نشرة “الإنسان والتطور”
الأحد: 19-9-2021
السنة الخامسة عشر
العدد: 5132
من كتاب “من حركية الجنون إلى رحاب الناس” (1)
(مرورا بالعلاج الجمعى)
الفصل الأول
ملامح المنهج، والتعريف بالحالة (4 من ؟)
مقدمة:
أنهينا حلقة أمس ونحن نواصل عرض أهم معالم المقابلة مع المريض وكانت نهاية الحلقة كالتالى:
د. يحيى: أنا مش هادخل فى أى تفاصيل إلا بإذنك، مثلا الحادثة اللى انت مـُـحـْـرج منها، ياترى هى حصلت صحيح ولاهى جزء من المرض، يستحسن نأجل الموضوع ده، بس أقول لك من البداية إنى أنا كدكتور كبير يعنى شوية، كتير جداً من عيانينى يقولوا حصل كذا كذا كذا، فا أنا أقول ياربى ما يمكن هما زودوها شوية نتيجة للوحدة والخوف، فـَـكـِـبـْرِت معاهم، ولما بنعرف الحقيقة، ده بيفرق فى العلاج بجد.
محمد: هو شئ حصل معايا، بس ما فضلش معايا علشان أنا مش كده.
د. يحيى: بصراحة أنا رأيى على حسب ما سمعت من د. هشام إنه يجوز ماحصلش من أصله، ومع ذلك ما دام انت قلته، فيبقى حقيقة بالنسبة لاستقبالك، وده كفاية عندى، مش ضرورى يكون حصل فعلا فى الواقع ولا لأه، المهم إنت استقبلته على إنه حصل
محمد: أنا شايفها أنا كده.
ونواصل اليوم:
………….
محمد: أنا شايفها أنا كده.
* من حيث المبدأ، من هذا المنظور العلاجى نحن نتعامل مع أعراض المريض بما فى ذلك ما يسمى ضلالات أو هلاوس على أنها واقع له قوة (واحترام) الواقع الخارجى، علماً بأن الواقع الداخلى أحيانا يكون أكثر موضوعية من الواقع الخارجى، ومن البداية يظهر أن هدف المعالج هنا هو أن يُطَمئن المريض أنه يحترم ما يعايشه (وليس: يأخده على قد عقله إطلاقا)، وفى نفس الوقت هو يلمـّح بأنه سيرجع لفحص الواقع الداخلى جنبا إلى جنب مع الواقع الخارجى، وهذا المدخل يسمح، ومن البداية، بأن نـُـرجع بعض المثيرات والمدركات الخارجية إلى أصلها باعتبارها كيانات داخلية، وأيضا قد يكون تمهيدا للتعامل مع الهلاوس والضلالات كواقع داخلى فى الوقت المناسب، وهكذا يتراجع التفسير (أو الاتهام) الذى يتكرر من الأهل وكثير من الأطباء قائلين للمريض بإلحاح أنه: “دا بيتهيأ لك، دا بيتهيألك”، ويوصل للمريض رسالة احترام حقيقية فتتولد الثقة بقدر ما يؤمن الطبيب بما يقوله للمريض (بما فى ذلك واقعه هو الداخلى: واقع الطبيب الداخلى والخارجى (أنظر بعد)
د. يحيى: يبقى اتفقنا، الحقيقة حقيقة سواء حصلت برّانا، أو شفناها جوّانا، إنت قلت كلمة جيدة جدا: أنا شايفها أنا كده، يبقى شـَوَفـَاَنك هو المهم.
محمد: لدرجة إن أنا قاومت نفسى.
د. يحيى: يعنى إيه قاومت نفسك؟
محمد: قاومت نفسى إنى كمّلت جيش.
د. يحيى: تكميل الجيش ده لوحده يمكن يكون دليل على قدرتك على احتواءاللى جرى، يعنى محتمل تكون حصلت فى استقبالك إنت، وتكميلك الجيش يجوز يدل على إنك راجعت نفسك، أو على إنك متفهم الواقع، بس الحكاية كبرت منك عشان كنت عايز تتجنب عقوبة أكبرمن إللى حصل، مافيش احتمال يامحمد يكون ده ماحصلش، يعنى هل فيه إحتمال مايكونش حصل فعلاً، ومن كتر الخوف إتجسد لك إنه حصل، إحتمال مجرد احتمال.
محمد: لأ حصل.
د. يحيى: أنا مش بدافع عنك، كده راجل وكده راجل، حصل غصب عنك، محصلش من حقك، بس عموما هى مخزونه جواك مأثرة عليك، كده راجل وكده راجل، ولا يهمك، أنا مصدّقك تحت كل الظروف.
