نشرة “الإنسان والتطور”
السبت: 17-7-2021
السنة الرابعة عشر
العدد: 5068
من كتاب: تزييف الوعى البشرى، وإنذارات الانقراض (20)
بعض فكر يحيى الرخاوى (1)
… عن الحق فى الخوف، وتسطيح الوجدان! (2) (1 من 3)
الحق فى الخوف
”نظرت فى ظلمات الماضى فـرأيت وجه حبيبتى يتألق نورا بعد أن دام غيابها خمسين سنة، فسألتها عن الرسالة التى أرسلتها لها منذ أسبوع فقالت إنها وجدتها مفعمة بالحب ولكنها لاحظت أن الخط الذى كتبت به ينم عن إصابة كاتبه بداء الخوف من الحياة وبخاصة من الحب والزواج، ولما كنت مصابة بنفس الداء فقد عدلت عن الذهاب إليك وفكرت فى النجاة فلذت بالفرار”.
(نجيب محفوظ “نصف الدنيا عدد 777 - 2 يناير 2005”)
أنظر كيف عرى محفوظ الخوف من الحياة، ومن العلاقة بالآخر (الحب) هكذا وهو فى هذه المرحلة مع كل الإعاقة والصعوبة! كيف كثف الزمن قفزا عبر نصف قرن! كيف عمم هذا الخوف بين الطرفين بهذه الدقة؟ كيف كان الهرب هو الحل فى مواجهة هذا الخوف المتبادل!
نجح نجيب محفوظ أن يلغى الزمن وأن يختزل خمسين عاما ليتواصل الحوار: خطاب العتاب من أسبوع، والفراق من نصف قرن، والرد المؤجل “الآن”.
انطلاقا من هذا الحدس الإبداعى ألا يجدر بنا أن نتدارس هذه الظاهرة فى جذورها الأعمق بدءا من الخوف من الآخر ومن الحب ومن الحياة إلى الخوف من الحرية، والخوف من الإبداع، بديلا عن الدعوة المسطحة الشائعة أنه “لا تخف”، “ودع القلق وعليك بالسعادة”، وما شابه؟.
هذا بعض ما سوف تحاوله هذه المداخلة
بداية البداية
هل الخوف عاطفة سلبية علينا أن نتخلص منها بأى وسيلة؟ وبأسرع ما يمكن؟ هذا إذا سمحنا لها أصلا بالظهور؟ لماذا هذا التسارع فى النهى عن الخوف؟ كيف ذلك؟ من قال هذا؟ أو بلغة أهلى “بأمارة إيه؟ يقول المثل العامى المصرى: “مِـْن خـَـافْ سـلـم”، ويقول مثل أقل شيوعا “خافْ وخـَـوِّف”.
على الناحية الأخرى: يروج المتدينون التقليديون للبسطاء أن النفس المطمئنة عليها أن تكون خالية من الخوف، خالصة للرضا الأبله، ناسين ضرورة كدحها كدحا لتلاقيه سبحانه وتعالى، وتكمل علينا شركات الأدوية وهى توزع الأقراص الساحرة التى تخفى الخوف من أصله، وهى تخترع علما تسميه “علم السعادة”، وتوظفه لترويج بضاعتها.
