نشرة “الإنسان والتطور”
السبت: 26-6-2021
السنة الرابعة عشر
العدد: 5047
من كتاب: تزييف الوعى البشرى، وإنذارات الانقراض (17)
بعض فكر يحيى الرخاوى (1)
تزييف الوعى البشرى، وإنذارات الانقراض (2) (1 من 2) (3)
عبر التاريخ، لم تتوقف الحروب، ولا محاولات الإبادة، ولا التطهير العرقى، ولا حملات الاستعمار بالجيوش، ثم الاستعمار الاقتصادى، فالاستيطانى، بطول التاريخ وعرضه لم تتوقف الكوارث الطبيعية،وامتحانات القدر غير المفهومة.
كل ذلك كان محدودا جغرافيا بمكان بذاته، وبزمن له بداية و نهاية من حيث أن نزوات أوغزوات الدمار تنتهى بانتهاء العمر الحقيقى أو الافتراضى، سواء عمر الطاغية أو النظام، كما كانت الكوارث الطبيعية مؤقتة مهما تفاقمت آثارها.
الجديد فى الأمر هو الانتباه إلى احتمال “شمولية” هذه الجرائم والمآسى حتى تبدو فعلا ماديا مع أن آثارها تصل إلى التهديد بالإبادة الجماعية، أى: انتحار النوع.
ظل السيد بوش وفرقته يكررون على مدار ساعات اليوم والشهر والسنة نغمة: التخلص من امتلاك أسلحة الدمار الشامل، بالتبادل مع نغمة القضاء على الإرهاب (كما صنفوه)، وبغض النظر عن فشلهم فى إثبات ما يدعون هنا أو هناك، فإن الذى ينبغى أن يرسخ فى وعينا هو هذا التنبيه على احتمالية “شمول الدمار حتى الانقراض” !!
شكرا يا سادة، وإن كنتم لا تقصدون.
متى يكون الدمار شاملا؟
شمول الدمار لا يقاس بعدد القتلى، ولا بغباء (أو ذكاء) القاتل، ولا بمدى فتك السلاح المستعمل. يكون الدمار شاملا حين يتمثل فى سلوك أو إجراء مستمر، ومتماد ومتسارع، بحيث يفوق فى تسارعه وامتداده، كل القوى التصحيحية والمعادلة التى تحاول أن تحول دون الهلاك الجماعى للنوع البشرى.
من هذا المنطلق يمكن الزعم (بل الجزم) أن مقتل بضعة آلاف من الأمريكيين فى مركز التجارة العالمى، أو حتى بضعة مئات الآلاف من الأفغان والعراقيين، سواء بسيف الطغيان أو بغباء التخلف، أو بذكاء أطنان القنابل، أو بالتجويع، أو بالإذلال، كل هذا ليس دمارا شاملا، لأنه لا يهدد مجمل الوجود البشرى طولا وعرضا، طول الوقت.
إن ما حدث ويحدث الآن من قتل للأبرياء، وإحياء للاستعمار القديم، واستغلال للموارد، واستعمال لفئة من البشر باعتبارهم أدنى، هو النتيجة الطبيعة لسوء استخدام آليات ووسائل بعض إنجازات العقل المنطقى البالغة القدرة، لتزييف منظم للوعى البشرى، إن هذا التزييف يتم بالذات من خلال الإعلام والتعليم (تصور!!)، يحدث ذلك لصالح خدمة قلة تملك من مقدرات الحياة ووسائلها أكثر بكثير مما تستطيع أن تستعمله، أو أن تتحمل مسئوليته، هذه القلة هى التى تسخر أروع الإنجازات لأسفل الأغراض وأخطرها، وهى تكاد تعمى، وهى تدفع بالمسيرة البشرية إلى “انتحار شامل”، تعمى حتى عن موقعها وهى فى مقدمة هذا الطابور الذى تجذبه (لا تدفعه) معها إلى هاوية الانقراض.
