نشرة “الإنسان والتطور”
السبت : 4-9-2021
السنة الخامسة عشر
العدد: 5117
من كتاب “تبادل الأقنعة” (1)
(دراسة فى سيكولوجية النقد)
التفسير الأدبى للنفس
قراءات فى ديستويفسكى (2)
الفصل لثالث
ديستويفسكى يعلمنا:
حركية العلاقات البشرية جدلا وامتدادا
فى الإخوة كارامازوف (5 من ؟)
مقدمة:
نواصل اليوم عرض نقد الأخوة كارامازوف
وأعتذر مكرراً لصدور هذا النقد مجزّأ هكذا، لكننى اقتنعت أثناء مراجعتى أنه يستحق أن يقرأ ببطء، بل إنى أوصى أن نقرأ ما ينشر لاحقا مع ما ينشر تباعاً.
أنا أسف
……….
10- النهاية:
بعكس كثير من نهايات محفوظ، فإنى أجد نهايات ديستويفسكى شديدة الإتقان رحبة التفتح، وفى هذا العمل كان من البديهى أن تكون النهاية متعلقة بموت إيليوشا، وليس بهرب ميتيا، الذى تركنا ونحن غير متأكدين أنه سوف يتحقق أصلا، وكان كل هذا الألم، والأمل، المتعلقان بموت ميتيا هو الأرضية الحقيقية التى ينثر فيها ديستويفسكى بذور إبداعه وأزمة وجوده معا، ومع أنى ربطت بين كلمة الكتاب التى اختارها ديسوتويفسكى من إنجيل يوحنا (2) وبين موت إيليوشا إلا أننى وجدت أنها مقابلة تضعف النهاية لا تقويها، ثم إنى لمحت هتاف الأولاد “مرحى كارامازوف” وليس مرحى “أليوشا” وكأنه مقصود، من حيث أن ما يحمينا ويحافظ على أملنا هو الكارامازوفية بمعنى “حب الحياة” وليس هذا الجانب الواحد منها الذى يمتلكه “أليوشا”.
11- هوامش أخرى
(1) المرأة والأرض والحياة: شئ واحد؟
تكرر ذكر المرأة/الحياة بشكل مباشر “إننى أحب المرأة أحب المرأة وخاصة إذا كانت المرأة هى الحياة “جروشنكا.”.
ثم استقبلت علاقة الإثنين بالأرض استقبالا مرادفا
ميتيا “…. إننى أحب المرأة.. ما المرأة؟ هى ملكة الأرض.. “.
وحب “الحياة/ المرأة/ الأرض” بهذا العنف الحساس هو من أدق العلاقات التى يلحقها حزن حى، فهو يعقـّب مباشرة:
“أشعر بحزن ياهوراسيو أشعر بحزن شديد”
(2) الصورة والذاكرة المستقبلية:
هذا هامش سبق الإشارة إليه، ولكنى أركز هنا على أمرين:
(1) إن الذاكرة عند ديستويفسكى تكاد تكون دائما مُصوَّرة حية (ذاكرة أليوشا عن أمه مثلا)
(2) وأنها تُعْلن ابتداء كذخيرة حاضرة مستدعاة مستقبلية.
ب- “ومن بين ذكريات تلك الليلة ذكرى صغيرة ستظل تنبجس… الخ (3).
(3) وعن الطفولة:
وهذا أمر يحتاج إلى بحث خاص أيضا كنت قد بدأته [فى نيتوتشكا نزفانوفنا] (الفصل الثانى) وأتمنى أن أؤجله هنا حاليا إلى أن أعود إليه لأكمله مجتمِعا ضاما إيليوشا إلى كوليا من هنا، إلى هيلين من مذلون مهانون، إلى من يظهر فى “المراهقون”… الخ وقد يصل الأمر - حسب توقعاتى- أن أستخرج من آراء ديستويفسكى نظرية تربوية صالحة.
(4).. وعن الحيوانات:
لابد أن علاقة ديستويفسكى بالحيوانات علاقة ذات دلالات هامة ، فلا يكاد يخلو عمل له من كلب أو كلاب (مذلون مهانون)، أو حمار (الأبله)، وهو يستعمل الحيوانات فى حركية داخلية حتى ليكاد المتلقى الصادق يتلمسها داخل ذاته، وفى العمل الحالى ركَّز، وكرر إستعمالا خاصا لما هو “حشرة” فتجاوز بها الاستعمالات الأسبق.
لن أتطرق كثيرا إلى موضوع الكلب برزفونة أو بديله هنا مع أن له علاقة بشكل مباشر بالموقف السادى لسمردياكوف الذى سيأتى ذكره تفصيلا. لكن موضوع “الحشرة” واستعمال ديستويفسكى لها هنا بهذا الشكل هو الذى يحتاج منى إلى وقفة. وقد استعمل ديستويفسكى لفظ حشرة بلا تمييز، ثم استعمل لفظ “بقة”، ثم ميز نوعا محددا من الحشرة المتوحشة فى الداخل والخارج.
