نشرة “الإنسان والتطور”
الأحد: 27-6-2021
السنة الرابعة عشر
العدد: 5048
من كتاب: تزييف الوعى البشرى، وإنذارات الانقراض (17)
بعض فكر يحيى الرخاوى (1)
تزييف الوعى البشرى، وإنذارات الانقراض (2 من 2) (2)
………..
…………
العمى أحد أهم شروط الانقراض:
لا يوجد نوع من الأحياء، دون استثناء الجنس البشرى، سعى أو هو يسعى للانقراض بوعى أو بغير وعى، لا بوش ولا ستالين، لا الديناصورات، ولا اليمام، لا الفيلة ولا النمل، لا البكتريا ولا الفيروسات، بل إن الانقراض ذاته لم تتوحد أو تتحدد أسبابه لكل من انقرض من أحياء (3)، قد يحدث الانقراض بمحض الصدفة (حظ سىء)، وقد يحدث نتيجة خطأ تطورى جسيم، أما وقد اكتسب الإنسان ذلك الوعى الفائق، فقد تراجعت الصدفة نسبيا أملا فى أن تحل محلها المسئولية.
الذى حدث فى الاتحاد السوفيتى ليس مجرد خطأ تطبيق أفكار أغلبها (إن لم يكن كلها) صحيحة، والذى يحدث الآن فى أمريكا وفى العراق على حد سواء، ليس مجرد شهوة حكم أو مصالح شركات، الذى حدث ويحدث من بن لادن ليس مجرد تعصب أعمى، أو انحراف عن الدين الحقيقى، كل هذه الأحداث تتشابه فى كونها تعلن عن خطأ تطورى يتمادى فيه الجنس البشرى بشكل منذر.
لماذا لا نتعلم؟
الخطر الأساسى باختصار شديد: هو أن الجزء الأحدث من وجودنا (الوعى الظاهر، والعقل الخطى) قد تعملق حتى طغى فألغى كل، أو معظم إنجازات التاريخ الحيوى، لصالح تفوق ما يسمى العقل، وهو يلتحف بما أسماه الديمقراطية، معلقا لافتة كتب عليها حقوق الإنسان، لا شك أن الأحدث أقدر، لكن الذى حّول هذا الأحدث الأقدر ليصبح خطرا جسيما هو ما تورط فيه من زعم بأنه قادر وحده على دفع عجلة التطور.
نحن لم نتعلم من انهيار الاتحاد السوفيتى إلا ما أسميناه “صحة الفكرة، وخيبة التطبيق”، إن الذى حدث فى الاتحاد السوفييتى وأوربا الشرقية هو الاعتماد على فكر حديث صحيح لكنه استشرى على حساب وعى أكثر أصالة أثبت نجاحه فى الحفاظ على التطور عبر تاريخ الحياة. إن الذى يحدث الآن على الجانب الآخر هو نفس الشيء تقريبا: لو تمادت أمريكا- ومن إليها- فى اتباع ما يتصورنه غاية المطاف من أفكار ديمقراطية (بديلا عن ممارسة جوهر الحرية) وحقوق إنسان مكتوبة على الورق، لا بد أن ينتهى بها إلى ما انتهى إليه الاتحاد السوفيتي.
لكن ثم فرقا هاما: حين انتهى الاتحاد السوفيتى قفز خصمه شامتا وهو يتصور، ويصور لنا، أنه الصحيح الأوحد المتبقى أمامنا لاختياره!!. لكن كل الدلائل التالية، آخرها هذا النذير من برج التجارة ثم أفغانستان فالعراق، تشير إلى أن انهيار ما تمثله سلطات أمريكا الحالية سوف يكون أكثر دويا وأخطر أثرا حيث لا يوجد بديل جاهز قادر بعد.