لا جديد إلا الشمول
إن الذى فعله ويفعله الأمريكيون فى أفغانسان والعراق هو جريمة مسبوقة ليس فيها جديد، إلا معالم شمولها، حتى وراثة الطغيان والإجرام القاتل تحت شعارات خادعة، له سوابق تاريخية تكاد تكون طبق الأصل من حيث المزاعم والنتيجة جميعا. ليس جديدا ما يفعله بوش الإبن بعد الأب، أو ما فعله عـُـدَىّ وقـُـصـَـى مع والدهما الطاغية. التاريخ يذكرنا كيف أن الإسكندر تولى الحكم وهو فى العشرين بعد اغتيال أبيه “فيليب” الذى مارس الغزو والقتال والإبادة طولا وعرضا، ثم إنه حين اغتيل وتصورت اليونان أنها قد استراحت من شره، إذا بابنه الاسكندر يجتاح المدينة، يذبح كل سكانها..، ثم يعبرها، ليهزم جيوش الفرس، ويندفع إلى سوريا ومنها إلى مصر ثم يعود إلى بابل، ويأمر بذبح سكان مدينة بأكملها لأنهم من الإغريق، ويموت فى الثانية والثلاثين من عمره (4)، وبرغم كل هذا فإن ذلك لا ولم يعدّ دمارا شاملا، هذه الأفعال كانت طغيانا محدودا، حتى لو تم من خلالها محو مدن بأكملها، أو إبادة قومية عن بكرة أبيها. الذى كان يحدّها آنذاك هو محدودية قدرات فتك السلاح المتاح من جهة، وصعوبة انتشار الوباء القاتل من جهة أخرى، أى تواضع صناعة السلاح، وبدائية التوصيل والتواصل، بتغلب البشرية على هذه الصعوبة وتلك، أصبح الدمار أكثر شمولا، والانقراض أكثر احتمالا.
النذير:
إذا أردنا أن نقرأ الأحداث الأخيرة بمسئولية مناسبة، وبرغم الألم والانكسار، علينا أن نكف قليلا أو كثيرا عن النعى والنعابة، لننظر فى حقيقة وعمق معنى الأحداث باعتبارها نذيرا للبشرية كافة.
النذير الذى ينبغى أن يتماثل أمام كل الناس الآن لا يكمن فقط فى إدراك مدى تعملق القوى الكمية التدميرية المغتربة، ولا فى ما آل إليه تسويق وتقديس قيم الإستهلاك للاستهلاك، والتميز بالمال لندرة لا تعرف كيف تنقفه، النذير ليس فقط فى إعلان النكسة البشرية التى عادت تبرر أن يصنف البشر إلى “أدوات وعبيد” مقابل ماهو “ناس وأسياد”، ولا فى أن الديمقراطية المزعومة لا تمثل لا العدل ولا الحرية، ولا فى أن الدين أصبح مطية للساسة والسياسة بدلا من أن يكون دافعا للإبداع وحافزا للتطور، إن كل هذه المخاطر جديرة بالانتباه والمواجهة، لكن الأحداث الأخيرة تنذر بما هو أهم وأخطر، تعالوا ننصت لها وهى تقول:
(1) إن ثمة أسلحة شديدة الخطورة أصبحت فى متناول عدد متزايد من الناس هنا، وهناك.(حكومات، وأهالى، قطاع عام، وقطاع خاص !!).
(2) إن كثيرا ممن يمكن أن يحوزوا هذه الأسلحة لا يحسنون حمل مسئوليتها (يستوى فى ذلك صدام،وبوش، و شارون، و بن لادن).
(3) إن الخطأ الذى قد يرتكبه أى من هؤلاء أصبح “شاملا” لأنه يهدد كل النوع البشرى بالانقراض،وليس بالمعنى الذى يردده بوش، وهو يعتبر جرح إصبع مواطن أمريكى أخطر “شمولا” عن ما يمارسه من تدمير البشرية، من إبادة مئات الآلاف مجهولى الهوية عبر العالم.
الفرض:
فرض هذه المداخلة يقول: “إن ثم خطرا أساسيا أكبر يكمن وراء تلاحق هذه الأحداث الكوارث، هو أكبر بكثير من الضرر الذى أصاب أفغانستان، والعراق ، أو الذى يمكن أن يصيب أى قطر يغزوه هؤلاء الغزاة تحت زعم التعمير أو التحرير أو التنوير، هذا الخطر هو: “تزييف الوعى البشرى بما يخالف طبيعته، أى طبيعة وقوانين التطور، وهو خطر خبيث حين يسمح بمثل ما يجرى، ثم يبرره ليتمادى في مساره الانقراضى بما يهدد بانقراض كل البشر!”.