* التصديق هنا، ينبغى أن يكون حقيقة وليس مجاملة، وهذا يحتاج من الطبيب أن يكون مؤمنا بوجود وتأثير الواقع الداخلى فعلاً، مهما كان خفيا عليه، لكن عليه أن يواصل طول الوقت التفرقة بين التصديق وبين التسليم لوصف المريض لمثول مصدر أعراضه من خارجه، وهذا لا يعنى أن يواصل النفى طول الوقت، وإنما على الطبيب أن يهز الحقائق بطرح احتمالات أخرى، ثم لا يفرض رأيه، ولكن يطرح الاحتمالات والبدائل طول الوقت.
محمد: غصب عنى.
د. يحيى: ما يمكن ماحصلش من أصلهُ، باقول يمكن
محمد: آآآآآه.
د. يحيى: تانى مرة تقول آه بدلالة مهمة بالنسبة لى، كأنك ممكن تتقبل الفكرة إللى بقولها لك ده، ما هو يامحمد دى برضه علم وخبرة وجدعنة، أصل أنا صنايعى زيـَّك، ولا مش باين علىّ؟!
محمد: لأ باين
* كثيرا ما أفضّل استعمال كلمة “صنايعى” على لقب “دكتور“، باعتبار أن الصنعة فن، وأستعملها بسهولة مع أولاد البلد مثل محمد هنا، لكننى أتحفظ فى استعمالها مع طبقات أخرى تجنبا لسوء الفهم أو الاستهجان أو الاستدراج إلى مناقشات أو مجاملات بلا فائدة، وقد بدا لى أنها أقرب إلى محمد باعتبار أنه “صنايعى” ماهر أساسا.
د. يحيى: إنت كمان صنايعى شاطر.
محمد: كنت
د. يحيى: ومازلت،
محمد: كانوا بيحبوا ياخدونى معاهم فى الشغل، المعلـِّمين الصنايعية، بس دلوقتى خلاص
د. يحيى: ليه خلاص، “ياما قالت العين حبيبى ربنا يشفيه، ويطلع السوق ويخطر مثل عاداته”.
* هذا جزء من موال يعرفه محمد غالبا، لأنه من ثقافته الفرعية مباشرة، والاستشهاد به قد يقرب المسافة أيضا، وقد فهمه ولم يستفسر عن معناه وأسرع بالإجابة:
محمد: مش باين
د. يحيى: ليه ؟
محمد: علشان التعب.
د. يحيى: هوّ انت تعبت ونخّيت ولا تعبت وتفوق؟!
محمد: ما أنا عايز أفوق.
د. يحيى: تفوق إزاى وإنت قاعد مبلّم كده، خد وادِّى معايا فى الكلام علشان نوصل وتفوق، أنا مش قلت لك الكلام إللى احنا بنعمله ده هايصب فى مصلحتك إنشاء الله، ومهما كان التعب فلازم أقول لك من الأول إنه جزء من العلاج.
* الشائع أن العلاج عامة، والعلاج النفسى خاصة هو للترييح، وبرغم أن الراحة هى مطلب المرضى فعلا وحقهم، إلا أنه إذا اقتصر العلاج على ما يشيعه الأطباء والإعلام عن ذلك فإننا لا نقدم إلا نوعا من التسكين، وهو مطلب مشروع، لكن العلاج المكثف، والمستلهم فكرة دوام النمو، لا يضع الترييح مطلبا أولا، ولا مطلبا أوحدا، ويلاحظ هنا كيف أن الطبيب بيّن موقفه من البداية كما نلاحظ أن المريض برغم كل آلامه لم يرفضه كما يفعل كثير من المرضى، وأهاليهم، بل ومعظم الأطباء.
د. يحيى (يكمل): أنا خلصت أسئلتى الأولانية، إسألنى إنت بقى أى سؤال، أنا سألتك كفاية، إسألنى أى سؤال.
محمد: أى سؤال عن إيه؟
د. يحيى: عن إللى احنا فيه عن أى حاجة، أى سؤال، إستفسار، حيرة، أى حاجة.
محمد: أنا كل إللى يهمنى، كل إللى أنا عايزه أرجع زى الأول.
د. يحيى: أقول لك على سر فى صنعتى وتستحملنى، زى ما قلت لك إن التعب جزء من العلاج.