وبالإضافة لما سبق ذكره فى المقدمة حول هذه النقطة أقول:
لست أدرى أى حشرة متوحشة قفزت إلى ذهنى وأنا أركز على ما تمثله حشرة ديستويفسكى من حسية، أحسب أنها حشرة صلبة صغيرة قارضة، وليست سامة، شئ أقرب إلى الخنفساء، لكنها أصغر حجما وأحد أسنانا، شئ لابد أن يطرقع وأنت تفعصه، ثم هو لا يموت، فهل هذا ما أراد ديستويفسكى أن يوصله لوعى المتلقى؟ لعله كذلك.
فى تصويرى هذا التصور لما هو حشرة تصورتها الممثل الفعلى لحياة حسية بحته، حياة منفصلة عن الوعى، وعن الوجدان، وعن الفكرة، وعن الهارمونى، بل وعن الحياة، فصغتها هكذا:
الحشرة هنا هى : حياة الموت حسا منفصلا كجسم غريب، نيزكا شاردا على وشك السقوط عشوائيا حيث لا يدرى.
وكأنى بديستويفسكى يقول:
إذا انفصل الحس اللذة عن الوعى عن الوجود، عن الكل، عن الحياة، عن الكون، فهو ليس إلا حشرة بهذا الوصف الذى وصفنا.
وحين خاطب إيفان أليوشا قائلا
“فيك أيضا تحيا هذه الحشرة… إنها تغلى فى دمك وتهب العاصفة فى نفسك” (4) قرأتها مباشرة وكأنها مرادفة للذة إذ ألحق بذلك:
”ذلك أن اللذة شر من زوبعة” بل شر من عاصفة” (5)
لكن ما لم أفهمه هو أن يردف بعد ذلك حديثا عن الجمال فيقول:
”الجمال شئ رهيب مخيف، هو رهيب لأنه لا يـُـدرك ولا يُفهم، لقد ملأ الله الأرض ألغازا وأسرارا. الجمال هو شطآن اللانهاية تتقارب وتختلط، هو الأضداد تتحدد ليحل بينها الوئام والسلام.”
فكيف يلحق كل هذا الوصف الرائع للتكامل بهذا الوصف للحشرة، وكيف يرى اختلاط الأضداد بعد كل هذا الذم فى الحشرة والتحذير منها؟ هل كان يدعونا بطرق خفية إلى الانتباه أنه من خلال الوعى بهذه الحشرة فينا، وليس بإنكارها، يمكن أن نواصل السعى إلى هذا الجمال الشىء الرهيب المخيف شطآن اللانهائية: حيث الأضداد تتحدد ليحل بينها الوئام والسلام!!؟
ثم إنى رفضت أن يكون القطب المقابل للحشرة هو الملاك.
لكنه للأسف وضع “الله فى الملاك” بنفس قدر الانشقاق الذى وضع فيه “اللذة فى الحشرة”.
هذا من أصعب ما رفضت، وإن كنت أعتقد مخلصا أنه اضطر لهذا الإستقطاب بشكل ما، لأسباب لا أعلمها، لأن بقية السياق يشير إلى عمق رؤيته للولاف وللحركة المحتوية لهذا الاستقطابالجدلى الرائع بشكل ما.
5- ثمَّ إغراء للمقارنة
إن الحدس الإبداعى الأصيل يلتقى مع غيره دون حاجة إلى إثبات سبق أو تأكيد مقارنة، يصح هذا أكثر فى الإبداع الجماعى فى الأسطورة والمثل العامى، كما يظهر بين إبداع الكاتب ونفسه، وإبداع الكاتب وغيره من معاصريه وغير معاصريه، ولا أظن أنه يفيد كثيرا أن أدخل فى تفاصيل مقارنات (خاصة مقارنات التفضيل) بصفة عامة، أو بصفة خاصة – لذلك سأكتفى هنا ببعض الإشارات العابرة لاحتمال مقارنات ممكنة:
(أ) احتمال مقارنة بين فهم دوستويفسكى لفكرة برج بابل الذى أراد البشر أن يشيدوه بلا إله، كما يحاولون ذلك الآن، لا ليرتفعوا من الأرض إلى السماوات بل لينزلوا بالسماء إلى الأرض، وبين مئذنه جلال صاحب الجلالة فى ملحمة الحرافيش لمحفوظ الحرافيش.
(ب) نص ديستويفسكى فى هذا المتن على عدة مقارنات مباشرة مثل انتحار أوفيليا وانتحار الفتاة الرومانسية، وبين مسرحية شيللر، وسفر بيرون..، فى القصيدة التى اخترعها إيفان إلخ.