المواجهة الأساسية:
نحن نعيش الآن مواجهة أعمق من كل المواجهات التى عاشها الإنسان عبر التاريخ، لم تعد المواجهات فئوية أو قومية أو حتى دينية، نحن جميعا، بما أتاحته لنا وسائل الاتصال الحديثة، نعيش معا فى مواجهة تحديات البقاء ضد الانقراض، قد تحدث حروب جديدة، وقد تتجدد حروب قديمة، وهذه أو تلك إنما تعلن بقايا الاستقطابات القائمة، أو الماضية: من إسرائيل ضد العرب، حتى الكاثوليك ضد البروتستانت (أيرلندا)، مرورا بالشيعة ضد السنة (كما يجرى فى باكستان أو الهند وغيرهما)، فضلا عن المواجهات الاستقطابية الفكرية المتعددة فى كل المجالات (مجالات: الاقتصاد، والتطبيب، والأيديولوجيا،…إلخ). لكن تظل المواجهة الأساسية، التى كانت طول عمرها قائمة، هى شغل الوعى البشرى، ما دام قد تصدى للتدخل فى مسار تطوره. إن حسن استعمال آليات الاتصال الحديثة، مع بالغ خطورتها، هو الأمل فى تصحيح شطحات وصاية الوعى البشرى الظاهر (وكذلك تصحيح أخطاء وغرور العقل البشرى المنطقي)، البادى على السطح حتى تاريخه، هو استعمال هذه الآليات الأحدث لتزييف الوعى البشرى وتشكيله لصالح أقلية فقدت بصيرة انتمائها للنوع، لكن الجارى أيضا، وبشكل مواز، قطعاً أهم، هو محاولات الإبداع المستمر لتصحيح المسار على مستوى البشرية، خاصة وقد أتيحت الفرصة لكل الناس أن يسهموا فى المهمة، كل من موقعه، وبأدواته المتاحة!!.
مستويات المواجهة
كل الناس عبر العالم، يبحثون عن منهج أقدر، عن ديمقراطية أصدق، عن علم أشمل، عن علاقة بالطبيعة أكثر تناغما، عن وعى فائق يحتوى كل ما كان، ليكون به وبعده، لا على حسابه. الناس يحاولون أن يتجاوزوا الخلاف حول المحتوى (أى دين وأى أيديولوجى، وأى نظرية)، ليتفاهموا حول المنهج (كيف نكون، وكيف نفعل، كيف نتواصل)، لتحقيق إنسانية الإنسان ليبقى ثم يمضى إلى ما يعد به.
إن مواجهة أخطاء التطور التى زعمتها لا تتم على المستوى الأكاديمى أو المتخصص فحسب، ولا حتى على المستوى السياسى المتحكم، بل هى جارية طول الوقت عند كل الناس، (بما فيهم من يسمون المجانين، بل: وخاصة من يسمون المجانين).
الذى حافظ ويحافظ على بقاء نوع النمل والنوارس ، ليس المجلس الأعلى لبقاء النمل، ولا الحكومة المنتخبة لجمهورية النوارس، ولكنهم كل النمل، وكل النوارس.
فيما يلى إشارة محدودة إلى خطوط بعض تلك الأخطاء التطورية الجارية (مجرد مثالين).
الخطأ (المثال) الأول:
إن اللغة الرمزية قد حلت محل اللغة الكلية (الجسدية، والحشوية، والجينية، والتجاوزية)
مستويات المواجهة ومحاولات التصحيح:
(1) مستوى الخاصة: العلم المعرفى، والعلم المعرفى العصبى، وعلوم الشواش والتركيبية، والإبداع التشكيلى، وبعض الإبداع الحداثى، وما بعد الحداثى.
(2) مستوى العامة: شك الناس فى البيانات الكلامية، وعدم اقتصارهم على الحوار اللفظى، مع التفضيل أحيانا للحوار الجسدى، والاعتراف بالعرف مع أو بدون القوانين المكتوبة، والاعتماد على التجربة قبل التنظير..إلخ.
(3) المواجهة السلبية: العودة للخرافة وبعض الجنون
الخطأ (المثال) الثانى:
إن الفكر الظاهر قد حل محل، الوعى الغائر أو استبعده (4)
مستويات المواجهة ومحاولة التصحيح:
(1) مستوى الخاصة: مدارس تعدد الذوات، وتعدد مستويات الوعى، وهيراركية تركيب الجهاز العصبى والنفسى، والتحليل التركيبى، وعلم النفس والطبنفسى التطورى، والتفسير الغائى للسلوك (فى الصحة والمرض)، وفنون الحكى، وفنون التشكيل، وفنون الدراما (فى المسرح خاصة).
(2) مستوى العامة: إحياء معايشة التراث الشعبى، واستلهام واحترام الوعى الشعبى، الذى يتعامل تلقيائيا مع هذا التعدد فى الكيان البشرى، سواء اتخذ لغة الحكمة الشعبية، أو اللغة الدينية، أو اللغة التصوفية، أو الممارسات الحدسية الشعبية المتجاوزة لأحادية الظاهر.
(3) المواجهة السلبية: إسقاط هذه الذوات المتعددة داخلنا إلى الخارج فى صورة عالم الجان، و.. وبعض الجنون أيضا.
