نشرة “الإنسان والتطور”
الثلاثاء: 1-7-2014
السنة السابعة
العدد: 2496
الثلاثاء الحرّ:
موضوعية الأسئلة عن المزاج المصرى؟! (1)
س1: نريد من سيادتكم أولا تعريف لفظ “المزاج” وهل هناك فرق بين المزاج العام والمزاج الخاص وهل المزاج العام للأفراد يختلف عن مزاج الشعوب وما هى الفروق؟
د. يحيى:
كلمة المزاج تصل للمتلقى حسب السياق الذى تأتى فيه، والتعريف يخنقها فى وصاية معجمية لا تفيد إلا قليلا، وأهم استعمال لها لا يشمله التعريف، وهو الاستعمال الشعبى المصرى بدءًا من أن “الدنيا حظوظ ومازاجات” حتى “الراجل ده مزاج” مرورا بـ “اعمل معروف: أنا مزاجى النهارده مش تمام”، أما الاستعمال اللغوى فهو يفيد الخلط بين نوعين (أو اكثر)، فالمزاج ما نَمزج به من الشراب ونحوه، وأيضا مازجه خالطه ومازَحَه، أما الاستعمال العلمى فهو مرتبط بما يسمى مؤخرا العقاقير المنظِّمة للمزاج وهى عقاقير مشتركة مع العقاقير المضادة للصرع، وتستعمل لضبط المغالاة فى الانفعال، ثم أغارت الكلمة المقابله بالانجليزية mood على لغتنا العربية العامية، فأصبح كثير منا يعبرون عن أحوالهم الوجدانية بكلمة “مود” mood، أنا “موودى” مش كويس النهارده، أو “أنا مش فى “الموود”، مما أعتبره إغارة على وعينا الأصيل دون مبرر، فكيف نصل إلى تعريف جامع مانع بالله عليك؟
وأخيرا فإن هذه الكلمة تطلق على الافراد أكثر مما تطلق على الشعوب، ولا يجوز وصف الوعى العام لأحد الشعوب، أو الادراك العام الذى هو أهم وأعمق من الرأى العام، لا يجوز وصفه بالمزاج، وإنما ينبغى أن نتحمل مسئولية الإلمام بما هو الوعى الجماعى، وهو حس الشعب وتوجهاته المشتركة، وأن نترك استعمال كلمة المزاج لوصف مزاج الأفراد.
س2: عندما نتحدث عن مزاج المصريين هل ترى أن هناك اختلافات واضحة بينهم وبين أمزجه الشعوب المحيطة بنا فى العالم العربى وافريقيا؟
د. يحيى:
المزاج حالة أكثر رسوخا من الانفعال، فالمزاج صفة أو سمة، أما الانفعال فهو تفاعل أو رد فعل أكثر، وطبعا هناك اختلافات بين الشعوب، وهذه الاختلافات متعلقة بالثقافة الخاصة بكل شعب، والفروق قد تمتد إلى الثقافات الفرعية داخل الشعب الواحد، فمزاج أهل دمياط غير مزاج أهل نجع حمادى، ومزاج سكان حارة السكر والليمون غير مزاج نزلاء الرحاب والتجمع الخامس، أما اختلاف مزاج الشعب المصرى ككل عن الشعوب المحيطة به فهو وارد طبعا، والشعوب العربية ليست لها مزاج سائد واحد، وأنا أتعرف على ذلك من المترددين علىّ من المرضى من مختلف البلاد العربية، ومن أهلهم الذين يصاحبونهم عادة، فاليمنى يأتى عادة وهو جاهز بثقة مطلقة فى طبيبه يسّلمه العهده قائلا “أنا معتمد على الله، ثم أنت”، غير اللبنانى الذى يناقش الطبيب من البدايه فى طبيعة الأعراض الجانبية للأدوية التى لم يكتبها الطبيب بعد من فرط شطارة اللبنانى المريض!، أما المزاج الإفريقى فهذا شأن آخر، وخبرتى معه أقل، لكننى شخصيا أعتبر أن الجنس الاسود هو أصل البشرية، وهو الأقرب والأدفأ، بل والأرقى انسانيا وإن كان التخلف المدنى قد حرمه مقومات كثيرا، وحينما نجح أوباما ورأيته يرقص مع المذيعة تصورت أن أمريكا البيضاء يمكن أن تفيق من غرورها وغطرستها، ثم تكشف لى أن سماره مضروب غير أصلى، وذلك حين تعرى بنفاقه وتحيزه، فإذا به مهرج سطحى عولمى، فطردته من شرف الانتماء إلى هذا اللون الذى اعتبره اقرب إلى الطبيعة وأقدر على الإعمار، لكننى مازلت محتفظا بحقى أن اعتبر نيلسون مانديلا هو ممثل الانسان الإفريقى الأسود، وهو الأصل الراقى لمن هو إنسان.