(جـ) أغرانى هاتف ما أن أتذكر فلة وهى تعمل فى غرزة الحرافيش حين قرأت أن جروشنكا كانت قد عملت بعض الوقت لحساب فيدور فى خمارته .
(د) قفز إلى ذهنى تشبيه جريجورى لابنه الذى هو خطأ من أخطاء الطبيعة، – “لأنه “تنين”، “نتيجة أنه اختلط الأمر على الطبيعة”. بما جاء فى مائة عام من العزلة وخوف زوجة جوزيه أركاديو الكبير أن تلد إنسانا بذيل. وأيضا بولادة تمر بنوى فى سوق السمك (العطر/ لباتريك رزوسكند)
(هـ) كذلك يمكن مقارنة أبله ديستويفسكى نفسه بكثير مما ورد فى هذا العمل، وكأن أليوشا هو تطور الأبله وكذلك يمكن – مقارنة أناستازيا مع جروشنكا، وحتى منظرحرق النقود فى المدفأة فى الأبله، مع منظر عرض النقود على الضابط سينجريف (والد إيليوشا).
(و) بل إن فكرة أن تجسيد “داخل” إيفان فى سمردياكوف (كما صورته ناقدا) قد ذكرتنى بصورة دوريان جراى ، وأيضا بالمعنى الذى عرضته فى قراءتى لابنة ريان: حيث تجسد المدرس فى القسيس، والضابط (اللذة) فى الأبله (البدائية).
(ز) أشرت سالفا إلى مقارنة “حشرة” ديسويفسكى هنا، بالقراضة “غرينوى” فى العطر،لباتريك زوسكند.
6- أراء فى الفلسفة والأخلاق والسياسة تستحق وقفة
أ- نقد موقف المثقفين
” بل مثقفين أدعياء يحملون فى أنفسهم” مشكلات عميقة لا تحل”…. إن جوهر تفكيرهم هو ما يلى: من جهة أولى يستحيل التسليم ومن جهة أخرى يستحيل عدم الإنكار” (6)
أهمية هذا المقتطف هو أن ننتبه لوعى ديستويفسكى أنه إذا كان قد طرح الرأى ونقيضه على لسان شخوصه أو حتى على لسان نفس الشخص (إيفان مثلا)، فإنه لم يفعل ذلك مثل هؤلاء المثقفين الذين عراهم بهذا التعبير.
ب- وعن فلسفة الجمال.
”الجمال هو شطئان اللانهاية تتقارب وتختلط”
جـ- عن حق الحكم على آخر بأنه لا يستحق أن يعيش.
”هل تعتقد أن من حق كل إنسان أن يعـين… أولئك الذين ما يزالون يستحقون أن يعيشوا وأولئك الذين يجب أن يزولوا؟” (7)
د- وعن احترام الغباء، وعلاقته بالحكمة
قل لى: “لماذا تعمدت أن تبدأ الحديث بيننا على أغبى نحو ممكن”
- أولا لأننى أحببت أن أجارى عادات الناس… وثانيا: لأن المرء يكون أقرب إلى الحقيقة حين يكون غبيا. إن الغباء يمضى نحو الهدف”. (8)
وقبل أن أختتم هذا الهامش أذكر نفسى والقارئ أنها ليست آراء ديستويفسكى، وإنما هى رؤاه على لسان شخوص مختلفين وأننى بالرغم من رصدى لتحيزه لفكرة معينة، إلا أننى رصدت استقبلتُ فى نفس الوقت مساحة السماح التى تركنى أتحرك فيها، وكم المسام التى فى جدران بنايته الضخمة.
ثالثا: أشخاص
ثم ننتقل إلى المحور الثالث، وأستسمح القارئ أن أركز كثيرا، أو تماما تقريبا (!!) على أسرة كارامازوف.
فيدور كارامازوف
هو رب هذه العائلة الأكبر، هذا هو التعريف الرسمى، لكن حضوره لم يكن كذلك أبدا، اللهم إلا فى استيلائه على الأموال بحق وبدون حق ، وعلى كـلٍّ، فقد اختلفت صور حضوره: باختلاف الواصف، ومرات باختلاف الموقف، ومرات حسب مزاج الراوى، ومن ذلك:
1- فحين يصفه الآخرون، بما فى ذلك الراوى، فى نزواته وصبواته يبدو مستهترا، منافقا، وصوليا، طفيليا، منحلا، فى حين أنه حين يحضر، ويحاور، ويصف نفسه: يبدو فيلسوفا حائرا، متحديا، وطفلا أيضا.
2- لم يكن أبا إلا فى نادر الندرة، مثلا حين ينصح أحد أبنائه أن يحب الآخر.