والباقى أكثر:
أوقف نفسى قسرا خشية التمادى فى هذا الإيجاز المخل فى عرض أمثلة أخرى أكثر تحديا وأخطر أثرا، إن الإفاقة الواجبة تحتم علينا أن نعيد النظر أيضا فيما انتهى إليه ما هو “عقل”، و”تفكير” ثم “دين” و”إيمان” … ، مرورا بهز آلهة جديدة مثل إله ما ”يسمى العلم”، وإله زعم ”الديمقراطية”…إلخ، إن ما يهمنى فى هذه المقدمة هو مجرد التنبيه إلى أن مستويات المواجهة الثلاث (خاصة، وعامة ، وسلبية) هى جارية على قدم وساق فى محاولة هز كل هذه المقدسات، خذ إشارة عابرة إلى: كيف يواجه الناس تقديس الديمقراطية بالعزوف عن المشاركة فى الانتخابات أصلا (أحيانا أكثر من 50% فى البلاد المتقدمة التى تقدس الديمقراطية) ما معنى ذلك؟، أو خذ مثلا كيف يواجه العامة السلطة الدينية المغتربة عن الإيمان بما يسمى الدين الشعبى، وهكذا.
خلاصة القول:
(1) إن الإنجازات العلمية والتقنية الأحدث تستعمل، فى نهاية النهاية للأسف: فى تزييف الوعى أكثر من مساهمتها فى تحريك الإبداع لإنقاذ النوع.
(2) إنه يمكن تفسير الممارسات النكوصية التى ظهرت مؤخرا على مستوى الفكر والحرب جميعا (من “نهاية التاريخ” إلى “11 سبتمبر” إلى “حكم صدام” إلى “غزو العراق”) باعتبارها النتيجة الطبيعية لهذا التزييف المنظم لـ”الوعى العالمى المفبرك الجديد”.
(3) إن محاولة تصحيح تلك الأخطاء التطورية جارية على كل المستويات بشكل تلقائى عنيد ، وإن كانت النتائج شديدة التواضع ومهددة بالإجهاض من القوى المتربصة.
(4) إنه كما تتولد غرائز سلبية جديدة من خلال تزييف الوعى، لا بد أن نعمل على توليد غرائز إيجابية جديدة لتحل محل الفشل المنتظر قريبا لهذا التعملق الزائف الآيل للسقوط بما يحمل من مقومات هدمه لنفسه.
(5) إن قضية الوجود البشرى هى قضية بقاء النوع وتميزه قبل وبعد أى أيديولوجية أو دين أو نوع حكم أو شخص حاكم، فهى قضية كل فرد دون استثناء، وعلى كل فرد أن يسهم من موقعه في المقاومة والتصدى “فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً”
وبعد
الدفاع عن البقاء لدفع التطور هو فرض عين فى نهاية النهاية، إذا قام به البعض لايسقط عن الباقى.
وإلا ….، فالانقراض لا يستثنى.
****
[1] – المقتطف من كتاب “تزييف الوعى البشرى، وإنذارات الانقراض” بعض فكر يحيى الرخاوى (الطبعة الأولى 2019) وصورته الأولى كانت مقالات فى (مجلة سطور) (من يوليو 1997 إلى يوليو 2006 + 1) والكتاب متاح فى مكتبة الأنجلو المصرية وفى منفذ مستشفى دار المقطم للصحة النفسية شارع 10، وفى مركز الرخاوى: 24 شارع 18 مدينة المقطم، و يوجد بموقع المؤلف www.rakhawy.net وهذا هو الرابط
[2] – مجلة سطور: (عدد سبتمبر 2003)
هذا المقال هو قراءة فى الأحداث الجارية بعد حرب العراق وهو يقدم فرضا يقول “إن ثم خطرا أساسيا أكبر يكمن وراء تلاحق هذه الأحداث الكوارث، هو أكبر بكثير من الضرر الذى أصاب أفغانستان، والعراق، أو الذى يمكن أن يصيب أى قطر يغزوه هؤلاء الغزاة تحت زعم التعمير أو التحرير أو التنوير، هذا الخطر هو: “تزييف الوعى البشرى بما يخالف طبيعته، أى طبيعة وقوانين التطور، الأمر الذى يسمح بمثل ما يجرى، ثم يبرره ليتمادى بما يهدد بانقراض الإنسان”.
[3] – “الانقراض جينات سيئة أم حظ سيىء”، تأليف: دافيدم. روب، ترجمة: د. مصطفى إبراهيم فهمى، المجلس الأعلى للثقافة سنة 1998.
[4]- حتى الفكر الذى اعترف بوعى كامن، استعمل النفى لوصفه، (اللاوعي)، مع أنه لم يهمشه (التحليل النفسي)