س3: مما يتكون المزاج المصرى العام وهل تلعب أحداث التاريخ والعادات الاجتماعية أدواراً مؤثرة فى تغيير هذا المزاج .. أم ماذا؟
د. يحيى:
المزاج المصرى هو نتاج التاريخ والجغرافيا معا، واعتقد أن المزاج الرائق فيه له علاقة بانبساط أرضه حول النيل الذى سقاه وأطعمه، ولم يبخل عليه، اما المزاج المصرى الدورى القوى الذى يتناوب بين الفرح والانقباض وهو الذى اسماه صلاح جاهين “الشخصية الفرحانقباضية” فأنا اربطه بشكل ما بعلاقة المصرى بدورات الفيضان من ناحية بل وبدورات الطبيعة والليل والنهار، وأيضا بعلاقة عباداته بدورات الطبيعة كذلك، وحتى فى القرى فإن “الدور” الذى تنظمه وزارة الرى للترع يمثل دورات ربما تدعم الايقاع الحيوى للشعب المصرى ومزاجه الدورى. أما العادات الاجتماعية فهى ايضا عامل داعم للتراحم الأعمق مثل التكافل الاجتماعى الذى يميز ثقافتنا الشعبيه خصوصا العادات التراحمية وتتمثل فى فى النقوط فى المناسبات المتكررة من الولادة حتى الطهور، وكذا، زيارة المريض ومعك ما يعينه على أزمة مرضه، وفى الجمعيات النقدية التى تعملها النساء مع بعضهن البعض، وهى تمثل قروضا حسنه بلا فوائد، ويترتب من يقبض أولا حسب احتياجات أفرادها وظروفهم، كما تتمثل هذه العادات رمزا حتى فى سنة إرسال طبق من أى طعام له رائحة تصل إلى الجار: من أول قلْى الطعمية حتى شواء اللحمة”، وهكذا.
س4: أيهما أقرب فى التأثير فى هذا المزاج: الأحداث الطيبة أم السيئة ولماذا؟
د. يحيى:
لا يمكن الجزم بترجيح الأكثر تأثيرا هكذا “إما أو”، لكن حين يسود المزاج العام جو من عدم الثقة ومن ثم الشك والتشكيك والتوجس حتى الرعب، فإن الافراد يصبحون أكثر عرضه للتوجس وربما الانسحاب، أما حين يسود العرفان بالجميل أو توقع الخير فإن المزاج الفردى يعلنها بطريقته كما ظهر العرفان فى أغنية “تسلم الأيادى” وظهر توقع الأمان فى أغنية “بشرة خير”
س5: عندما نقترب من الأحداث السياسية والوطنية الساخنة ونسألك كيف رأيت المزاج المصرى فى الفترة ما بين 30 يونيو عام 2013 و30 يونيو 2014؟
د. يحيى:
هذه فترة عام كامل، ولا يمكن وصف المزاج المصرى فيها بصفه واحدة ثابته، فالرسائل كانت تصل تباعا، وفى رأيى أن مزاج الثقة والإصرار كان هو الغالب، لكن هذا لم يمنع الناس من أن تحذر وتترقب وهى تتردد، أو يُردد داخلها “اللهم اجعله خير” وهى العادة التى تحد من الاندفاع إلى الاعتمادية أو إلى التفاؤل دون مسئولية، لكن عموما كان السائد أن كابوسا قد انزاح وأن الله لطيف بعباده.
س6: وهل هناك مؤثرات خاصة لعبت دورها فى التأثر على هذا المزاج؟
د. يحيى:
طبعا، فقد كان لأداء الرئيس عدلى منصور دور هائل فى استعادة مزاج الاحترام والثقة فى من يُمتحن بقيادة هذه الأمة العريقة، ثم ساد جو الترقب والتخمين فى فتره عزوف الرئيس السيسى عن التصريحات المفرقَعَة والوعود الألعاب النارية، خاصة وقد صاحب ذلك تأجيل إعلان تفاصيل برنامجه، وظل البندول يتراوح برقه دون تقلبات عنيفة عاما بأكمله حتى اطمأن الناس أنه لا خداع، ولا نكسة، فتوكلوا على الله وقالوها “الحمد لله” بطريقتهم ثم “ربنا يوفقنا معا” بمسئوليتهم، وأعلنت الصناديق ذلك.