- “إيفان: هل تحب إليوشا. – أحبه. – يجب أن تحبه” (9).
3- كان منافسا عنيدا لمعظم الأبناء فى كثير من المواقع، ينافس ديمترى، فى حبه جروشنكا، وينافس إيفان فى الإلحاد.
أما علاقته بأليوشا فكانت تتراوح بين الحب البنوى (باعتبار أليوشا أباه)، والاحترام للاختلاف، والنصح الأبوى بالصدفة البحته، والائتناس به أغلب الأوقات. كان باطنه ظاهرا بلا حرج، وهو يتمادى فيما يفرضه عليه، وخاصة فى مسألة التهريج، فيقلبها إهانة لذاته، وكأنها ليست هى هو، يغيظ بذلك الآخرين (ما أمكن ذلك).
4- وكان مصرا بوعى ومسئولية على الخلاعة حتى نهاية العمر
ولكنه أيضا:
5- كان فنانا تلقائيا يرسم حياته بطريقة مكثفة متعددة الحضور، (راجع الموقف المزدوج لتفاعله عند وفاة زوجته الأولى سواء انتحابه الطفلى، أو باستعادته حريته) وهو موقف شديد العمق والدلالة .
ثم نلاحظ ذلك أيضا فى تلك النقلة الفنية حين تذكر أليكسى أمه وزار قبرها بمساعدة جريجورى فتأثر، فاندفع إلى الدير ليهب ألف روبل لتتلى الصلوات على زوجته الأولى وليس على أم أليوشا.
الإبداع فى هذا الموقف يتمثل فى تلقائية التكثيف وجمال المفاجأة المزاحة بعيدا عن التفسير المسطح أن هذا نتيجة عدم تركيز أو نسيان.
كان فيدور حاد البصيرة لما هو فيه، “أنا كّذبُ يحيا…”
وفى نفس الوقت” إننى أكره الكذب” إلخ
- كما كان شديد الحساسية أيضا، وخاصة حين يشرب، ويحتاج لمن يؤنسه، ويراه.
- وكان صاحب موقف سياسى:
”أما روسيا فهى بلد قذر حقير..: أو قل إننى لا أكره روسيا بمقدار ما أكره هذه العيوب، وربما كرهت روسيا أيضا”.
- وكان محبا:
كان يحب أليوشا.
بل وأعلن لإيفان أنه يحبه ليس أقل من أليوشا.
وعلاقته بميتيا تظهر وكأنها تنافسٌ كاره، ولكن، ربما لولا جروشنكا، لكانت من نفس النوع السهل المحب. وحتى سمردياكوف، كان يحبه.
” لا يدرى أحد لماذا، رغم أن الفتى كان متوحشا معه كتوحشه مع سائر الناس” (10).
أما موقفه من الدين فيمكن إيجازه كما يلى:
1- كان متدينا حدْسيا عاديا، بشروطه.
2- لا يعوقه شعور بالذنب أو خوف من نار أو طمع فى جنه.
3- كان ساخرا ناقدا فنانا، يريدها نارا بلا سقف لتلتقطه الشياطين..
ديمترى
1- إفتقد ديمترى منذ البداية الأم والأب، وماتت أمه بلا ذكرى (مثلما هو الحال بالنسبة لذكرى أليوشا عنها) ولم ير أباه، أو لم يعرفه إلا بعد بلوغه سن الرشد.
2- ظلت الرواية: ترسمه عكس إيفان تماما. “إن من الصعب على المرء أن يتصور إنسانين بينهما من قوة التنافر ما بين هذين الأخوين” (11).
لكن هذا هو الظاهر فحسب.
3- ففى مناقشة مع راكيتين.
“أنظر إلى هؤلاء الشهوانيين الثلاث”. وكأنه جمع إيفان فى شهوانيته مع ميتيا وفيدور… على قدم المساواة.
4- فهو لم يكن – هكذا – يمثل اللذة فحسب كما جاء فى المقدمة، والفصلان المتعاقبان للاعترافات يشيران إلى نفس العمق الذى يتناول به قضايا الوجود والوعى. أنظر إليه وهو يقول: (ذلك اللذي!! يقول)
”لقد أحببت المجون حتى فى العار، لقد أحببت القسوة، … ألست بقـة؟ ألست حشرة خبيثه؟” (12)
وفى نفس الوقت هو الذى يقول:
”إن المصير الفاجح الذى كتب على البشر يعذبنى تعذيبا شديدا لأننى أنا نفسى واحد من هؤلاء الأشقياء البؤساء” (13).
بل أنظر إلى حيرته الوجودية وهو يحاول أن يعاهد الأرض.
