي تلك الأرض القوية الصلبة التي يقف عليها المدافعون عنها يطالبون بالغناء سوياُ و الصمت سوياً و التنفس سوياً والفناء سويا….إلخ”. شعرت أن رواية خيرى هى أولى بهذا الاسم “الترابيزة” (وليس المائدة أو المنضدة)، ليس فقط لأنها تبدأ بها وتنتهى بها، ولكن لأن وجودها المحورى بدا لى أنه هو ما يميز هذه الرواية أكثر من ظاهرة التطبيب الشعبى سلبا وإيجابا، حيث يمثل “لحس” العتب الجانب السلبى من ذلك
تبدأ رواية “لحس العتب” حول ترابيزة فى وسط المندرة، وتنتهى وقد نزعت الترابيزة من الدار نزعا بعد أن انهار عليها جدار الممر الذى سحبت إليه قسرا فى فترة من تاريخ حياتها. تدور جميع الأحداث تقريبا حول هذه الترابيزة، أو فوقها، أو بجوارها أو تحتها أو بالقرب منها، أو حتى بعيدا عنها. حتى حين سافر “فخرى” إلى البندر للعلاج، تصورت أن هذه الترابيزة ظلت تمثل خلفية متنقلة وراءه خشية أن يتغير (ولو إلى الشفاء) بعيدا عنها، وسرعان ما استعادته (الترابيزة) كما هو. بدأ الرواية هكذا: “ليست هذه الترابيزة العجيبة هى كل ما تبقى…” (ص 5). كما كانت أخر كلمات الرواية عن الترابيزة حين قال الوالد: “….. وحين كانت الذكريات تجرهم إلى الحديث عن الترابيزة الشهيرة كان أبى يبتسم قائلا: الملك فارق نفسه انزاح عن عرشه! سبحان من له الدوام”. (ص 66). انتهت الرواية إذن بنزول هذه الملكة، الترابيزة، عن عرشها: الناس والذاكرة.
التمحور حول مركزٍ ما
لكل منا محور أساسى يدوّر حوله حياته. يجرى ذلك فى مستوى ما من الوعى، حتى لو لم ندركه. يتجلى أثر ذلك فى الشعور، أو يظل كامنا فى مستوى ما من الوعى طول العمر، أحيانا يكون لهذا المحور اسم نظرية أو أيديولوجى: بلغة سيلفانوا أريتى يمكن أن يكون “الفكرة المركزية”. وبلغة الأساطير: الأيقونة ذات السحر الغامض، وبلغة الإسلام الحقيقى: أنه “لا إله إلا الله”، وهكذا. إلا أنه لا يتحتم دائما أن يعرف أى منا تحديدا حول أى محور يدور. ولا هذا ممكن معظم الوقت. ثم إن أى محور هو ليس ثابتا بالضرورة. هو قابل للتغير والتعديل مع كل ولادة جديدة على مسار النمو. كذلك فإن أى واحد منا عادة ما يُسقط (و/أو يزيح) موضوع تمحوره خارجه على رمز أو حدث، بوعى أو بغير وعى.
وصلنى أن الراوى فخرى، فى مسح العتب، قد تمحور حول تلك الترابيزة مثلما فعل أبوه وأسرته، كل بطريقته، وأيضا: بما تعنيه مختلفا عند كل منهم. فخرى زحف على سطحها طفلا، ودار حول أثرها صبيا، وبحث تحتها تلميذا مستكشفا، وحادث أشلاءها وأشياءها أخيرا، لكنه فى النهاية قفز بعيدا عنها و كأنه وُلد من رحمها بالرغم منها حين انطلق إلى الخارج (الشارع/الطبيعة) بعد أن شفى بتناغم وعيه مع وعى حقيقى آخر فى رحاب الوعى الإيقاع الحيوى الطليق.