س7: كيف يمكن لعلماء الطب النفسى تفسير ظاهرة هذا الحشد غير المسبوق والذى شاهدناه يوم 30 يونيو عام 2014؟
د. يحيى:
قلت مرارا أنه لا داعى لحشر علماء الطب النفسى فى تفسير الظواهر الشعبية والتاريخه أكثرمن قدرة علمهم مهما اجتهدوا، هذه ظواهر تاريخية قوية أكبر من الطب النفسى والأطباء النفسيين، لكن هذا لا يمنع أى مختص أن يشارك كل الناس فى محاولات الفهم وإبداء الرأى، لكن من موقعه كمواطن مدعم بتخصصه لا أكثر، وليس مفتيا يصدر أحكاما تفسيرية لما لا يقع فى بؤرة اختصاصه.
س8: هل هناك ظواهر نفسية تاريخية مشابهة لما حدث فى المجتمع المصرى يوم 30 يونيو عام 2014 أم أن ذلك ليس له مثيل فى التاريخ؟
د. يحيى:
يا خبر! أنا يخيل إلى أن هذا هو الأصل، من أول نقد التجمعات القطيعية المُساقة بدون وعى، حتى احترام الوعى الشبابى خاصة، التاريخ كله سلسلة من الابداع الجماعى وهذا ما أصف به الثورات الناجحة، أما نقد القطيع فقد عبر عنه أمير الشعراء احمد شوقى وهو يقول فى مصرع كليوباترا
اسمع الشعب “ديون” كيف يوحون إليه
ملأ الجو هتافا بحياة قاتليه
أثر البهتان فيه وانطلى الزور عليه
ياله من ببغاء عقله فى أذنيه…!!
أما المثال الأوربى الأقرب لى فهو ثورة الشباب فى فرنسا فى مايو 1968 وقد كنت فى باريس عقبها مباشرة، وأمضيت عاما كاملا تابعت فيه آثارها، حتى قال لى صديقى الفرنسى، “إننا كنا نسير فى الشوارع معا وكأننا على ابواب الجنة”، قالها فى سياق ناقد لمآل حركة الشباب تلك، حيث أضاف: أن ما تبقى من ثورة الشباب هذه هو أن الاستاذ المحاضر فى الجامعة لم يعد يقف على قاعدة عالية، وهى التى كانت تسمح أن يراه جميع الطلبة حتى الصفوف الخلفية، وكان صديقى هذا يعنى أن ثورة الشباب بدلا من أن تدخلهم الجنة أنزلت الرؤساء شكلا من على المنصة، فلم يعد يراهم طلبة الصفوف الخلفية، وضحك طويلا باتساع.
س9: ما هى أهم الدوافع النفسية والوطنية والاجتماعية التى ساهمت فى اقبال هذا العدد الكبير من المصريين من أجل المشاركة فى التوقيع على الاستمارات التى كانت تنادى برحيل الإخوان وتولى الجيش؟
د. يحيى:
هذا شعب يمهل ولا يهمل، وهو بذلك ينفذ إرادة الله، قد تخدعه وتكتسب عطفه وانت فى موقع المجنى عليه أو المظلوم، سواء كان هذا الموقع حقيقة أم ادعاء، لكنك لا تستطيع أن تخدعه على طول المدى، وقد حور شعبنا المثل القديم الذى يقول “دولة الباطل ساعة ودولة الحق إلى قيام الساعة” بمثل مستحدث يقول “دولة الخيبة ساعة ودولة النصب تلات تربع ساعة”.
