الوفد: 14/5/2001
من يحكم العالَم؟ ومن يحكم مصر؟
ما يسمّى “العولمة” ليس موضوعا فكريا يدور حوله نقاش فى ندوة، أو ينشر عنه مقال من مثقف محترف موسوعىٍّ فاهم. إنها مسألة تمس كل عقل ووجدان ووعى أى كائن بشرى على ظهر الكرة الأرضية، حتى لو لم يكن قد سمع الكلمة أصلا.
إن كل بيت فى أقصى قرى الصعيد، وكل فرد فى أبعد تعريشة فى حقل تين فى صحراء الضبعة محافظة مطروح، يتأثر بقرار السيد دبليو بوش، أو السيد بلير، أو أى سيد من الذين “دانَ الزمان لهم، فما يصيبـنا إلا بما شاؤوا”.(مع الاعتذرار لأبى نواس).
لعل هذه الحقيقة تفسر اهتمام الشارع المصرى بانتخابات الولايات المتحدة، وانتخابات إسرائيل، أكثر من اهتماماته بانتخابات مجلس الشعب، ناهيك عن مجلس الشورى، عندنا.
ويا ليت الأمر يتوقف عند تأثير هؤلاء الرؤساء “الـُمنتَخَبِـين” جدًّا فى العالم المفترِى فى الشمال والغرب، بل إن هؤلاء أنفسهم تسيّّرهم قوى أعظم من الأعظم، أقلها معروف، وأغلبها غير معروف.
إن الحديث عن تحيّز موقف الدول مع إسرائيل حتى بعد أن تعرّت عنصريتها، وغطرستها، وإجرامها بهذه الصورة التى لا تحتاج إلى مزيد، لم يشغلنى كثيرا بقدر ما فزغت من تحيّز شعوب هذه الدول وقسوتها. إنه لا يوجد تفسير لتحيز هذه الشعوب المتقدمة، التى لا تكف عن ترديد ادعاءات الدفاع عن حقوق الإنسان إلا أنه قد تم تشويه وعيها بشكل لا صلاح له. إننا لا نحتاج أن نكرس إعلامنا للرد عليهم، إن إعلامهم هم كفيل بالرد لو استقبله حس سليم ووعى نظيف. إن أى طفل فى السابعة من عمره يشاهد أى محطة من محطاتهم ، ولتكن السى إن إن CNN، لا يمكن أن يحتاج منا إلى أى إيضاح آخر أو إعلام خاص. إن الخطورة أن الوعى هناك قد تشكل بشكل مشوه حتى طغى على المنطق البسيط، وشوّه قيمة العدل التى يعرفها طفل يلعب مع آخر أى لعبة لها قواعد متفق عليها. من هنا يمكن القول : إن تأثير القوى التى تحكم العالم وصل إلى درجة أن تغوص فى وجدان الناس حتى لا يعودون يميزون الأبيض من الأسود أصلا.
الإنسان المعاصر فى حضوره فى العالم الآن لا يتصرف تبعا لما وصلت إليه أبحاث المعامل، أوإنجازات التكنولوجيا، ولا تبعا لما يسمع من خطب العرش، أو ما يشاهد فى المؤتمرات الصحفية التى يعقدها الرؤساء، أو حتى تبعا لما يصله من قرارت مجلس الأمن، وإنما يتشكل وعيه بناء على ما تبرمج به لصالح الحكام الحقيقيين فى العالم. من هم هؤلاء ؟ وما مدى سلطتهم على الفرد العادى فى غير بلادهم ؟
الرقص بالأمـر:
خذ مثلا مسألة الاحتفال بالألفية فى نهاية سنة 1999 وليس فى بداية سنة 2001. لا يوجد أى شك – حتى عند طالب فى سنة ثالثة ابتدائى – أن أى عدٍّ يبدأ برقم واحد. كل العقول البسيطة التي تعرف مبادئ الحساب قالت إن احتفال العام الماضى كان خطأ. ومع ذلك تم الاحتفال من أقصاها إلى أقصاها لمجرد أن القوى الأعظم قررتْ ذلك. وحين حلّت البداية الحقيقية للقرن الواحد والعشرين هذا العام، لم تستطع العقول الأصح أن تذكرنا بمنطقها السليم، فنحتفل ولو احتفالا معادا رمزيا من باب “إثبات الحق”. تعجبتُ حين وردت هذه التذكرة من أستاذنا القدير محمود عبد المنعم مراد هنا على هذه الصفحة منذ أسابيع. ولكن تقول لمن؟
أنا لا أناقش هذه الجزئىة ولكننى أنبه على أنه حتى “الأمر بالرقص، والغناء، والشرب”، فى ليلة بذاتها من ليالى التاريخ، وعلى مستوى العالم، أصبح لا يخضع للعلم أو الموضوعية، وإنما لإرادة الأقوى ومزاجه !!!!