”لابد أن يقطع للآلهه القديمة” “أم الأرض” “عهدا إلى الأبد”
“إننى أسير فى الليل دون أن أعرف أأنا أغوص فى الوحل والعار أم أتقدم نحو الضياء والفرح، ذلك هو بعينه البلاء” (14)
ثم إنه يتمتع ببصيرة تكاد تقترب من بصيرة أبيه.
ونلاحظ عموما أن عمق البصيرة يتناسب مع أحد متغيرين: ضعف الكف (فيدور – ديمترى) أو حدة التفعيل (acting out إيفان، أليوشا)
(عن كاتيا) “هى لا تحبنى أنا، وإنما تحب نبل نفسها وأريحية قلبها وشهامة روحها”.
”إلا أن البلية هى أننى لن أنتحر، لن أنتحر الآن على كل حال” (15) (ويتكرر أن يهم ولا يفعل).
” وأيضا..، هو يعلم كيف يستسلم لإهانة نفسه بوعيه مثل أبيه “وإذا جاء عشيقها يزورها اختبأت فى الغرفة المجاورة، وسأنظف أحذية أصدقائها” (16)
ثم إعلانه المتكرر (سبب الورطة البوليسية) أنه سيقتل أباه، لم يكن إلا وعيا بداخله، وليس تهديدا قابلا للتحقيق.
“إن رجسا كريها يتهيأ هنا (كان الرجل الذى يشير إليه إنما يوجد فى هذا المكان بعينيه).. رجس ينضج ويتخمر و يمكننى أن أكبته” (17).
لكن السجن بدأ يلمه، فأصبح – بعد أن انفرد بنفسه فى سجنه! – يغار من الكابتن صديق جروشنكا القديم.
بل إنه ولد من جديد فى السجن “لقد ولد فىّ كائن جديد، الحق أنه كان موجودا منذ الأزل، ولكن ما كان له أن يظهر لولا تلك الكارثة” (18)
” لا تستطيع أن تتصور رغبتى المحمومة فى أن أوجد وأن أعرف” (19)
”ولعلنى لم أندفع للشراب، ولم أقاتل الناس وأنقاد للعنف إلا لأن تلك المعانى كانت تغلى فى داخلي” (20).
أما موقفه من الدين: فهو متدين عادى، أقرب إلى تدين أبيه دون سخرية ثائرة.
”أحلف لك يا أليوشا.. أحلف لله صادقا صدق وجود الله، وصدق أن يسوع المسيح ربنا… الخ” (21).
وهو يفسر عذاب الأطفال (تدينا)- بأن كل الناس تدفع ثمن ذنوب كل الناس، (بالمقابلة بإيفان الذى دفعه رفضه لعذاب الأطفال أن يرد البطاقة لله ويتنازل عن التدين أصلا).
وهو ناقد عادى للإلحاد: أنظر قوله لراكتين: “إنك إذا أنكرت الله تنتهى إلى زيادة سعر اللحم أنت نفسك فتربح بالكوبك روبلا..” (22)
إيفان
إيفان له دور أساسى ثابت معظم الوقت، ملتحف بعناد جاف، يتحدى بألم شخصى، مرهق، ثم هو يقتل بأداة غير ذاته، يقتل من باب تحصيل الحاصل، ووأد الحياة.
وديستويفسكى يصفه منذ البداية بدقة مفرطة.
”متجهم، وليس خجولا” (23)
”مشغول البال دائما بشئ ما، بمسألة نفسية لعلها خطيرة” (24)
وهو ليس مجرد كاتب مقال، بل هو مفكر، يعانى عذابا كيانيا (إيمانيا) ويحب أن يعبث بعذابه.
يقول عنه ميتيا أنه قبر، فيرفض أليوشا ويقول إنه لغز، وهو يعترف بالخلود فى الإله، ويؤمن فى خطوة منطقية مبدئية، -رغما عنه- ولكنه بعد أن يرى الظلم، وأذى الأبرياء، يرجع بطاقته متنازلا عن الله والدين، وعن أمل التناغم الأعظم.
أمه ماتت – أيضا- ولكنها لم تترك له ذكرى ولا صورة (مثل أليوشا) وأبوه نسيه ثم أنكره صراحة (فضلا عن ممارسة الإنكار فعلا ظاهرا) وربما كان هذا الإعلان للرفض والإنكار هو الأقسى والأخطر من الرفض ذاته، أو هو بُـعد مضاف ومستقل نوعيا، ذلك أن الترك الجسدى قد يستعاض عنه بصورة داخلية مثلما حدث لأليوشا، وإنما الأكثر إيلاما هو الطرد المعنوى:
” أما إيفان فإننى لا أعترف به إبنا لى، من أين جاء هذا الوبش؟ إنه ليس مثلنا، إن له نفسا غير نفوسنا” (25).