حضور المكان فى الوعى
لست متأكدا إن كنا نعرف حقيقة معنى: “استحالة وجودنا إلا فى مكان ما” ؟، إن أى شىء حى، أو غير حى، لا يوجد منفصلا عن المكان الذى هو فيه، لكن الإنسان يتميز، بالإضافة، بقدرته على الوعى بالمكان، بدرجات مختلفة. من ضمن خداعنا لأنفسنا رحنا نتصور أننا نعرف ما هو المكان، وأننا نعايش علاقتنا به بوضوح أكثر من الزمن، وبالتالى حاولنا أن نفهم إشكالة الزمن من منطلق المكان، تصورنا أننا كما يمكننا أن نتجول فى المكان ذهابا وجيئة، شرقا وغربا، يمكننا أن نتجول فى الزمن بنفس الطريقة، وبهذا نكسر سجن الزمن التتبعى، الذى لكى ندركه، علينا أن ننفصل عنه لنتبعه أو نقيس خطواتنا به. المكان ليس بهذه البساطة التى تصورناها لنفهم الزمن من خلاله. المكان ليس مساحة للتجوال ولا هو تعيين للزمن. المكان والوعى به وبما فيه هو الذى يموضغ العلاقات بيننا وبعضنا، وبين الأشياء وبعضها، وبيننا وبين الأشياء. العلاقة بالموضوع، هى “علاقة بالآخر فى مكانه”، العلاقة بالموضوع تشمل: العلاقة بالأشياء فى حضورها وغيابها وتغيّرها، فى جدلها المتجدد بوعى يتشكل، فى حركية كل ذلك، فى إيقاع حيوى نامٍ ينطلق من كل ذلك إلى الممكن المجهول: إذ يتشكل باستمرار مع حركية الجدل المتصاعد عبر دورات الإيقاع الحيوى.
إن تغير المسافة باستمرار فيما بيننا وبين الموضوع هو أمر جوهرى بالنسبة للوعى بالمكان. يختلف الوعى بالمكان بحسب درجة إدراك العلاقات، أو إدراك الحركية، وكيفية تغير المسافات.
حين حضرنى المكان هكذا، بالإضافة إلى حضور تشكيلات التطبيب الشعبى، الإيجابية والسلبية، تصورت أن قراءة ثنائية مع قنديل أم هاشم قد تكشف الاثنين أجمل وأبدع. فى رواية “لحس العتب” كان وصف المكان من خلال العلاقات السلوكية والرمزية والموضوعاتية هو الحاضر غالبا، فى حين أنه فى قنديل أم هاشم كان التناول يتم من خلال امتدادات المكان والناس فى الوعى، وبالعكس، طول الوقت، فضلا عن الامتداد فى غيب “المابعد”
المكان عند كل من شلبى وحقى فى هذين العملين كان حاضرا طول الوقت بكل التفاصيل، سواء ضاق عند شلبى حتى كاد ينزوى تحت الترابيزة، أو حولها، أو اتسع عند حقى حتى تخطى مقام السيدة وميدانها إلى المطلق المتناهى. أين المكان هنا وهناك من الوعى البشرى، وما العلاقة بينهما؟
فى مرحلة سابقة كنت أشبّه الوعى بالوساد اللازم لكى تنزرع فيه سائر الوظائف النفسية الأخرى، وكأنه الأرضية الضرورية لأشكال حادثة، ثم تبينت أن هذه التفرقة بها من التعسف والاختزال ما يخل بتقديم الوعى الإنسانى بحضوره الجوهرى فى كل الحياة العقلية والنفسية، فى كل الوجود. الوعى عندى الآن هو عمق أى سلوك يتبدى لنا، هو البعد المشتمل لما يصلنا ظاهرا، وهو متعدد بعدد الظواهر، أو حتى بعدد جزيئات الظواهر، بقدر ما هو مشتمل لها جميعا على مستويات مختلفة، من هنا لم يعد يصلح أن نختزل الوعى إلى ما يشبه “السطح الجاهز”، كما يوحى لفظ “الوساد” أو “الأرضية”، الوعى البشرى هو الأقدر على أن يكون المقابل الحيوى داخلنا للمكان الخارجى. العلاقة بين حركية الوعى كمكان حيوى داخلى، وحركية المكان كحضور موضوعى خارجى، هى علاقة جدلية مستمرة.
نتابع حضور الترابيزة فى الوعى بما حولها من مندرة وما جاورها من خزنة، وما ملأها من حركة ناس وأزمنة، يحتلون هذا الحيز من الأرض، يدخلون ويخرجون على فترات، لكن يبقى المكان هو الأصل، هو الحى الباقى. والترابيزة فى مركزه.