س10: هناك أحداث كثيرة ومتلاحقة فرضت نفسها على المزاج المصرى العام فى هذه الفترة مثل فكرة تفويض قائد الجيش للخلاص من حكم الإخوان وأحداث رابعة العدوية وميدان النهضة واستقبال الناس فى الشارع لها وكذلك خروج الإخوان.. فما تفسير كل ذلك من وجهة نظرك كعالم وكطبيب نفسى مشهور؟
د. يحيى:
أعتقد، وبرغم كل الشائعات، ومع أسفى على كل الشهداء والضحايا من الجانبين، فإن الأمور سارت فى مجملها بحكمة لم أكن أتصور أنها ستكون كذلك، ومهما بالغ المضارون، ومنهم بعض الأبرياء طبعا، فى التهويل فى عدد الضحايا والمظلومين، وأنا قد أعذرهم من ناحية الضعف البشرى، إلا أن عليهم أن يقارنوا ضحايا الثورات عبر التاريخ من أول الثورة الفرنسية إلى الثورة البلشفية فى روسيا إلى غيرها، وقد كان من الطبيعى أن يتصدى الشجعان من الناس ومن الدولة كل من موقعه لوقف التمادى فى التخريب والتهريج والغرور، وأن نتحمل جميعا مضاعفات ذلك، فلم يكن هناك حل آخر، واستعمال أهل السلطة الرجوع إلى عامة الناس وطلب التفويض، كان إجراء حكيما فعلا، أتى بتفويض مفيد وهو الذى تأكد رسميا فى انتخابات رئاسة الجمهورية بعد ذلك.
س11: فى تصورك هل لاحظت زيادة الأمراض النفسية للمصريين نظراً لتغير مزاجهم العام فى فترة العام الماضى وبالضبط من 30 يونيو 2013 إلى 2014؟
د. يحيى:
هذا معيار غير علمى، ولا ينبغى جمع الملاحظات من الشارع أو العيادات الخاصة، كما لا ينبغى وصف آلام الناس وتفاعلاتهم مهما احتدت بأسماء أمراض بذاتها مهما بلغت إغراءات هذه التسميات، وهناك حقيقة علمية تقول إنه فى الأزمات الوجودية العامة مثل الحروب والكوارث الطبيعية العامة والثورات العنيفة تقل الأمراض النفسية وبالذات تقل حوادث الانتحار، وكأن الوعى العام يقول “إحنا فى أيه ولا فى أيه”، هو حد فاضى يعيا (يمرض)؟ إن مظاهر الحزن أو التوجس أو القلق هى تفاعلات طبيعية فى مثل هذه الظروف، بل إن علينا أن نتعجب لو اختفت، فإنها حينذاك تدل على بلادة أو لا مبالاة لا تليق بالشعب المصرى.
س12: هل فى تغير المزاج العام للمصريين خلال العام المنصرم ما ينبئ بظاهرة غير مسبوقة وما أهم آثار ذلك على المدى القريب والبعيد؟
د. يحيى:
لا طبعا، فهى ظاهرة مسبوقه ومسبوقة، وإن كان هذا لا ينبغى أن يعنى أنها متماثلة مع ما سبقها، أما النتائج فهى تتوقف على مدى استيعابنا للآلام، وعلى مدى قدرتنا جميعا (وليس الرئيس أو رجال الدولة فحسب) على إعادة تشكيل المجتمع والدولة لإكمال الابداع الجماعى لتكون ثورة، أما آثار ذلك على المدى القريب فهى تتوقف على مدى تحملنا جميعا مسئولية الخطوة الحالية والخطوات القادمة على حد سواء، فإن سادت الاعتمادية والمطالب الشخصية والفئوية، فحدِّث عن المآل السيئ بكل ألم، أما إذا اعتبر كل فرد منا أنه هو رئيس هذه الدولة وأن الله سوف يسأله عن إحياء المصريين اولا، ثم كل الناس “فكأنما أحيا الناس جميعا” فنحن نمضى على الطريق الصواب.
س13: بصفتك من علماء طب النفس المشهورين هل لو فشلت حركة إنقاذ المصريين من حكم الإخوان فى 30 يونيو عام 1914 هل كان من الممكن أن يساهم المزاج المتغير فى استمرار حركة الدفع والمقاومة حتى يتحقق خروج هؤلاء؟
د. يحيى:
هذا شعب لا يهمد، وسكوته ثلاثين عاما، وقبلها مثلها أو أقل أو أكثر لا يعنى نسيانه أو استسلامه، وأنا أتصور أن أيا منا لم ينس هزيمة 67 (وليست نكسة 67)، وأننا نستعد حتى الآن لأخذ الثار، ربما ليس بحرب معلنة، وإنما بتفوق حضارى إنسانى أكيد، تفوق قد يفيد منه العدو نفسه لو أحسن الانتماء إلى الإنسانية التى يمثلها هذا الشعب المصرى القوى العنيد، صحيح أن الضياع والخراب والثللية كانت ستتمادى أكثر لو تأخر الانقاذ عن 30 يونيو، لكن الغضب والاستعداد وثقافة التغيير كانت ستتراكم بالمقابل أكثر فأكثر فى انتظار لحظة مناسبة آتية لا ريب فيها.