أخطاء التطور
ثـَـمـّـة أخطاء جسيمة ترتبت على سوء حسابات قوانين التكيف لصالح مزيد من التطورالبشرى، مثل هذه الأخطاء واردة عبر تاريخ التطور. كل الأحياء الباقية صححت أخطاءها أولا بأول بشكل أبقى على استمرارها، أما الأحياء التى لم تستطع أن تصحح مسارها فقد انقرضت، إن أى ناظر فى التاريخ والحاضر، يمكنه أن يدرك بوضوح أن الإنسان مسئول-ربما دون سائر الأحياء- عن انحراف مسار تطوره، وأنه، وليست الطبيعة، هو السبب فى ذلك، وفى نفس الوقت نلاحظ أنه أيضا لم يكف عن محاولة تصحيح أخطائه، وتعديل مساره.
أزمة الوعى، ومحنة العقل:
الخطر الذى يهدد الإنسان أكثر فأكثر ينبع من نفس الميزة (الميزات) التى تميز الإنسان بها على سائر الأحياء، ذلك أن هذا الخطر هو ناتج من اكتساب الإنسان ذلك القدر من “الوعى بالذات وبالزمن”، وأيضا من تميزه بتلك الآلية المسماة الأحدث “العقل” وهى لا تمثل إلا قشرة مميكنة من تاريخ تطوره، نتيجة لهذا وذاك، أصبح مستقبل الإنسان، دون سائر الأحياء المعروفة،غير قاصر على الناتج التكيفى الطبيعى للتفاعل مع البيئة والمحيط، بل أصبح تحت رحمة نجاح أو فشل هذا الوعى المنحرف وذاك العقل الجزئى، حيث تدخل كل من هذا وذاك، سلبا، وعماءً، بالتخطيط الغبى، حتى أدى به إلى الوقوع فى أخطاء تهدد بانقراضه.
تزييف الوعى:
يبدو أن ما انتهت إليه البشرية من إنجازات فى كل المجالات (الإبداعية والتقنية والعلمية خاصة) هو أكبر من قدرتهاالحالية على استيعابها لصالح تطور نوع البشر، بل إن المردود كان معكوسا فى كثير من الأحيان، حيث تم توظييف هذه الإنجازات لتزييف الوعى، لا لحماية النوع وحفز التطور.
يتم تزييف الوعى بشكل متماد، سرا وعلانية من خلال سلطات رسمية، أو منظومات خاصة، يتم بوسائل شديدة التنوع والإلحاح نكتفى بمجرد الإشارة إلى بعضها، دون تناول أى منها تفصيلا، ومن ذلك: الاختزال، والتهميش، والتجزىء، والإحلال، والإلهاء، والتعتيم، والتدين الشكلى، وادعائه، والترغيب، والترهيب، والاستقطاب، والتأجيل، وما شابه. إن أبسط وأحدث الأمثلة للإلهاء والإغراق والإزاحة معا هو ظهور هذا الكم الهائل من الإذاعات، والمحطات الفضائية والمحلية، خذ- مثلا – المحطتين اللتين ظهرتا مؤخرا تذيعان أغان خفيفة طوال 24 ساعة، ما هى المساحة التى تبقى فى وعى، أو وقت، أو ذاكرة، أى شاب أو فتاة أو شخص لأى شىء آخر، مثل هذا الإجراء لا يحشر معلومات مغرضة بذاتها فى أمخاخ المتلقين، لكنه يكتفى بشغل كل شىء بأى شىء (5) أو حتى بلا شىء، وبالتالى تصبح مساحة ما تبقى من الوعى سلبا خالصا جاهزا لتلقى أى شيء، يمكن الرجوع للمزيد فى “خدعة التكنولوجيا (6).
حركية المواجهة:
على الرغم من كل ذلك، فإن الناس تتجمع على الجانب الآخر دفاعا عن حقهم فى البقاء، الناس من كل لون وجنس، دون استبعاد بعض عامة ومبدعى الأمريكيين والإنجليز وغيرهم من الجنوب والشرق من الشرفاء الذين ينتمون للناس لا للسلطة، إن تشكيل مستويات الوعى البشرى بما يخدم أحد الفريقين أصبح فى متناول كل من يحذق مخاطبة المستويات المغيبة عن بؤرة الخطر القادم. لم تعد المسألة مجرد إقناع عقلى بفكرة (أو أيديولوجيا)، ولا دغدغة لعاطفة أو تلويح بلذة، وإنما المسألة تخطت كل ذلك إلى مخاطبة الغرائز البشرية (الأصلية، والمصنعة) بما يناسب خدمة الغرض الواعد والمتربص طول الوقت.