يقع هذا المكان فى دار متآكلة فى قرية من قرى بندر دسوق، لكنه يقع أكثر فى “الذاكرة الوعى”، وليس الذاكرة شريط التسجيل “..هناك هناك فى أبعد ركن من ذاكرتى أرانى طفلا فى حوالى الثالثة من العمر أرتع زحفا على سطح هذه الترابيزة رائحا غاديا” (ص 9) الذاكرة هنا مكان يُزار، لا معلومة تُستعاد، والترابيزة هى مجال محيط، وليست أداة تُستعمل. حجم الترابيزة (أكثر من مترين فى متر ونصف)، وموقعها (ترابيزة الوسط) يدلان على أنها مجال محورى أكثر منها شيئا للاستعمال. المتابع لزحف الأحياء والأشياء (وقد صيّرها الراوى أحياء) فوق وتحت الترابيزة وحولها، لا بد أن يشعر أنها أصبحت وكأنها الأرض الكروية، وأحيانا المجموعة الشمسية. أرجل الترابيزة النحاسية تقول أيضا إنها كائن حى”… شغل يدوى، بأرجل مخروطية عليها نقوش وانبعاجات وتكورات تنتهى فوق الأرض بأقدام على شكل حوافر من النحاس إن تأملتها قليلا تبينت أنها على شكل سباع كثيفة الشعر غليظة الظافر…”(ص 8). ها هى الترابيزة تعلن عن رسوخها من جهة، وأصل قوتها وتوحشها وسيطرتها من جهة أخرى، فإذا أضفنا إلى ذلك كيف كان الناس والأطفال خاصة يحسبون أن هذه الأرجل النحاسية هى من الذهب، شعرنا كم كانت هذه الترابيزة “قيمة ” فى ذاتها من أكثر من ناحية.
قيمة الترابيزة المعلنة كانت فى اتجاه آخر: إنها دليل على العز والأصل، وبالتالى لا يمكن الاستغناء عنها مهما كان الثمن، بدا التنازل عنها لأى سبب وبأى مقابل بمثابة تسليم لواقع مرفوض، يتمنى المصاب به، رب الدار (وأهل الدار)، أن يكون واقعا مؤقتا، وإن كان الأب يعرف من داخل داخله، ومن همس وتصريح مَنْ حوله، أن ذلك محال، وأن ما آل إليه الحال من حاجة وحرمان هو واقع دائم راسخ لا حل له، لكن ظلت الترابيزة تمثل قيمة أهم فى موقعها المحورى الذى تدور حوله الحياة وتتشكل، دون أن تنفصل عنه.
المكان “يمتد” فى قنديل أم هاشم
فى المقابل: تتمحور أحداث رواية قنديل أم هاشم حول مكان محورى أيضا له حضوره ودلالاته، هو مقام السيدة زينب، بما حوله وما يدور بهم ويدوّرونه، الميدان والناس كتلة واحدة. المكان، هنا، بما فيه من ناس وأحوال، هو جاهز للمقابلة بالغرب بكل ما يعنيه ذلك “..هل فى أوربا كلها ميدان كالسيدة زينب؟ “. ثم يلحق الراوى أو الكاتب فورا نقدا لمبانيهم (أماكنهم) وكأنها إعلان طرائقهم فى الوجود والعلاقات “… قتالهم، ولطعنهم بعضهم البعض من الخلف”، ثم هو يحدد “أين” يقع تعاطفهم وتحابهم من ذلك ” ……. مكان الشفقة والمحبة عندهم بعد العمل وإنهاء النهار يروّحون بها عن أنفسهم كما يروحون عنها بالسنيما والتياترو” (ص 113). الراوى أو إسماعيل أوالكاتب سرعان ما يستدرك (مثلما فعل كثيرا طول الرواية قائلاً): “.. ولكن . لا. لا …. من يستطيع أن ينكر حضارة أوربا وتقدمها وذل الشرق وجهله ومرضه”.
حين حضر ميدان السيدة فالمسجد فالمقام فالقنديل فى الرواية حضروا معا فى كتلة واحدة ، لا تستطيع أن تميز مفرداتها من ناس وأشياء بعيدا عن بعضهم البعض، لكن لم يظهر ما يقابل هذا التلاحم فى خبرة إسماعيل حين سافر (بما فى ذلك علاقته بمارى، حتى حين منحته نفسها برغم انفصالهما، كتحية للوداع) ولا حين ترك بيت الأسرة ليسكن فى بنسيون مدام إفتاليا. لن أتمادى فى هذا الجزء من الأطروحة بعرض مزيد من المقارنة بينهم وبيننا، لأن ذلك البعد قد استهلك نقدا فى هذه الرواية مثلها مثل أعمال أخرى للطيب صالح وطه حسين وتوفيق الحكيم وغيرهم، الذى يعنينى هنا الآن هو تجليات حضور المكان فى الواقع والوعى وبالعكس.
حضر “المكان” عند يحيى حقى فى القنديل بشكل دال مع وصول اسماعيل إلى مصر، حضر بكل امتداداته من صياد كهل يركب البحر إلى أرض مصر الممتدة، مرورا بالمكان المتحرك الحى (الباخرة) متجها إلى الحضور الدوائرى فى الميدان إلى المقام، حتى القنديل يتدلى فوقه.