ومع هذه العلاقة النافرة الخاصة (والتى سنـرى أعتى منها وأقسى بين سمردياكوف وإيفان) لابد أن نبحث عن وجه الشبه بين الأب فيدور والإبن إيفان (مع أن المتوقع لأول وهلة أن يكون الشبه بين ديمترى ووالده) . يأتى تأكيد وجه الشبه بين إيفان وأبيه مِن من؟ من سمردياكوف، يقول:
”إن هذا الأبله قد ساق ملاحظة شائقة يمكن أن يفاخر بمثلها رجل أذكى منه…” بين جميع أبناء فيدور بافلوفتش لا شك مما يشبهه سائرهم، هو إيفان فيدروفتش” (26)
فهل هذا صحيح؟ ولماذا
أظن أن هذا يشير مباشرة أن الكارامازوفيه إذا تعقلنت، ولم يحلها التفعيل سلوكا سيكوباتيا عادة، إذا لم يحدث ذلك انقلبت إلى هذه الصورة الواقعية الشاكة الشيزيدية التى يمثلها إيفان؟.
ثم إن إيفان – أيضا- يحب الحياة (كارامازوفيا) ولكن بطريقته:
وهو الذى شرح الشيزيدية، والخوف من الاقتراب بمنتهى الدقة (27)
وهو الذى عبـر عن نوع الألم وصعوبة المشاركة.
وقد وصلنى حبه للأطفال – كظاهرة كارامازوفية عامة – أكثر مما وصلنى من أليوشا.
”ولكن الأطفال يمتازون على الأقل بأن المرء يستطيع أن يحبهم عن قرب مهما تكن وساختهم ودمامتهم”.
مهم جدا أن نتذكر أن إيفان (وليس ديمترى) هو الذى ذكر حكاية الحشرة، وهذا مناسب لأن الشيزيدى هو الذى يستطيع أن يدرك كيف أن وجوده ينفصل - كجسم غريب- عن هارمونية الكون: الإيمان.
وكذلك نذكر هنا أن مثالية إيفان تبدو فى نوع العدل الذى يطلبه، وهو نوع من العدل يلغى الصراع ولا يواجهه، ليتجاوزه مثل:
”أريد أن أرى الوعلة بعينى مستلقية أمام الأسد فى هدوء وسلام، وأن أرى الضحية مرتدة إلى الحياة تعانق قاتلها” (!!!) (28).
وهو يرى أن الانتظار حتى يتكشف سر العالم هو القاعدة التى تقوم عليها سائر الأديان وبالتالى، (“وأنا امرؤ مؤمن”) هو ينتظر بدوره أن ينكشف سر العالم، لكن اعتراضه ينصب على أنه أثناء هذا الانتظار لاكتشاف سر الكون والالتحام بانسجام محتمل، سيسرى الظلم، ويقهر الضعيف ويشوه الطفل، وتصل قمة فلسفته فى قوله “إننى لا أجحد الرب، ولكنى أعيد إليه بطاقتي” (29).
ومع ذلك، وبعد أن كفت السماء عن بذل الضمانات، فهو يكاد يقر:
”أنه لا قيمة بعد الآن إلا ليقين القلب دليلا وبرهانا”.
هذه القصيدة هى إيفان “شخصيا”.
وهى تعلمه إيماناً شديداً وراسخاً.
وهى إعلان لاستحالة حل المشكلة الوجودية بإعطاء الحرية من الرب (شخصيا) لأن الإنسان سوف يتنازل عنها لصالح السلطة الدينية أو أى سلطة.
وكانت إرهاصات إيفان بالحكم الشمولى الدينى أساسا (والذى أخذ محتوى شيوعيا بعد ذلك فى روسيا (وغير روسيا) شديدة الدلالة فى قوله:
”وستحررهم من القلق” (30).
ثم يعترف إيفان بأن الدين مخدر الشعوب.
” فقد أقر ضرورة الكذب على الناس وتضليلهم. وخداعهم، بغية السير بهم إلى الموت وإلى العدم “سيرا واعيا، ولكن مع ترك أوهامهم لهم فى الطريق” (31).
ثم هو يرى الحل الصوفى الذى لا يصلح للعامة بوضوح فى شكل:
”… ثمرة تفاهم واتفاق، وأن يكون نوعا من جمعية سرية أنشئت من زمن طويل للمحافظة على السر وإخفائه عن أنظار الضعفاء والبؤساء وتأمين سعادتهم بذلك”.
ومع كل هذا المنطق البالغ، الوضوح فإن التعاسة هى الثمن.
صحيح أنه لا يؤمن بالله، ذلك كل سره، ولكن أليس هذا عذابا بالنسبة إلى رجل مثله ألاّ يؤمن، وما ذنبه فى ذلك بعد كل هذا الصدق واليقين لاختياره، اختيار إيفان الموت حيا، حتى كأنه هو شخصيا الموت.