س14: ماذا تقول عن المزاج المصرى وكيف تراه سواء من خلال نظرتك الأكاديمية أو الاجتماعية، وهل يمكن لنا وللعلماء دراسة مزاج شعب ما فى فترة تاريخية معينة مثل التى مررنا بها خلال العام الماضى، وهل نستطيع من خلال هذه الدراسة أن نتوصل إلى نتائح بعينها؟
د. يحيى:
أكاديمية ماذا واجتماعية ماذا؟ إن الدراسات الأكاديمية والاجتماعية على عينى وعلى رأسى، لكنها دراسات ليست وصية على الوعى العام، ولا هى قادرة على استيعاب نبض التاريخ ولا التخطيط لحضارة المستقبل، ثم لتعلم سيدى أن ما يسمى العلم الآن يعاد النظر فى دوره وتقديسه بعد أن انقلب فى كثير من المواقع الممولة باهظة التكاليف إلى مؤسسة فوقية أيديولوجية كادت تعوق حركة الناس الحقيقية ، هذه المؤسسات التى تحمل اسم العلم المؤسسى، تعمل لحساب المتغطرسين والأثرياء العولميين الجشعيين وليس لحساب الحقيقة، لكن فى نفس الوقت بدأ بزوغ علوم جديدة ناقدة لهذا العلم الجاثم الذى كاد أن ينقلب دينا جامدا وصيا على تلقائية التطور وحركة التاريخ.
س15: هل هناك عوامل ظاهرة أو كامنة تساهم فى إشعال هذا المزاج وتحريكه إما إلى أمام أو إلى الخلف أو ماذا؟
د. يحيى:
طبعا، توجد عواما وعوامل، السنا نعرف أن “معظم النار من مستصغر الشرر؟” لكن المسألة ليست فى الخوف من آثار هذه الشرارات المتطايره، والحل ليس فى إخفاء النار التى انطلقت منها، الواجب هو احترام مغزى تطاير الشرارات، والبحث عن مصدرها، ثم استيعاب النيران لنقلبها طاقة دافعة لإعادة التشكيل والاستمرار على مسار التطور، ليس فقط لمن اشتعلت عنده النيران، وإنما لكل الناس، هكذا أمرنا رب الناس، ملك الناس إله الناس، فإن لم نكن قدر هذه المسئولية، فالردة إلى الخلف واردة طبعا.
س16: ما ذا عن إمكانية وجود دراسات أكاديمية وميدانية ربما نراها قريبا سواء فى الجامعات المصرية أو العربية أو الاجنبية عن مزاج المصريين، أم سوف يتوقف الأمر عند حد تأليف الأغانى والألحان والتى يعتبرها البعض سباقة دائما للتعبير عن هذا المزاج المتغير؟
د. يحيى:
قلت حالا إننى أحترم الدراسات الأكاديمية الميدانية، لكنها ليست بديلة عن حركية الوعى الشعبى التلقائية، ولا عن استلهام مقومات الحضارة من جذورها، ولا هى سابقة لأى من ذلك، ولا بد أن تظل حركية الناس فى العمل المثابر تحت مظلة عدل مطلق، هى أصل المقاييس كلها ، وهى الأقدرعلى التعبير عن المزاج السائد المفروض أن يكون متغيرا ونشطا حسب الجارى، هذه هى طبيعة ما يسمى المزاج لأنها طبيعة البشر والحياة معا. أما الأغانى والألحان فهى تعبير عن الشعور الجماعى معا، وهو حق الناس على شرط إلا تكون نهاية المطاف، أى ألا تحل محل العمل والمسئولية.