المؤامرة على صحة الناس:
خذ مثالا آخر: تندمج شركات الدواء العالمية العملاقة مع بعضها البعض، ويبدو الأمر- كم تقول التصريحات الجاهزة للمندمجين – أنها عملية تجارية تهدف إلى توفير العمالة، أو تسهيل البحث العلمي المشترك، أو تنظيم التسويق، لكن الذى يدفع ثمن هذا الاندما ج هو محمد عبد ربه البسطامي من المظاطلى مركز طامية محافظة الفيوم. هو فلاح مريض مصاب بنوبات صرْع منذ سنين، كان الطب -قبل اندماج هذه الشركات – قد نجح أن يضبط نوباته بدواء (اسمه أنتيساسرْ. مثلا) منذ خمس عشرة سنة: حتى أصبحت النوبات تأتيه كل أسبوع بدلا من كل يوم، ثم كل شهر ثم انقـطعت تماما منذ سنة، لكن الدواء اختفى من السوق بفعل فاعل، وحل محله دواء آخر ليس له نفس فاعليته، كما أن ثمنة يبلغ مائة ضعف الدواء الأول (لا يوجد خطأ مطبعى، نعم ثمنه خمس وعشرون جنيها، وأكثر، وهو أرخص من دواء ثالث، للصرع أيضا، ثمنه خمسون جنيها وعدد الأقراص فى العلبة أقل) وقس على ذلك.
ظللت أستعمل هذا الدواء (أبو خمسة وعشرين قرشا) المضاد للصرع منذ سنة 1958 فى قصر العينى حتى اختفى منذ بضع سنوات، مع أنه نجح فى ضبط نوبات عدد هائل من الصرعيين الفقراء الذين يترددون على العيادة الخارجية مجانا.
هذا ليس مثالا فريدا. الأمر ينسحب إلى كل أنواع الأدوية ، أكاد أقول “بلا استثناء”.
أستطيع أن أقدم جدول مقارنة بين أثمان ومدى فاعلية العقاقير التي كانت تعالِج المرضى النفسيين، وبين أثمان وفاعلية العقاقيرالأحدث التي حلّت محلها .لا لمصلحة المريض، ولا لتقدم العلم ، ولكن للمكسب الفاحش الذى يحرم أى فقير من العلاج.
فى الاجتماع الأخير (9 إبريل سنة 2001) فى مركز التخطيطات والسياسات الدوائية التابع لوزارة الصحة، وبصفتى عضوا في لجنة النفسية والعصبية، تقدّمتُ للمرة العاشرة بعد المائة (تقريبا) مثل سائر زملائى الأفاضل فى اللجنة، نطالب بالحفاظ على استمرار وجود العقاقير الأقدم والأرخص التي تعالج الفصام (والذهان عامة= الجنون) مثل عقار اللارجاكتيل (الكلوربرومازين) وهو أول عقار غيّر مسار علاج الأمراض النفسية، منذ سنة 1952 وحتى الآن. كانت شركتان مصريتان (على الأقل) تنتجان هذا العقار محليا باسم “بروماسيد”(شركة سيد) و”نيورازين”. (شركة مصر). بدأت إرهاصات الإغارة العولمية بتناقص حقن البروماسيد، ثم اختفائها، ثم اختفاء حبوب 25 ملليجرام، ثم حبوب 100 ملليجرام، ثم اختفاء العقار تماما. كل ذلك لحساب عقاقير جديدة يصل ثمنها إلي مائتى ضعف ثمن العقار الأصلى. (المريض الذى كان يتكلف علاجه في الشهر خمسة جنيهات على الأكثر أصبح يحتاج إلى أكثر من مائتى جنيه-تصل أحيانا إلى أربعمائة إلى ستمائة جنيه) شهريا ليحصل على الجرعة المساوية لفاعلية العقار القديم.