أما عن رؤية أليوشا لموت إيفان، بل لإيفان الموت، فإنه يذكرنى بقول صلاح عبد الصبور فى ليلى والمجنون على لسان ليلى “.. يا ويحيى أحببت الموت” وحين يتجسد الموت فى إنسان شقى ما زال يفكر ويبرر ويدافع عن موته ويصر عليه، لابد أن يثير رحمة وألم شخص يحبه، وخاصة وهو عاجز عن أن ينقذه، وقد كان هذا هو أليوشا، أنظر إليه وهو يذكره بالحياة:
”وبراعم الربيع الغضة، ماذا أنت صانع بها؟ والقبور العزيزة عليك .. كيف ستعيش إذن؟ وأين ستجد القدرة على أن تظل تحب؟ (32)
وإيفان رغم هذا الموت يستشعر القوة الكارامازوفية، وهو يسخرها دون أن يدرى فى تأكيد الموت.
”إيفان – فى نفسى قوة سوف تستطيع أن تصمد
أليوشا – أية قوة.
إيفان – قوة آل كارامازوف.. قوة الحطة والخسة.
(وقد أشرنا قبل ذلك إلا أن صفة الحطة والخسة هذه ليست هى كل الكارامازوفية، برغم حضورها الواضح متى لزم الأمر)
ثم ها هو يعبر عن أقوى عاطفة أخوية، إذْ يستمد الحياة من أخيه (الموضوع البشرى الحقيقى).
”إسمع يا أليوشا، إذا بقى فى نفسى من الحياة ما يكفى لأن أحب براعم الربيع النضرة، فسوف يكون هذا بفضل ذكراك..، سوف يكفينى فى ساعات الكمد واليأس أن أتذكر أنك مازلت تحيا فى مكان ما، حتى أسترد حب الحياة فورا” (33)
ونلاحظ هنا كيف أن أليوشا قد أصبح موضوعا داخليا/خارجيا جيدا، وأنه بذلك اخترق ويخترق شيزيدية إيفان ضد كل العوائق.
وحين استشعر إيفان أليوشا كموضوع يقترب، أعلن ضرورة الابتعاد، بقدر إعلانه -كما ذكرنا حالا- روعة الطمأنينة المحتملة (عن بعد)..
“والأفضل ألا تكلمنى بعد الآن قط” (34).
ثم ينسحب إيفان داعيا إلى الوحدة مع سبق الإصرار.
”سوف يكون وحيدا من جديد” (35)
وحين يرى إيفان نفسه جسما غريبا أملسا قبيحا، فإنه يرى سمردياكوف، فهو يرى نفسه فيه: قبيحا متحديا، فينزعج.
”كيف يمكن أن يقلقنى هذا الجرو؟” (36).
فيكره نفسه، إذ يكره سمردياكوف.
إن العداوة التى يشعر بها نحو هذا الإنسان تكاد أن تكون بغضا ومقتا.
وبعد ذلك فإن حوارات إيفان مع سمردياكوف حول كيفية إيحائه له بالقتل كانت من المباشرة بحيث سرقت منها هذه اللمسة الإبداعية التى تصـور الداخل فى شكل خارج ماثل (قارن نقد الكاتب لفيلم إبنة ريان) (37)
لعل التعاسة والفهم اللذان ظهرا فى وعى إيفان وصفه علاقته بسمردياكوف هما تماما ضد الحزن الذى كان يعانية أليوشا كلما اقترب من صدق (داخل) الآخر، حزن الأول (إيفان) هو عدم الشيزيدى ووحدته، وحزن الثانى (أليوشا) هو آلام تفعيل الداخل الحى فى حضن الواقع.
يأتى إعلان إيفان بأنه لا يطيق الأنبياء ولا الصرعيين، ثم كراهيته الخاصة للذين يرسلهم الرب، بمثابة رؤية تؤكد درجة العقلنة بالذات فى مواجهة الأعماق المتفجرة صْرعا أو أنبياء أو رسلا.
وإذا كان سمردياكوف هو صورة دوريان جراى الإيفانية إذ ينظر فى مرآة مقعرة، فإن الشيطان الذى زاره فى كابوس مرضه كان انشقاقا على مرآة مسطحة بنص الحوار، فكان هو هو المرة تلو المرة، والفرق بين التفعيل العشوائى، وبين الانشقاق الدفاعى هو أنه فى التفعيل يتجسد الداخل (سمردياكوف) بكل حاجته وعنفه كما هو، أما الانشاق فهو حضور طولى يمثل أحد جوانب أو أحد وجوه العقل الممنطق عادة وهو ما يمثله زائر إيفان الشيطان الذى هو هو.
“أنا.. أنا وحدى الذى أنطق بهذه الأقوال لا أنت” (38).