كيف لا نخاف؟
من أبسط ما يبرر اعتبارنا أن “الحق فى الخوف” هو من حقوق الإنسان الأساسية هو أن نستعمل المنطق البسيط فى مواجهة الحقائق الجارية حولنا وقد أصبحت فى متناول الجميع ونحن نتساءل:
* كيف لا نخاف وقد امتلك مقاليد القوة والسلطة أبعد الناس عن حمل مسئولية استمرار النوع البشرى؟
* كيف لا نخاف وقد امتلكت هذه السلطات كل أدوات الدمار التى تصوبها عن بعد لمن يخالفها أو يقف فى طريقها، ولا يستطيع أحد أن يحاسبها عن مصداقية معالم طريقها (الذى تفرضه علينا باعتباره الأوحد) المزعوم، أو عن مآله؟
* كيف لا نخاف وقد تدنى الإنسان فى عدوانه إلى افتراس أفراد وجماعات من بنى جنسه وهو يقتل من لا يعرف عن بعد، دون معارك أصلا، الأمر الذى لا يمارسه أغلب الحيوانات؟
* كيف لا نخاف وقد انفصل العلم ونتائجه عن الأخلاق والوعى المسئول عن الحفاظ على النوع البشرى واكتفى بالإسراع فى الإنجاز لتوفير الرفاهة فحسب؟
* كيف لا نخاف وقد تجمد الدين فى أيدى سلطات لم تعد تتحرك إلا لتثبت ما سبق تصور إثباته خطأ أم صوابا
* كيف لا نخاف وقد تراجع المنطق البسيط جدا، عن تغيير الظلم الشديد جدا، ومساندة الحق الواضح جدا؟
* كيف لا نخاف ونحن قادمون من تاريخ بقائى تطورى مزدحم بكل تجليات الخوف وفضله ومخاطره ودوره؟
ثم: كيف نتعلم كيف نخاف؟
إذا كان الخوف مشروعا إلى هذه الدرجة فعلينا أن نبحث بجد حقيقى فى كيف نتعامل مع هذه المشروعية بمسئولية حذرة، علينا أن نتساءل:
كيف نخاف لنستمر أرقى، وننتج أجمل، ونعرف أشمل، ونبدع أكثر أصالة، نبدع أنفسنا كما نبدع الجديد والجميل؟
كيف نخاف لنزداد يقظة وحرصا ليس فقط على جماعتنا الخاصة (وطنا أم دينا أم مذهبا) الآيلة للذوبان فى طوفان البشر المتقارب اختيارا واضطرارا، نتيجة لفرص التواصل والرعب المشترك؟ كيف “نخاف جميعا معا” حرصا على استمرار هذا الجنس الرائع المسمى “البشر”؟
كيف نخاف على إنجازات هذا الكائن البشرى المجتهد عبر التاريخ حتى لا تظل هكذا احتكارا لمن لم يعد يهمه أن ينتمى إلى فضائل هذا الكائن المسمى “الإنسان”، بما تميز به من تاريخ مليء بالجدل والإبداع، حتى أفرز هذا الحضور الجميل القادر؟
هل ثمة عواطف سلبية فى ذاتها؟
إن كل ذلك يجعلنا نرجع إلى أسئلة أسبق تقول: هل ثمة عواطف سلبية وأخرى إيجابية فى ذاتها؟ هل المطلوب للإنسان المعاصر أن ينفصل عن تاريخه الحيوى بهذه الدعاوى المسطحة التى تزعم أنه أفضل من أجداده ـ دون وجه حق؟
علينا أن نتساءل بادئ ذى بدء: هل ثم حق لنا فى الخوف أم أنه عيب ومرض ومرفوض من أصله؟ أى الموقفين أصدق؟ أو قل أى الموقفين أقرب إلى الطبيعة البشرية؟، بل الطبيعة الحيوية؟ ومن ثم إلى حفظ الحياة، وحفز التطور، فالإبداع؟
أقر وأعترف أننى لم أنتم للفكر التطورى نتيجة قراءات موسوعية، أو نقد ممنهج، وإنما علمتنى الخبرة العملية خلال نصف قرن أن أعايش أجدادى من خلال نكوص مرضاى، كما سمحت لى مواكبتى لرحلتهم تدهورا وجدلا علاجيا (استعادة مسار النمو) أن تلطمنى صراعات ذواتهم، فتتعتعنى حتى أرى أكثر من احتمال فى كثير من الأحيان. هذا هو المصدر الأساسى لهذه المداخلة.
لا يوجد انفعال سلبى فى ذاته وآخر إيجابى لأنه كذلك.