محمد: آه
د. يحيى: أنا بقى عكسك، كل إللى أناعايزه إنك ما ترجعش زى الأول، قول لى ليه،
محمد: ليه؟
د. يحيى: لأن اللى زى الأول هو إللى وصّلنا للى احنا فيه دلوقتى، يعنى عايز ترجع كاشش، تسمع الكلام وتهرى نفسك وانت خايف منهم، تروح متكوّم لحد ما تنخ تانى، وساعتها تبقى إتنيلت أكتر، إن ماكناش أنا وانت والدكاترة يبقى هدفنا إنك تختلف عن الأول، إلى أحسن، ولو شوية صغيرين ، يبقى قلـّته أحسن.
محمد: بإذن الله.
د. يحيى: خدت بالك،ترجع زى الأول يعنى تبقى بتعرّض نفسك للى حصل تانى، ما ينفعش التلصيم ده، ماينفعش.
* ابتداءً من هنا، وكما لاحظنا سابقا، سوف يزيد إلحاح المريض “للرجوع إلى ما هو: “كما كنت”! وسوف يحتد الخلاف مع المعالج الذى يصر أن تكون تجربة المرص “فرصة للتغيـّـر”، ومع أن هذه هى المقابلة الأولى، فلقد غامر الطبيب بإعلان الخلاف وتعميقه كجزء أساسى من التعاقد العلاجى.
محمد: آه، جايز إللى أنا فيه ده من كتر التفكير ومن كتر التعب النفسى.
د. يحيى: ماله ده بقى؟
محمد: هو إللى عمل فيا كده.
د. يحيى: بصراحة لا أنا فاهم التفكير تقصد بيه إيه، ولافاهم التعب النفسى تقصد بيه إيه.
محمد: يعنى من كتر التفكير فى الماضى إللى بيتعب الموضوع اللى فى الجيش لسّه تاعبنى برضة، دمرنى
* الشكوى من التفكير شكوى شائعة فى مجتمعنا، أكثر من غيرنا، حتى أننى تصورت أحيانا أننا ننشأ على أن مجرد التفكير هو إما عيب، أو مرض، أو حرام، كذلك فإن استعمال تعبير “التعب النفسى” مثل “كـُتـْر التفكير”، يبدو استعمالا فضفاضا يروج له الإعلام والأطباء طول الوقت، والمطلوب أن المريض حين يستعمل مثل هذه التعبيرات لانكتفى بها وإنما نتمادى معه فى الاستفسار حتى نعرف قصده تحديدا.
د. يحيى: ماشى ماشى، بس مش انا قلت لك إن الموضوع ده فيه فصال، انت مركـّز على موضوع واحد، ما هو كل المواضيع فى الجيش صعب وبهدلة
محمد: وفيه حاجات تانية فى المـَـلـَـكية.
د. يحيى: إيه بقى الحاجات إللى فى المـَـلـَـكية ؟ زى إيه؟
المريض: بقيت اسمع صوت واحدة ست بتتكلم عليّا، وساعات تطلع أصوات مش هيّا، باسمعها فى ودانى
د. يحيى: وإيه يعنى؟ ما هو برضه الواحد ممكن يسمع بودانه من جوه، شغلانة يعنى، مش الودان متوصلة لجوّة برضه؟
محمد: لأ من بره.
د. يحيى: ماهو الصوت ممكن يجى من جوه، بس بتسمعه من بره حتى لو أصله جوه على فكرة: هيّا الواحدة، الست، اللى بتسمع صوتها دى اسمها إيه؟
* نلاحظ أنه من المقابلة الأولى والطبيب يحاول أن يوصل للمريض ماهية “الواقع الداخلى”، وأن له دوره وشخوصه التى لا وسيلة لرصدها كما هى فى الداخل، فُنـُجـَسـِّمها فى الخارج، هذا علما بأننى لا أعتبر هذا مجرد حيلة نفسيه (ميكانزم: “إسقاط”)، وإنما أرصده وأتعامل معه كواقع آخر، حتى لا نخطىء فى تهميشه أو تجريده، وأحاول توصيل هذه المعلومة كحقيقة للمريض بصبر وإصرار، وهى عادة تصل إليه أكثر من الشخص العادى لو لم نتمادَ فى النقاش والشرح بالألفاظ، هى تصل للمريض أكثر – كما قلنا- مما تصل إلى الشخص العادى بما فى ذلك الكثير من الأطباء.
محمد: إسمها إزاى؟ إيش عرفنى
د. يحيى: ما دام هى واحدة ست، يبقى لها اسم، إيه رأيك تيجى نِسَمـِّيها.
……….
(ثم نكمل الأسبوع القادم)
[1] – يحيى الرخاوى “من حركية الجنون إلى رحاب الناس .. (مرور بالعلاج الجمعى)” منشورات جمعية الطب النفسى التطورى (2019)