غرائز وغرائز:
إشكالة الحديث بلغة الغرائز عامة هى إشكالة حديثة قديمة، لكن المتابع لحقيقة مسارات التطور لا يستطيع أن يتجاوز حتمية مواجهة البدء من غرائز البقاء حتى لو لم يجرؤ على الاعتراف بغريزة الموت، (مع أنها أيضا تخدم بقاء النوع)، علينا أن نكتسب الشجاعة الكافية التى تسمح لنا بالحديث عن الغرائز السياسية، والغرائز الدينية، وغريزة القطيع، ونحن نحاول أن نرصد المعركة الدائرة بين تزييف الوعى، وتحريك الإبداع، بل إنه علينا أن نتقدم خطوة أخرى فى محاولة احترام فرض يدعو إلى رصد تخليق غرائز إيجابية جديدة ما أمكن ذلك.
لعل هربرت سبنسر هو القائل “إن عادات اليوم هى غرائز المستقبل”. من أمثلة الغرائز السلبية الزاحفة التى تكونت حتى كادت تصبح جزءا من الطبيعة البشرية المصنعة: “غريزة الاستهلاك لما لا حاجة لنا به، وغريزة امتلاك ما لا نستعمله، وغريزة الوعد بما لا نقدرعليه“، بل ولا نعرفه أو نعرفه (مثلا: الحرية)، وغريزة قصر النظر، وغريزة القتل عن بعد لمن لا نعرف.
وياليت الأمر اقتصر على تشكيل تلك الغرائز المصنعة، بل إن تزييف الوعى والسلوك والتعلم، راح يتعامل مع غرائز البنية الأساسية (إن صح التعبير) لنفس غرض التدمير والردة، ذلك أنه يجرى اختزال: غريزة الجنس للجنس (دون التناسل أو التواصل) واختزال غريزة العدوان للقتل (دون الإبداع)، واختزال غريزة الجوع للإذلال (دون الشبع والأمن)، وتحوير غريزة القطيع (الانتماء للمجموع) إلى ما يسمى الديمقراطية لخدمة أى أحد إلا مجموع القطيع.
…………………..
ونكمل غداً
سألناكم الإفاقة والدعوات!!؟
[1] – المقتطف من كتاب “تزييف الوعى البشرى، وإنذارات الانقراض” بعض فكر يحيى الرخاوى (الطبعة الأولى 2019) وصورته الأولى كانت مقالات فى (مجلة سطور) (من يوليو 1997 إلى يوليو 2006 + 1) والكتاب متاح فى مكتبة الأنجلو المصرية وفى منفذ مستشفى دار المقطم للصحة النفسية شارع 10، وفى مركز الرخاوى: 24 شارع 18 مدينة المقطم، و يوجد بموقع المؤلف www.rakhawy.net وهذا هو الرابط
[2] – مجلة سطور: (عدد سبتمبر 2003)
هذا المقال هو قراءة فى الأحداث الجارية بعد حرب العراق وهو يقدم فرضا يقول “إن ثم خطرا أساسيا أكبر يكمن وراء تلاحق هذه الأحداث الكوارث، هو أكبر بكثير من الضرر الذى أصاب أفغانستان، والعراق، أو الذى يمكن أن يصيب أى قطر يغزوه هؤلاء الغزاة تحت زعم التعمير أو التحرير أو التنوير، هذا الخطر هو: “تزييف الوعى البشرى بما يخالف طبيعته، أى طبيعة وقوانين التطور، الأمر الذى يسمح بمثل ما يجرى، ثم يبرره ليتمادى بما يهدد بانقراض الإنسان”.
[3] – للأسف اضطررت لتقسيم هذا المقال مرة أخرى ليستكمل غدا الأحد الجزء الثانى والأخير حين شعرت أن جرعة الرعب التي حملها هذا الجزء تحتاج إلى صمت وإعادة حتى تخف لعها تجد سبيلا لقبول التحدى، ولننتصر ونبقى.
[4] – د. فوزى فهمى “عار العالم” مكتبة الأسرة (2003)
[5] – كان ذلك قبل انتشار سرطان التواصل الاجتماعى عبر الفيس بوك ومثله 2019
[6] – جاك إلول “خدعة التكنولوجيا” ، ترجمة: د. فاطمة نصر، طبعة مجلة سطور، سنة 2002.