لكن إسقاطا آخر يـظهر هذا المسخ الداخلى مُـسْقطا على ديمترى هذه المرة فى سجنه، مسقطا تارة باتهامة (أو تصديق اتهامه بالقتل)، وتارة بوصفه بالمسخ مباشرة، فحين تثور الكراهية على الكل، يعلن إيفان لأليوشا أنه “سوف أكرهك الآن من جديد، إننى أكره المسخ كذلك، لا أريد أن أنقذ المسخ، ألا فليعفن فى السجن” (39) (يعنى أخاه ميتيا).
لا أعرف أين أضع آمال أو رؤية أليوشا فى نهاية إيفان، فهل صدق حين قال:
”إن الله الذى كان إيفان يرفض أن يؤمن به يفرض نفسه الآن على وجدان إيفان؟” (40)
لمجرد احتمال أنه سيذهب لمحاولة انقاذ أخيه ديمتري؟
أم أنها كانت مجرد. دعوة هداية من أليوشا كالمعتاد؟.
خلاصة القول:
إن إيفان لا يمثل الإلحاد، لسبب بسيط هو أنه عجز عن أن يلحد حقيقة وفعلا حتى النخاع، مع أن فكره كان يمثل قـلق الالحاد طول الوقت.
وبعد (مرة أخرى)
أرجو أن تسمحوا لى بالتوقف عند هذه النقطة ونكمل غدًا بدءًا بالتركيز على الكاتب وهو يشرح لنا النفس الإنسانية من خلال إبداعه الفائق.
وأنا أستمحكم أن تقرأوا الرواية قبل المضي فى قراءة النقد والرواية موجود تحت أمركم في الموقع بهذا الرابط Link
الاخوة كارامازوف1 .. دوستويفسكى
الاخوة كارامازوف2 .. دوستويفسكى
الاخوة كارامازوف3 .. دوستويفسكى
[1] – يحيى الرخاوى “تبادل الأقنعة” (دراسة في سيكولوجية النقد) الهيئة العامة لقصور الثقافة (2006)
[2] – الحق الحق أقول لكم: إن لم تقع حبة الحنطة فى الأرض وتمت، فهى تبقى وحدها، ولكن إن ماتت، تأتى بثمر كثيرا (إنجيل يوحنا، الاصحاح الثانى عشر، 24).
[3]- ص 139 جـ2
[4] – ص235 -236 جـ1
[5] – ص236 جـ1
[6]- ص 182 جـ1
[7] – ص 314 – 315 جـ1
[8] – ص 63 جـ2
[9] – ص 296 – 297جـ1
[10] – ص277 جـ1
[11] – ص 71 جـ1
[12] – 238 جـ1
[13] – ص 234 جـ1
[14] – ص 255 جـ1
[15] – ص 261 جـ1
[16] – ص 262 جـ1
[17] – ص345 جـ1
[18] – ص 184 جـ3
[19] – ص 185 – 186 جـ3
[20] – ص186 جـ3
[21] – ص 256 جـ1
[22] – ص 187 جـ3
[23] – ص38 جـ1
[24] – ص 7. جـ1
[25] – ص 383 جـ1
[26] – ص 412 – 413 جـ3
[27] – (مثلا من ص 63 – 66جـ1)
[28] – ص 80 جـ2
[29] – ص 87 جـ2
[30] – ص 107 جـ2
[31] – ص 112 جـ2
[32] – ص 114 جـ2
[33] – ص 116 جـ2
[34] – ص 117 جـ2
[35] – ص 119 جـ2
[36] – ص 121 جـ2
[37] – نشر النقد فى الأهرام سنة 1972.
[38] – ص 284 جـ3
[39] – ص 323 جـ3
[40]- ص 324 جـ3
المقتطف:
الجمال شئ رهيب مخيف، هو رهيب لأنه لا يـُـدرك ولا يُفهم، لقد ملأ الله الأرض ألغازا وأسرارا. الجمال هو شطآن اللانهاية تتقارب وتختلط، هو الأضداد تتحدد ليحل بينها الوئام والسلام
التعليق:. اظن ليس هناك وصف اجمل من هذا للجمال .. ولا ادري ما سر الرهبه هل فقط لانه لا يدرك ولا يفهم ام انه هو كذلك دون اسباب
المقتطف : فيدور: داخله متواضع لا يملأ كل وجوده، قريب، متحرك، ليس متماسكا لأنه متفجر، يملأ وعيه الظاهر بسهولة وينحسر عنه بنفس السهولة، وفيدور يستسلم له: لا هو وصى عليه، ولا هو يريد أن يوجهه أو يحوره، ولا هو ينكره أو يخجل منه
التعليق :
توقفت كثيرا عند داخل كل منهم ووروعة التقاطه بهذه الدقه والوصف .. وانشغلت بداخلي ماذا عنه .