تعامل حقى فى الرواية مع المكان ككائن حى معظم الوقت، نقرأ هذا التعبير المباشر ص85: “… ورن جرسٌ إيذانا “بموت” الباخرة، فأصبحت جثتها فريسة لجيش من النمل البشرى يهاجمها..إلخ”، هذا التعبير يصور كيف أن الباخرة (كمكان متحرك أو قابل للحركة المجسدة) تظل حية طالما هى تموج بمن عليها يتوجهون حيث تتوجه، لكنها تموت بمجرد أن ينتشر الجميع فوقها كأنها جماد ساكن لا قدرة له على الحركة من جديد، يمكن أن نقيس موت السفينة هكذا باحتمال موت ميدان السيدة أيضا حين يصبح فريسة لجيوش النمل الدائرة حوله فى المحل وكأنها تتحرك فى تداخل حتى السكون (ص 79): “فى الميدان حركة النمل تتعارض تتحاذى وتضرب فى كل اتجاه .. قادته قدماه إلى المقام فوجده ساكنا على غير عادته”. هذا السكون الغالب الذى يجمّد المكان بالناس، ويجمّد الناس فى المكان، كان من دواعى محاولات إسماعيل المتذبذبة المتراجعة طول الوقت للتخلص من حبه لمصر الذى كان لا يتناسب مع ضجره من المصريين “وكلما قوى حبه لمصر، زاد ضجره من المصريين .. “.. ترى هل ينكص الآن عن لمس هذه الكتلة البشرية”. حين يلتحم الناس ببعض هكذا حتى الشلل، يموت المكان فيهم وبهم.
فى موقف موت السفينة السالف الذكر يقول الراوى منطلقا الناحية الأخرى: “أول من لقيه من وطنه مخلوقٌ الكون كله وطنه، طائر أبيض منفرد يحوم حول السفينة، طليق متعال نظيف وحيد. (ص84) لكنه يضيف بعدا آخر (فى نفس الموقف) حين يرصد صيادا كهلا فى قاربه المتحرك فى البحر ، فتتجسد فيه – أيضا- هكذا “مصر ص 85 “…وقعت نظرة إسماعيل على سيدة مصرية وقفت بجواره، فرآها مطلة على الصياد مغرورقة عيناها بالدموع وسمعها تتمتم: مصر! مصر”.
حين تكون السفينة مكاناً قابلا للموت والإحياء، ويكون وطن الطائر هو الكون كله، وتتجسد مصر فى صياد كهل فى قاربه الصغير فى البحر، نصبح أمام رؤية للمكان تتجاوز الوطن والأرض والميدان والمقام والقنديل، وفى نفس الوقت نجد أن للمكان فى القنديل حضوراً شديد التحديد واضح المعالم ثابت الأركان مهما امتد إلى غايته وما بعده، خذ مثلا مصر المكان الأرض وهو يخاطبها قبل فقرة الكهل الصياد، وبعد فقرة الطائر المنفرد بالكون وطنا، يقول: “….. أنت يا مصر واحة ممدودة إلى البحر لا تفخر إلا بانبساطها، ليس أمامك حواجز من شعاب خائنة، ولا جبال تصد، أنت دار كل ما فيها يوحى بالأمان” (ص 84/85). مصر أيضا هى المكان الذى يضم حبات البشر ليتماسكوا فى سلسلة ممتدة إلى التواصل المفتوح النهاية “……كان إسماعيل لا يشعر بمصر إلا شعورا مبهما، هو كذرة الرمل اندمجت فى الرمال واندست بينها، فلا تمييز لها، ولو أنها منفصلة عن كل ذرة أخرى، أما الآن فهو قد بدأ يشعر بنفسه كحلقة فى سلسلة طويلة تشده وتربطه ربطا إلى وطنه (كان هذا بعد أن أفاق من حبه لمارى فى الخارج: ص (91)، لكن كل ذلك الحب لم يمنعه حين يتذبذب إلى الناحية الأخرى من إعلان موقفه الرافض لكل ما هو مصرى يمثل السلبية والذل والخنوع والتجمد والجبن والضياع.
ليس فى المسألة تناقض يزعج، هى رؤى متعددة الأحوال من زوايا مختلفة بحق، حضر “المكان” فى قنديل أم هاشم محدد المعالم بكل حيويته وحركيته وكأنه البطل فعلا، وفى نفس الوقت اتسع إلى ما لا حدود له. مصر– بهذا الاتساع المكانى الممتد – كانت المكان الواعد، لكنها كما سنرى لم تكن نهاية المكان، بل رحابة الأمان الممتد إلى ما بعده.