قيل لنا فى الاجتماعات المتتالية أن الشركة أوقفت إنتاج هذه العقاقير الرخيصة لأنها تخسر منه، فطالبنا أن ترفع ثمنها عشرة أضعاف، بل عشرين ، والمريض هو الذى سيكسب. إلا أن الرد الجاهز كان أن هذا “ضد سياسة الدولة ” . يا عالَمْ : ملايين المرضى مستعدة أن تدفع فى نفس الدواء الذى شفاها فعلا، عشرين ضعفا. لكن أبدا هذه هى الأوامر. وتكون النتيجة لصالح الشركات المندمجة والمعوملة. إن نتيجة الإصرار على عدم رفع السعر هى “الاختفاء كلية”، ولا توجد تعليمات تمنع اختفاء الدواء مثلما توجد تعليمات استحالة رفع سعره.
فى نفس الاجتماع الأخيرة، ذكر الزميل رئيس اللجنة – أ.د. أحمد عكاشة- أن مراجعة الدراسات على مستوى العالم والتى بلغ فيها عدد الحالات – على ما أذكر – أكثر من إثنى عشر ألف (000،12 حالة) حالة أثبتت أن فاعلية هذا الدواء الأقدم والأرخص هى الأفضل أو هى مساوية للأحدث، وأن آثاره الجانبية محتملة، ومقدور عليها.
كنتُ أحسب أن هذه المصيبة قاصرة على البلاد الفقيرة مثلنا، لكن زملائى الذين يمارسون الطب النفسى في الولايات المتحدة الأمريكية، وبريطانيا -حين يزورننا هنا فى مصر بين الحين والحين- يحسدوننا أن بعض الأدوية الرخيصة الفعالة ما زالت فى متناولنا، وأنهم هناك فى البلاد المتقدمة لا يجدونها أصلا، أو هم يتجنبون استعمالها -إن وجدت – تحت وهم إشاعة كاذبة أن لها آثار جانبية لا يمكن تجنبها.
محاولات متواضعة مضادة
نجحت وزارة الصحة عندنا – مشكورة لصالح المرضى- في التحايل على مبدأ عدم رفع سعر هذه العقاقير، بأن كلفت بعض الشركات أن تنتج نفس العقاقير باسم آخر بثمن آخر، أغلى قليلا (عدة أضعاف فقط، وليس مئات الأضعاف) لكن هذا لم يمكن تعميمه على سائر الأدوية.
إن مكاسب الشركات العملاقة تصل إلى درجة تسمح لها بشراء أى قرار وقف العقار المنافِس لو دفعت للشركات -من وراء ظهر وزارة الصحة – إكراميات تبلغ ملايين الجنيهات . إن الإغراء لا يمكن تجنبه، ولتبسيط الأمر أقول : تصور أنك تكسب من سلعة ما تسعة آلاف جنيه فى العام، وتنافِسك سلعة أخرى تهدد هذا المكسب، هل يضيرك أن تعطى من ينتج هذه السلعة الأرخص جنيها واحدا أو اثنين حتى يتوقف عن إنتاج سلعته الأرخص؟ إن شركة “لِلِـِى” كسبت سنة 1999: 016،1 مليار دولار (أى أكثر من أربعة مليارات جنيه مصرى-تعمدتُ أن أقتطف الرقم من مجلة عامة هى : نصف الدنيا عدد 586 مايو 2001) ، هل يمكن استبعاد أن يكون سبب توقف إنتاج العقاقير المنافسة هو إعطاء بضعة ملايين (أى ما يقابل بضعة جنيهات من ثمانية ألف جنيه) لمن يتخذ قرار الإيقاف للعقار الأرخص؟ (ليس عندي دليل، ولا أتهم أحدا، لكننى أعيش مأساة مرضاى ، فأفكر في الاحتمالات).
على نفس القياس يمكن أن تُفهم تفاهة ما تصرفه هذه الشركات العملاقة فى تنظيم غسيل مخ الأطباء (حسنى النية طبعا) بالسفر، والمؤتمرات ، والبوفيه المفتوح، وكل ما يعرفه القاصي والداني. لم أفهم أبدا لماذا ينبغى أن نسافر إلى الغردقة (أو باريس) لنسمع محاضرة عن أن الدواء الفلانى “كويس جدا”. هل منتجع الجونة أو فندق خمس نجوم فى واشنطن،”يفتح مخ الأطباء لفهم العلم” أكثر من درجة تفتحه فى مدرجات قصر العيني مثلا؟
علاقة كل ذلك بالسياسة
ما علاقة كل ذلك بانتخاب السيد جورج دبليو بوش، أو السيد رئيس ساحل العاج ؟
إن شركات الدواء -كمثال- أصبحت الآن هى اللوبى “السياسى” رقم واحد فى الولايات المتحدة بعد أن تراجعت شركات السلاح إلى المركز الثانى. (نتيجة للفشل النسبى فى إشعال الحروب، أو التخويف بها عند الخائبين أمثالنا.)