س 17: حدثنا عن دورالفن فى التأثيرعلى مزاج المصريين، وكذلك تأثيرالخطب الرنانة سواءالعاطفية منها أو الدينية أو غيرها؟
د. يحيى:
أما عن تأثير الفن فهو بلا حدود، ولكن لا بد أن نفرق بين الفن للإثارة، والفن الثورة، وهذا يتجلى فى الشعر مثلا، فهناك ما يسمى شعر الثورة، وهو الشعر الحماسى الذى يشجع الاندفاع، ويسمى “شعر التحريض”، وفرق بينه وبين “الشعر الثورة” (كما يقول أدونيس)، الذى هو ثورة فى ذاته من حيث أنه يفكك اللغة ويعيد تشكيلها، فنتعلم منه تفكيك الساكن الخامد للتحرك نحو الإبداع الجماعى وهو ما يرادف الثورة، شعر الشابى المشهور: إذا الشعب يوما أراد الحياة فلا بد أن يستجيب القدر”…الخ يستعمل عادة على أنه شعر للتحريض، وفى حقيقة جوهره هو أعمق من ذلك إذا تأملنا معنى “أراد الحياة”، وأيضا “يستجيب القدر”، مخاطبة القدر ليست من التحريض فى شىء بل هى إبداع ليس كمثله شىء بفضل رب العالمين، أما عن تأثير الخطب الرنانة سواء العاطفية أو الدينية، فقد كشفها أغلب الناس، وإن جاء الكشف متأخرا أكثر من اللازم، التعليقات حتى على ما يسمى التوك شو أصبحت “إهييه”، و “لا يا شيخ”!!! الناس الآن تحترم أكثر فأكثر الفعل والفعل الممتد لا التسكين العاجل ولا الوعود الرنانة، حتى بالجنة ممن لا يعرفون الطريق الصحيح إليها.
س18: وماذا عن دور الرياضة وكيف تؤثر كذلك فى أمزجة المصريين؟
د. يحيى:
الرياضة ليست بديلا عن النشاط العقلى أو التدبير التخطيطى الهادف، وأنا أفضل استعمال تعبير”الشناط الجسدى” (المصاحب بالعرق عادة)، لا توجد أمة تتطورر من على المكاتب فحسب، ولا حتى فى المعامل، كما لا توجد أمة تتقدم فى الملاعب من قوق مدرجات كرة القدم مثلا، كل هذه النشاطات تكميلية وطيبة، لكن التحلى بالعمل الجسدى جنبا إلى جنب مع العمل العقلى هو الأدعى للتكامل البشرى، الجسد “عضو مفِّكر”، هذه معلومة علمية جديدة أيضا، من واقع العلم المعرفى العصبى فلنعمل حسابها حتى لا تحل الرياضة المنفصلة محل حركية الحياة المتكاملة
س19: هل يمكن أن يتأثر المسار السياسى المصرى فى الفترة القادمة بحصيلة أمزجة المصريين والتى اتضحت معالمها فى الفترة التى أشرنا إليها من قبل؟
د. يحيى:
طبعا يتأثر ونصف، لكن علينا أن نحدد ما نعنى بـ”حصيلة أمزجة المصريين فكما قلنا فى البداية إن المزاج سمة لها عمر افتراضى أطول من الانفعال، وهى سمة متغيرة بطبيعتها، وهذا لا يعيبها ، فكيف نجمع حصيلتها لو سمحت، وأخيرا فإن الحصيلة لا تتضح فى فترة سنة واحدة، الحصيلة عادة هى نتاج عقود أو قرون، فهى مسيرة بلا نهاية إلى وجه الحق تعالى، فالأولى أن نؤجل الحكَمَ كما تُعلمنا الفينومينولوجيا.
س20: وأخيرا هل يمكن أيضا أن يساهم المزاج المصرى المعتدل فى مراحل التنمية من أجل الخروج مما نحن فيه من أزمات؟
د. يحيى:
“معتدل” ماذا يا سيدى، حين استمع لتعبير المزاج المعتدل أشعر بإحساس فاتر لا أحبه، فأنا أراه نوعا ماسخا غير حريف أو طازج، دعنا نتحدث عن المزاج اليقظ والمزاج النشط والمزاج المبدع، إننى حين أسمع تعبير “الحل الوسط” أو المزاج المعتدل، أصاب بنوع من الخدر المزعج، وأتذكر قول الشاعر “مسيخ مليخ كطعم الحوار فلا أنت حلو ولا أنت مر” دعنا نحترم المزاج البشرى المتصل بالطبيعة المتجاوب معها، المحترم للواقع، القادر على تغييره، وهو يتغير معه
وهكذا نخرج مما نحن فيه من أزمات.
والله المعين.
[1] – تم نشر هذا الحوار فى ملحق جريدة الاخبار بتاريخ 30-6-2014