الانفعال، من منظور تطورى، هو آلية دفاعية مبرمجة، تقوم بدورها بكفاءة إذا توفر لانطلاقها كل من الجرعة المناسبة والموقف الداعى لإطلاقها. إننا نطلق لفظ الانفعال (ثم العاطفة والوجدان) على هذا الدفق الدافعى الدفاعى النمائى الخاص، وكأنه غريزة جزئية موجهة، تؤدى وظيفة بقائية معينة، يستتبع ذلك أنه علينا أن نعامل انفعالاتنا جميعها ـ من حيث المبدأ ـ بقبول مبدئى دون أن نصنفها إلى سلبى أو إيجابى، إن الانفعال (والعاطفة والوجدان) يصبح سلبيا فقط فى حالة ما إذا زادت الجرعة أو اختل توافقها مع ما يطلقها من مواقف.
بتطبيق هذا المنطلق بشأن الخوف، علينا أن نبدأ بالاعتراف به انفعالا طبيعيا، بل ضروريا، باعتبار أنه الجانب الواعى للتهيؤ للهرب، أو التحضير للهجوم، ثم تنتقل مهمتنا بعد قبوله، إلى ضرورة استيعابه، مما يتطلب تحديد وظيفته ثم ضبط جرعته، وحساب تناسبه، فإذا حقق الخوف وظيفته التحذيرية، ثم الدافعية، بالتنبيه والانتباه والفهم فالاستعداد للمجهول بما فى ذلك التهيؤ للكر والفر، فهو جدير بموقعه التطورى الضرورى.
الخوف ليس واحدا
الخوف ليس واحدا لا فى اللغة، ولا فى السواء، ولا فى المرض.
”ليس فى اللغة مترادفات تامة”، نشأت المترادفات ليكمل بعضها بعضا فى محاولة الإلمام بظاهرة ما من هذه البداية، ومع أن المعاجم ليست وصية على واقع اللغة وتطورها، إلا أننا نلاحظ أن للخوف تجليات عديدة ظهرت فى شكل ألفاظ مختلفة، يصح هذا فى اللغة العربية، كما يصح فى لغات أخرى (ربما جميعها)، فى العربية مثلا نجد ألفاظ: الفزع و الهلع والرعب ثم الخشية أو الرهبة..إلخ وفى الإنجيلزية نلاحظ ربطا ما بين الخوف والإدراك الفاهم فى لفظ Apprehension. وهكذا.
فى السواء: نقابل تجليات متعددة حتى التناقض فيما بينها مثلا: الخوف الجبان، والخوف المتحفز، والخوف اليقظ، والخوف الحاسب المستبصر، والخوف من الفقد، ومن القـُـرب، ومن البعد، ومن الحب، ومن الآخر، ومن الحياة، ومن الموت، ومن المجهول، ومن الحرية ..إلخ،
أما فى المرض فنجد الخوف الغامض (القلق)، والخوف المزاح والمسقط، والخوف المحدد غير المنطقى (كل ذلك بعض ميكانزمات الرهابات بأنواعها: مثل رهاب المرتفعات، ورهاب الأماكن المغلقة، والمتسعة (أنظر بعد)، كذلك زاد تواتر ما يسمى نوبات الهلع (التى تأتى فجأة ويصاحبها خفقان شديد حتى الشعور باقتراب الموت). تلك النوبات تواترت حتى كادت تحل محل “القلق المتماوج الغامض”، وكأنها تعلن زيادة كبت الخوف بما هو، وأيضا كبت القلق المألوف بشكل ما. هكذا يتراكم الخوف فى الداخل حتى ينقض فى نوبات الهلع تلك.
كما أن من أعراض المرض أيضا: الخوف المفرط من الجنون ومن الضياع، ومن فقد السيطرة ومثل ذلك.