أمام هذه الخلفية نتبين كيف يأتى حى السيدة الذى يتوسطه ميدان السيدة الذى يتوسطه بدوره مسجد السيدة، الذى يتوسطه بالتالى مقام السيدة، الذى يعلوه القنديل. هذا الترتيب بهذه الدوائرية المتمركزة الممتدة فى إيقاع النبض الحيوى البشرى هى “المكان” الذى دارت فيه وحوله أحداث قنديل ام هاشم، حتى حين كان بطلها فى أوربا.
تعالوا نقارن هذا “المكان” المتحرك المفتوح فى القنديل، بالمسرح المغلق الدائر فى محلّه فى لحس العتب: فى حين اختنق المكان عند شلبى واقتصر على الدار والمندرة والمخزن حول الترابيزة وتحتها وقليل فوقها حتى كاد يصيب هذا الاختناق قرص الشمس حين أطلت من النافذة، نجد أن المكان قد امتد بإسماعيل حول مقام السيدة ليشمل الميدان كله بجمّاع ناسه و تاريخه (الخاص بالراوى على الأقل)، ثم هو لم يتوقف عند حدود المقام، فامتد إلى الميدان بكل زخمه وحيويته ونداءات البيع والشراء والحركة والحب والشجار، ثم امتد أكثر عبر إشعاعات القنديل إلى النور غير المحدود. لم يتحرك المكان فى لحس العتب إلا بعد حْدس التطبيب الشعبى الداعى لتواكب الإيقاع الحيوى البشرى مع دورات الليل والنهار والأذان، وتنبيت الحياة تخمّرا تحت قطر الندى، الأمر الذى صحح النغمة الناشز (مرض فخرى) حتى عاد إلى رحابة الدنيا وحركيتها الطليقة : إلى الشارع يلعب وكأنه قد تم الافراج عنه من سجنٍ مؤبد، سجن قضبانه من المرض، والإعاقة، والخزنة الزنزانة، والفاقة الحرمان، يحدث ذلك الانطلاق بعد رحيل الترابيزة بانتهاء عمرها الافتراضى، ليحل محلها محور إيقاعى حركى جديد لم نتبين ملامحه تحديدا.
المكان فى القنديل له حضوره الحركى القادر على التلقائية والاختيار: “إذا أقبل المساء وزالت حدة الشمس وانقلبت الخطوط والانعكاسات إلى انحناءات وأوهام، أفاق الميدان إلى نفسه وتخلص من الزوار والغرباء (ص 66)”. المكان الميدان كائن حى مستقل (تذكر موت الباخرة) وهويتخلص من الزوار والغرباء لا لينغلق على نفسه ولكن ليسبح فى النور، لأنك”….إذا أصخت السمع وكنت نقى الضمير فطنت إلى تنفس خفى عميق يجوب الميدان (ص 66).
قنديل أم هاشم كان معلقا فى مكان ما، لكن ذلك لم يكن إلا تمويها لأنه حضر فى الرواية ومنذ البداية باعتباره مكانا متجاوزا باستمرار إلى نور المطلق. ترابيزة قرية بندر دكرنس ظلت ثابته فى مكان عيانى محدد، حتى وقع عليها السقف فتهشمت.
النهاية فى لحس الخشب كادت تربط رحيل الترابيزة بانفتاح الطفل المريض على الطبيعة مستعيدا نبض إيقاعه الحيوى فى انطلاقه إلى الشارع لاستئناف حركية النمو صحة وجريا ولعبا ومشاركة، بعيدا عن المندرة متخلصا من دوائر الأثار المنغلقة فى الترابيزة وحولها على ذواتها، حيث لم تعد تصلح إلا للوقوف على أطلالها.
النهاية فى القنديل كانت مختلفة، هى لم تنفصل عن الميدان وما يحوى وما يمتد إليه من حيث المبدأ، ولا هى ابتعدت عن الناس، لكن ما وصلنى أنها تحددت فى تلك العيادة الشعبية التى توحدت مع المآل غير المتوقع ولا المتناسب مع تاريخ الدكتور إسماعيل رجب عبد الله، مما سنعود إليه فى دراسة لاحقة.
[1] – كتبت رواية قنديل أم هاشم فيما بين (1939 – 1940) ونشرت لأول مرة فى سلسلة أقرأ العدد 18 سنة 1944،.. ونشرت فى مكتبة الأسرة عام 2005 وهى النسخة المشار إلى صفحاتها فى هذا العمل.
– وصدرت رواية لحس العتب فى طبعتها الأولى سنة 1991 ونشرت فى مكتبة الأسرة عام 2005