الأحد: 9-3-2014
مَنْ يكشف على مَنْ؟
إحذروا هذا الشرط لو سمحتم: ورد فى قانون الانتخابات الرئاسية الجديد شرط يقول: “ألا يكون مصابا بمرض بدنى أو ذهنى يؤثر على أدائه“، هذا كلام معقول من حيث المبدأ، قيل وكيف يتحقق ذلك؟
منذ سنة 1968 وأنا أكتب فى محاولة تعريف الصحة النفسية، وقد وضعت الفرض تلو الفرض فى محاولة الإسهام فى حل هذا الإشكال، بدءًا من ترتيب الصحة النفسية فى مستويات متصاعدة، حتى فرض دورات التبادل الطبيعى الإيقاعى الحيوى بين الصحة والتفكك المنذر بالمرض، والإبداع، وما زلت غير قادر على اعتبار فروضى قياسا يمكن أن أقيس بها الصحيح من العادى من المبدع من المريض، والعلماء فى كل الدنيا مازالوا فى حيرة بالغة .
الحكم على إنسان أنه مريض أسهل جدًا من الحكم على إنسان أنه صحيح، والمثال الذى عرضته أول أمس هنا هو أبسط مثال على ذلك. فلم تصنفه الهلوسة الأكيدة التى يسمعها بعد صلاة الفجر مريضا، وسقراط وصف هلوسات رائعة تمنعه أن يخالف القانون، وكارل جوستاف يونج وصف فى تاريخه بعض مثل ذلك، أنا لا أعنى بهذا أن أسمح بترشيح رئيس يرى أشباحا أو يسمع وحيا، حتى لو سمعه فى منامه، فعليه أن يكتمه دون ناسه، ولا يعلن هبوطه عليه ويتصرف على أساسه كما حدث!
حين يأتينى شخص فى عيادتى يطلب منى شهادة أنه سليم (لأسباب قانونية أغلبها خلافات زوجية وصلت لساحة القضاء)، أفيده أن الأصل فينا جميعا السلامة، وأننى شخصيا لا أحمل فى رقمى القومى دليلا على سلامة عقلى، ولا أى منالأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم كان يحمل مثل هذه الشهادة، وأن الطب الشرعى هو الذى يحدد المسئولية، وأهلية تصرف أى شخص فيما يملك وما يقرر، إن طلب القاضى ذلك لأسباب قانونية اقتنع بها .
مرة أخرى: الحكم على سلامة شخص أيا كان بالسلامة هو أمر شديد الصعوبة على أى مختص مهما بلغت مهارته وطالت خبرته، ومجرد عدم وجود أعراض مرضية ظاهرة ليس دليلا على السلامة، رفضت طوال الفترة الماضية وقبل ذلك أن أدلى برأيى “النفسى” فى أى من وسائل الإعلام المسموعة أو المشاهدة أو المقروءة، فى تصرفات الرئيس السابق والأسبق، وحين كان يصر أحد أبنائى أو بناتى الإعلاميين أن أدلى بشهادتى، كنت أصر على أن تكون شهادة مواطن مصرى يحمل رقما قوميا، يقول رأيه الذى ينتخب به رئيسه، دون استعمال أية أبجدية نفسيه مرضية، وكنت ألمح لزملائى الأفاضل ألا يغالوا فى هذا الاتجاه حتى نظل محتفظين بما ينبغى أن نحتفظ به .
الفكرة سليمة، لكن المسألة صعبة جدا، فرحت أتساءل: من الزملاء الأفاضل سوف ينتدب ليكشف على المرشحين بالسلامة، وبأية وسيلة، إن مثل هذا الكشف يحتاج إلى ملاحظة مستمرة لمدة ليست قصيرة، فالمقابلة الواحدة لا تكفى، إن المحكمة حين تحيل إلينا متهما فى جريمة ما، وتطلب منا تحديد مسئوليته الجنائية، أى توفّر “الركن المعنوى للجريمة” ( أى توفر درجة كافية من “التمييز” و”الإرادة” و”الوعى” فى وقت ارتكاب جريمة ما)، نحتاج للوفاء بمطلبها بطريقةعلمية ( وأخلاقية وقانونية وإيمانية) أن يوضع المتهم تحت الملاحظة فى مكان معد لذلك (مستشفى عادة) ولمدة تكفى لملاحظة سلوكه 24 ساعة فى اليوم، مع إثبات الملاحظات المناسبة من معظم من حوله، ثم فحص المتهم ( الذى لم يصنَّفمريضا بعد ) المرة تلو المرة، قبل أن نصدر حكما بسلامته أو عدمها وقت ارتكاب الجريمة .
أما عن احتمال الاستعانة بالاختبارات النفسية فحدِّث ولا حرج، إذ لا يوجد اختبار نفسى يمكن الاعتماد على مصداقيته بدرجة كافية فى مشاكل الطب النفسى الشرعية حتى الآن، وإن كانت تساعد فى بعض الأحوال، لكنها أضعف وأكثراهتزازا بالنسبة للشخص العادى، فما بالك بمرشح ليكون رئيسا لنا ولمدة أربع سنوات قابلة للتكرار، وهذه الاختبارات أعجز طبعا من أن تكشف عن مدى تحيزه للعولمة المفترسة، أو للسلفية المتجمدة، أو لعشيرته الخاصة، أو لأسرته الحميمة، هذا إذا اعتبرنا مثل هذا التحيز مرضا أصلا، فلا يوجد فى دليلنا التشخيصى مرض يسمى “الخيانة” .
آمل أن يكون هناك اتفاق بين أهل المهنة على مدى صعوبة هذا التكليف إذا ما كلف أحدهم بهذه المهمة، وبالتالى أن يكون أمام المسئولين على رأس الدولة فرصة للتراجع عن هذا الشرط، وهذا لا يعيبهم إطلاقا، بل ربما أتاح لهم فرصةأيضا للتراجع عن شرط “تحصين قرارات لجنة الانتخابات”، فإن خافوا من إطالة المدة نتيجة عدم التحصين فتتأخر خريطة الطريق، فليحسموا الأمر فى أن يبت فى الاعتراضات فى مدة أقصاها كذا (شهرين) مثلا .
ملحوظة: سألت ابنى من صحيفة اليوم السابع الذى طلب رأيى عن ما إذا كان يعتقد أننى شخصيا أحمل مثل هذه الشهادة بالسلامة ؟ فضحك وقبل اعتذارى، لكننى أرى أن من حقه وهو صاحب الفضل والسبق، أن ينشر هذا الرأى كاملا فىالصحيفة أيضًا، إذا سمح رئيس التحرير.