ثم إن الخوف قد لا يظهر بنفسه عرضا مباشرا وإنما تظهر آثاره فى صورة ضلالات المراقبة والاضطهاد والتنصت، حتى التبلد يمكن أن يعتبر مظهرا لتجنب وإنكار الوعى بالخوف، وكذلك يمكن قراءة التفسخ الفصامى باعتباره فض اشتباك تجنبا للوعى المرعب.
الحق فى الخوف
فى مرحلة ماقبل الإنسان كان الهرب (وهو سلوك نابع من الخوف ومرتبط به) من أهم الوسائل التى تحافظ على بقاء الكائن الحى، و حين بدأ “الوعى بالانفعال” يصاحب ظهور الوعى عامة عند ما هو إنسان، ظهر انفعال مصاحب للهرب أساسا سمى “الخوف”، ثم لم يعد قاصرا على مصاحبات الهرب.
للخوف إذن أساس بقائى والوعى به ظاهرة بشرية: “أنا أخاف فأنا منتبه” “أنا أخاف إذن فأنا يقظ” “أنا أخاف فأنا أتحرك” وقد يصل الأمر إلى: “أنا أخاف إذن أنا موجود”.
إلا أنه حين يطغى الخوف، استجابة لمثير عادى أو أقل، أو بدون مثير على الإطلاق، فإنه يشل القدرة حتى على الهرب، وهذا عكس وظيفته الدفاعية، فى هذه الحال قد يصل الشلل خوفا لدرجة التصلب حتى التجمد، وهذا أيضا هو دفاع بدائى وإن بدا فى ظاهره معوقا للهرب، يلجأ الحيوان إلى هذا الدفاع حين يدرك بغريزته أن العدو المفترس المهاجم قد يتعرف على مكان وجوده من مجرد حركته، فيتجمد سكونا دون أى حراك لخدعة المهاجم المفترس لعله يعتبره صخراً جامدا لا حياة فيه، هذا هو ما يقابل ما يحدث فى الإنسان فى مرض (أو عرض) يقال له “الكاتاتونيا” (التصلب التخشبى) حيث يبدو الجسم البشرى بلا حراك، لكن دون فقدان الوعى، بل على العكس فقد يصاحب هذا التصلب درجة ما من فرط الانتباه، مما يؤكد المعنى الدفاعى لهذا التصلب حتى التخشب الجمادى برغم فرط الانتباه.
إنكار (كبت) الخوف
ومع ذلك فإن الإنسان المعاصر راح ينكر على نفسه “الحق فى الخوف” (تحت عنوان “لا تخف” (3) مثلا) وهو بذلك إنما يكبت ما يشبه الغريزة الدفاعية، ومن ثم يفتح السبيل إلى تراكم غير مضمونة آثاره، ذلك لأنه إذا لم يكف هذا الكبت المباشر لقهر وإخفاء الخوف، فإنه يتم اللجوء إلى استعمال مزيد من”الحيل النفسية” لضبط وحبس الخوف فى الداخل (تماما مثلما يحدث مع كبت غريزة الجنس من منظور التحليل النفسي). الكبت ليس مرفوضا من حيث المبدأ، كل الحيل النفسية (وأولها الكبت) يستعملها الإنسان تجنبا للمواجهة التى قد تفوق طاقة احتماله فى لحظة بذاتها أو مرحلة بعينها، أما إذا بالغ فى ذلك لأى سبب، فإنه إنما يعرض نفسه إلى خطورة الإنفجار من الداخل، فى شكل مرض أو غير ذلك، يسرى هذا على كبت الخوف مثلما يسرى على كبت الجنس والعدوان ..إلخ
الفرض
(1) الخوف انفعال بقائى ضرورى مرتبط بدرجة ما ـ مهما ضؤلت ـ بإدراك اقتراب أو وقوع خطر ما، بما يستتبع ذلك من استثارة آلية “الكر والفر” الدفاعية.
