الاهرام 28–8–1975
مهرجان درجات الثانوية العامة
بين مسئولية الصحافة.. وشجاعة المسئولين
تخوف مبدئى: ترى هل تسمح حرية الصحافة ان تواجه الرأى الآخر!! وبعد، فنحن نعيش هذه الأيام فيما يمكن ان اسميه مهرجان الدرجات، وكأن العبقرية قد حلت فجأة على عقول ابنائنا كالوباء، فارتضت درجاتهم مثل ارتفاع فو المائة فى المائة (1.4% ، 1.7%، …الخ) ويفرح الطلبة والاهل بهذه الارقام، ولكنهم سرعان ما يتعينون عند التنسيق ان المجموع “السمين” لم يكن الا ورما، على حد قول المتنبى لكافور (… ان تحسب الشهم فمين شحمه ورم)، وينكشف ارتفاع الدرجات عن حمى موسمية ليس الا، وكان درجات الطلبة قد اصابها ما اصاب نقود هذه الأيام من قلة البركة “حيث أصبح وجود القروش لا يعنى امكان شراء الشئ” [أى شئ].
وعندى ان مسئولية هذا التهريج ترجع الى طفولتنا العاطفية واهتزاز قيمنا وقصر نظرنا جميعا.
وتبدأ القصة بالهجوم العاطفى على صعوبة الامتحانات فى الصحف عامة، ويقع النقاد مبدأ خطيرا يصف مرحلتنا البدائية وهو “مالا اعرفه فهو سخيف… او على احسن الفروض هو “صعب لا لزوم له”، ناسين اثناء ذلك ان للامتحانات تأتى فى مقررات محدودة، ومتجددة وأن الحكم لها أو عليها لا يأتى من محاولة رشوة قارئ الصحيفة اليومية، وتوجيه عدوانه المكبوت على السلطة الى الهجوم على المسئولين اذ يؤدون واجبهم التربوى بامانة، واتذكر مثلا الضجة التى ثارت حول امتحان اللغة العربية فى الشهادة الابتدائية هذا العام وبالذات صعوبة تعريف كلمة التراث، وتعريفها موجود ومريح فى المقرر الدراسى ليس للسنة السادسة فقط، ولكن فى السنة الرابعة الابتدائية هذا العام، وقد اجابت عنه ابنتى فى السنة الرابعة – وليس السادسة- بأنه “ما تركة الاباء والاجداد” – وهى ليست متفوقة أبدا – ولكنى اذكر كيف استدرج سيادة الوزير فى حديث صحفى حتى قال ان المختصين لم ينظرا بعد على تعريف الكلمة ناسيا أن المقررات الدراسية لها وظيفة محددة فى مرحلة محددة لا تتدخل فى الاختلافات النظرية لمبادرة المتبحرين، ولكن الوزير معذور إذا يبدو أن من خصائص وظيفته أن “يتعاطف” مع “أبناء الشعب” استجابة للسلطة الرابعة، لماذا يفعل المسئول من وضع الامتحانات بعد ذلك وهو يتابع تصريحات الوزير وصباح الصحافة! لابد أن يستحضر كل هدفه – متذكرا قوانين الاصلاح الوظيفى – ويحاول ارضاء “الناس اللى فوق” و”الناس اللى تحت” فى وقت واحد، وليس اسهل فتحقيق هذا الهدف من تقسيم المواد الى مستوى رفيع ومستوى “نص نص” [ولعله يصبح فى العام القادم مستوى وضيع كذلك] ثم وضع امتحانات مباشرة وليس مجرد سلهة ويبدو ان مواضيع الانشاء فى الملفات الثلاث اصبحت مقررة ايضا مثل “النصوص” زمان وتكتمل القصة والنهاية السعيدة مثل الافلام المصرية “مهرجان الدرجات”: ولكن مكتب التنسيق اللئيم سرعان ما فض اللعبة من اولها.
وأنا لا أدافع هنا عن نظام الامتحانات دفاعا مطلقا – فهو لا شك نظام ناصر وعاجز ولكنه – حتى هذه الايام – مازال افضل النظم [العاجزة جنسيا] والزمها فى مجتمع يزيد فيه العدد عن الفرص المتاحة، ونقدس فيه الالقاب والمظاهر من الفاعلية المتبقية فى الحياة، وتهبط فيه الاخلاق الى درجة تشكك فى كل حل بديل [اختبارات شخصية ومسابقات خاصة] ويتواضع فيه علم قياس الندوات الى درجة تضع حول نتائجة علامات استفهام عديدة (ليست اقل مجالا من علامات الاستفهام حول الامتحانات)
واخيرا: وحتى ينتقل المجتمع الى مرحلة اكثر رقيا وارحب صدرا بالفاشلين – دراسيا- (الناجحين انسانيا وتطوريا) لابد وان يراجع كل صحفى نفسه قبل ان يثير ثائرة الناس على صعوبة امتحان ما، وان يراجع المسئولون غيرهم دون خوف من توجيهات سيادة الوزير “التعاطفية”، ويكون الهدف واضحا نصب أعينهم وهو، وضع امتحان جاد، متدرج فى الصعوبة يسمح للطالب الخلاق المتحدى ان يخترق هذه الصعوبة ولا يكتفى بأن يحصل الطالب الصمام على 100% واكثر، وليتذكر الجميع – الأهل والطلبة والصحافة والمسئولون – انه لا يغير “الاول” ان يكون مجموعه 80% وان كل الامتحانات التناقسية فى كثير من بلاد العالم لا تضع حدا اعلى او ادنى للنجاح ولكنها تختار المطلوب من بين المتقدمين لهذا الامتحان مهما كان المجموع، وقد يصل ان يكون مجموع الطالب الاول فى اعلى الشهادات 55% مثلا.
وأخيرا فانى اشعر صادقا انها محنة التزام ومسئولية اولا وقبل كل شئ، ونحن فى حاجة الى درجة اكبر من الشجاعة والشعور بالواجب مهما قبل – والرزق على الله- ودرجة اقل من الصياح والشكوى وتبرير العجز مهما بلغ الالم البناء، ومزيد متصاعد من الوعى والمسئولية وبعد النظر.
ثم لنا بعد ذلك ان نأمل فى جيل جديد جاد، ومفكر، ومؤثر، وليس جيلا شاطرا، مرتدا ومخدوعا.