حين يتكلم العارفون، والساسة، عن أن شركة دواء هى لوبى سياسى، أساسا فى الولايات المتحدة الأمريكية، ومن ثم فى العالم، لابد أن نتوقف لنفهم معنى ذلك، وعلاقته بغـطرسة إسرائيل، و بمقتل محمد الدرة، واغتيال الرضيعة إيمان حجور، ثم عن علاقة هذا وذاك بتعيين رؤساء الدول ومجالس النيابة فى العالَم (بالانتخاب طبعا!!).
هذه الشركات، مثل كل الشركات عابرة الجنسية، بما فى ذلك شركات الأسلحة والسيارات وكل شركات الاستهلاك المغترب هى التي تتحكم برجالها وأموالها في ديمقراطية العالم المزعومة، ومن ثم فى اختيار رؤساء الدول وأعضاء المجالس النيابية.
هؤلاء الرؤساء – بدورهم – هم الذين يصدرون الأوامر لصالح الشركات ( مثال: تراجُع دبليو بوش عن التوقيع على معاهدة كيوتو – لصالح الشركات- ضد محاولات سد ثقب الأوزون وإنقاذ الكرة الأرضية من الغرق)
هؤلاء الرؤساء هم الذين يؤثرون بشكل مباشر أو غير مباشر على انتخاب (أىْ تعيين) أغلب رؤساء العالم وتوجهاتهم. (مثال قديم: 99 % من أوراق اغتصاب فلسطين فى يد أمريكا، وحاليا: راعى السلام الأول(أمريكا) هو الذى بيده إنقاذ إخوة وأخوات محمد الدرة، وأيضا فتح بيوت أعمامه وأخواله بتشغيلهم فَعَلَة لبناء مستوطنات إسرائيل!!!).
الأصولية (حاكم سرى آخر)
لاحت مؤخرا-وراء الستار- قوى محركة أخري أصبحت شريكا فاعلا في تسيير العالم، وأعني بها الأصولية التى تتجمّع فى سائر الأنحاء سرا وعلانية، وقد تجلّت الأصولية “اليهومسيحية” فى أمريكا بوجه خاص إذ أصبحت تمثل حوالى ثلث الأصوات الانتخابية (راجع- حذِرا- الكتاب الهام الذى صدر مؤخرا باسم “المسيح اليهودى، ونهاية العالم”. تأليف “رضا هلال”. لكن مناقشة تفاصيل هذه القوى الأخرى (غير الشركات عابرة الجنسية) يحتاج لحديث مستقل.
ثم يبدو أن هاتين القوتين (الشركات العابرة الأقوى من الدول، والأصولية الأسطورية الأقوى من الأديان) تتفاهم مع بعضها البعض، ومع شريك ثالث هو شركات الإعلام وتكنولوجيا المعلومات، لتسيير العالم.
خلاصة القول (مؤقتا):
(1) إن التركيز على نقد النظام المحلى، دون الالتفات إلى المصيبة الشاملة على مستوى العالم، هو قِصَـر نظر خطير.
(2) إن إلقاء اللوم على النظام العالمى لا ينبغى أن يبرر لنا خيبتنا البليغة إذ نتصور أننا مجرد ترس لا نملك الانفصال أو الاستقلال. نحن الأفقر ندفع الثمن باهظا.
(3) إن هذا وذاك لا يعنى رفض العولمة أو الدعوة إلى الانغلاق أو العزلة ، لكنه يحمّّل كل فرد مسؤولية نوع وجوده، ويطالبه أن يهيّىء نفسه للاشتراك في الثورة القادمة (راجع مغزى اللافتات المرفوعة على مستوى العالم بمناسبة عيد العمال.ملبورن مثلا).
(3) إن الديمقراطية الخاضعة لتأثير من يستغل مرض الناس، ويثير الحروب ، لمجرد مزيد من المكسب، ليست الديمقراطية التي فوّضت سعد زغلول فى التفاوض باسم شعب مصر، ولا هي التي انتخبت النحاس باشا سنة 1950. وللحديث بقية.