(2) يتميز الإنسان بدرجة خاصة من الوعى بحيث يصبح الخوف انفعالا فى ذاته حتى لو لم يرتبط بالكر والفر حالا.
(3) يتميز الإنسان أيضا بتعدد مستويات وجوده (وعيه) حتى أنه يمكن أن يعى خطر الداخل (الحقيقى أو المتخيل) بنفس آلية إدراك خطر الخارج، وإن لم يكن بنفس درجته.
(4) من أبرز تجليات إيجابيات هذا الوجدان (الخوف) فى الإنسان: حدة الانتباه وتحضير الجسد والفكر لمختلف الاحتمالات، وحشد الآليات الدفاعية الجسدية والنفسية الآن ومستقبلا.
(5) إن إنكار هذا الانفعال/الوجدان من حيث المبدأ هو نوع من الكبت الذى إذا زاد قد يؤدى إلى التعامل مع هذه الغريزة بدفاعات وميكانزمات مشوهة أو معطلة أو منحرفة.
(6) تجاوزا للتعامل بالميكانزمات، ومع اضطراد النضج، يجرى التعامل مع الخوف كما يجرى مع أى غريزة فى مسارها المتنامى، وذلك: بالقبول والاعتراف، فالاحتواء والتخطيط والإبداع.
(أ) بضبط الجرعة (الوعى المناسب).
(ب) وتوجيه الطاقة (الفعل المناسب).
(جـ) وإعادة التنظيم (إبداعا للذات أو إنتاجا لخارجها)
(7) كلما كان الخوف منفصلا عن سائر العواطف، وسائر الوظائف النفسية الأخرى وخاصة الوظائف المعرفية، والإرادية (اتخاذ القرار)، كان أقرب إلى اللاسواء (المرض)
(8) تزداد إيجابية الخوف بازدياد مساحة ترابطه الهادف مع سائر العواطف والوظائف (خاصة المعرفية) حتى يمكن ألا يعود خوفا بالمعنى الشائع أصلا.
متدرج الخوف:
أول انفعال يعايشه الطفل حديث الولادة هو ما يمكن أن يسمى انفعال “البهر” Orientation وهو انفعال عام يمكن أن نعتبره: خليطا من: الدهشة والقبول والرفض والتحفز، وهو لا يصل إلى ما يسمى خوفا عادة، وهو يرتبط باستقبال الحواس للجرعات الأولى للإدراك الحسى (رؤية وجه الأم مثلا، على مسافة) مما يسمح (ويهدد) بالتمييز بين ما هو “أنا” وما هو “ليس أنا”، ومن ثم “بهر الدهشة” من أن العالم ليس قاصرا عليه، لأن ثم “آخر” هناك بكل ما يحمل من تهديد ووعود وعطاء وأخذ، فهو الخطر.
تنقلب الدهشة البدئية هذه إلى عدد من التجليات أثناء النمو الطبيعى كما يلى:
أ) متى أصبح وجود “الآخر” منفصلا قائما وضروريا، وفى نفس الوقت صار مصدر تهديد فى ذاته (وهو ما يسمى الموقف البارنوي)، ومن ثم تصبح العلاقة بالآخر هى علاقة الحذر والتوجس، وتصبح الاستجابة هى “بالكر والفر” أساسا.
ب) يتقدم التعرف على الآخر (الأم أساسا) ليصبح الآخر ليس مصدر تهديد فقط، بل مصدر الحياة (الرضاعة) والأمان (الدعم والثقة) أيضا، وهنا ينقلب البهر المبدئى ليس فقط خوفا من هجوم من “آخر مختلف”، ولكن أيضا خوفا من الترك (الهجر)، ويصعـب الأمر أن المصدر (الآخر) المهدد بالترك هو هو مصدر الحياة والأمان، وهذا هو مايسمى الموقف “الثنائى الوجدانى” Ambivalence وهو الموقف “الاكتئابى”.
وبرغم التسمية: الموقف البارنوى فالاكتئابى (4) ـ فإن ذلك لا يعنى لا بارانويا ولا اكتئاب بالمعنى المرضى، بل على العكس تعتبر هذه المواقف هى من أساسيات خطوات حركية النمو الدائبة، والمعاودة فى تصعيد نوبى إيقاعى متصل.
مما سبق نرى كيف أن الخوف الإنسانى مرتبط بتميز “الأنا” عن “اللاأنا” من ناحية، وأنه يتغير ويتشكل بحسب مرحلة وطبيعة العلاقة بالآخر.
تشكيلات ومستويات
من هذا المنطلق أيضا يمكن عرض تشكيلات / مستويات (لا تصنيف) مبدئية لبعض تجليات الخوف:
أولا: الخوف الانفعال الفج:
حين يتخلى الخوف تماما عن (أو هو لم يرتبط بعد بـ) وظيفته المعرفية (الدهشة فالإدراك فزيادة أبجدية التعرف)، تقتصر تجلياته فى المصاحبات الجسمية (التى تظهر أساسا من خلال الجهاز العصبى الذاتى مثل خفقان القلب والعرق وارتفاع الضغط واللهاث ..إلخ) وأيضا يظهر فى الوعى المرعوب بأشكاله التى تتجلى فى صورة الهلع أو التجمد بلا حراك.
ثانيا: الخوف الدهشة (الإدراك):
حين تكون الدهشة هى الانفعال الذى يستقبل المؤثرات الجديدة بمزيج من الرغبة والحذر والمغامرة جميعا، وهى تنقلب خوفا صريحا إذا ما اتسعت المسافة بين جرعة الإدراك، وآلية التشكيل (اعتمال المعلومات (Information Pocessing) وهكذا يتطور الخوف الدهشة إلى الخوف المعرفة فالخوف الفعل الخلاق، حيث يتجاوز تشكيل المدركات الداخلية والخارجية من مرحلة “اعتمال المعلومات” إلى فعل “إعادة تخليقها وصياغتها” فى كلٍّ جدلى جديد، وهنا تحتوى الإرادة المبدعة طاقة الخوف الدهشة، وكلما كان الإبداع أصيلا كان احتمال خوض غمار بحور الخوف خطيرا (يتحدث كثير من المبدعين، من الشعراء خاصة، عن هذا المأزق المرعب أثناء ممارسة الإبداع وكأنهم بين الموت والحياة قبيل وفى بداية خوض معمعة الخلق) (5).
…………….
(أتوقف هنا لنشرة غداً “طبيعة وتشكيلات الخوف داخلنا من ديوانى السيكوباثولوجى “سر اللعبة”)
[1] – المقتطف من كتاب “تزييف الوعى البشرى، وإنذارات الانقراض” بعض فكر يحيى الرخاوى (الطبعة الأولى 2019) وصورته الأولى كانت مقالات فى (مجلة سطور) (من يوليو 1997 إلى يوليو 2006 + 1) والكتاب متاح فى مكتبة الأنجلو المصرية وفى منفذ مستشفى دار المقطم للصحة النفسية شارع 10، وفى مؤسسة الرخاوى: 24 شارع 18 مدينة المقطم، و يوجد بموقع المؤلف www.rakhawy.net وهذا هو الرابط
[2] – مجلة سطور: (عدد فبراير – 2005)، كان العنوان الأصلى: “كبت الخوف وتسطيح البشر”
[3] – “لا تخف” د.ادوارد سبنركولز، ترجمة: د. أمير بقطر 1949
[4] – سبق أن أشرت كيف تطور فكرى لتجاوز هذه التسمية من “الموقف” أو “الموقف” إلى “الطور” لتساير فكرى الإيقاعحيوى التطورى المستمر
[5] – خالدة سعيد، حركية الإبداع عن أنس الحاج، دار العودة بيروت، 1979