نشرة “الإنسان والتطور”
السبت: 28-8-2021
السنة الرابعة عشر
العدد: 5110
من كتاب “تبادل الأقنعة” (1)
(دراسة فى سيكولوجية النقد)
التفسير الأدبى للنفس
قراءات فى ديستويفسكى (2)
الفصل لثالث
ديستويفسكى يعلمنا:
حركية العلاقات البشرية جدلا وامتدادا
فى الإخوة كارامازوف (3 من ؟)
مقدمة:
نواصل اليوم عرض نقد الأخوة كارامازوف
وأعتذر مكرراً لصدور هذا النقد مجزّأ هكذا، لكننى اقتنعت أثناء مراجعتى أنه يستحق أن يقرأ ببطء، بل إنى أوصى أن نقرأ ما ينشر لاحقا مع ما ينشر تباعاً، فأنصح بالبدء بما سبق نشره الأسبوع الماضى (نشرة السبت والأحد)
أنا أسف
……….
ثانيا: قضايا
(1) الأبوة، وقتل الأب:
لا تُـذكر رواية كارامازوف إلا وتقفز مسألة قتل الأب على السطح، لكننى لم أر أولوية لهذه المسألة هكذا، لما يلى:
أولا: لا يوجد فى الرواية أب بالمعنى الوظيفى والنفسى أصلا، ففيدور كارامازوف (الأب البيولوجى) كان: إما فردا متفردا مستقلا تماما، لذّيا متمركزا حول ذاته، وإما إبنا ضعيفا محتميا، بأى أب ممكن ، آباؤه كان أغلبهم من أولاده: : فهو إبن أليوشا أصغر أبنائه، وإبن جريجورى الخادم، وأحيانا إبن ديمترى ونادرا إبن إيفان.
ثانيا: إن ما أثير طول الرواية هو ظهور الرغبة فى التخلص من الأب- كفضلة نافرة نتيجة ذاتويته وانفصاله، من هنا نفهم رغبة القتل من خلال “تفعيل” الواقع، وكأنها تحصيل الحاصل، أو الإزاحة المنطقية، اللهم إلا فيما يتعلق بمعركته التنافسية مع ديمترى، أما قتل الأب بالمعنى الأوديبى أو بمعنى صراع الأجيال فهو أمر آخر يتطلب حضور أب قوى جاثم ممثلا للسلطة معيقا للنمو، وبالتالى حافزا على اختراقه، مثيرا لرغبة المحيطين المبهورين للتخلص منه، ولو بالقتل، أما هذا الأب المتنحى أصلا، الإبن دائما، الطفل لاهيا، فهو أبعد من أن يبرر قضية قتل الأب بالمعنى الأوديبي
ثالثا: حتى وإذا دخلنا من مدخل التنافس على الأنثى الأم، نجد أن جروشنكا لم تمثل أمـا أبدا، فلم يكن التنافس عليها هو تنافس أوديبى بمعنى أن ثمة أما حاوية وأبا قادرا مخيفا.، وإنما كان تنافسا غريميا متكافئا غالبا.
رابعا: إن الذى قتل الأب فعلا هو إبن مشكوك فى بنوته، وكان السبب المعلن للقتل أبعد ما يكون عن عقدة قتل الأب، وهو السرقة، مع احتمال استجابة لرسالة غامضة مقتِحَمة من إيفان.
من أضعف مواقف الرواية أن كشف ديستويفسكى عن هذه العلاقة الإيحائية قبيل انتحار سمردياكوف كشفا مباشرا ومكررا، وكان الأفضل أن تكون المسألة- إذا توافرت مقوماتها- بمثابة الجنون المُـقْحـم Folie impose (مِنْ إيفان فى سمردياكوف) وهو ما يمكن تناوله بطريقة أدق تشكيلا وأعمق إبداعا.
أخيرا: الأب هنا ليس له أية علاقة بالمقولة الفرويدية من أن الأب هو الله بشكل أو بآخر، وبالتالى فلم يمثل إلحاد إيفان، أو حتى سمردياكوف قتل الأب الإله – مع أن المشلكة الدينية والإيمانية كانت ماثلة، بل ملحة، طول الوقت، حيث كان الله – طوال الرواية – إما حاضرا، وإما مستغاثا به، وإما مخَتَرعا أو متهما أو ملاما بالإضافة إلى الشكّ والنفىْ.
إذن لم تكن عقدة الرواية برمتها هى قتل الأب، وإنما كان أصل الإشكالية هو انعدام حضور الأب أصلا، بالإضافة إلى قلب الأدوار ليصبح الأب إبنا.
للأمر بعد آخر وهو جماعية وعى الناس بالرغبة فى، والموافقة على، ”قتل الأب”، كجزء لا يتجزأ من مسيرة التطور، يظهر هذا بالألفاظ فى حوار ليزا مع أليوشا.
- “الناس جميعا يستحسنون أنه قتله”.
- ”هم مفتونون بذلك مفتونون، صحيح أنهم يصيحون قائلين أن ذلك فظيع، ولكنهم فى قرارة أنفسهم مفتونون، وأنا نفسى مفتونة أنا أول المفتونين”
جاء هذا عقب حوار فى الصفحة السابقة (يقول):
أليوٍشا:
- ثمة ساعات يحب فيها البشر الجريمة.
ليزا – جميع البشر يحبون الجريمة”.
لعل هذا الحوار يوحى أن استقبال النقاد لقتل الأب فى كارامازوف وتركيزهم عليه كان إستجابة لما فى أنفسهم أكثر مما كان حادثا فى الرواية.
(2)- آباء.. وآباء:
تعددت صور الآباء فى الرواية تعددا مزعجا:
-
بدءا بالأب زوسيما.
-
ثم الأب أليوشا
-
ثم الأب جريجورى (أب للجميع: ديمترى، فسمردياكوف، وأب فيدور بالذات، وللأخوين الباقيين حسب الحاجة).
-
ثم الأب الطفل إيليوشا (فهو أب أبيه الكابتن سينجريف)
-
ثم الأب كوليا. وهو أيضا والد أمه.
كما نلاحظ – مارين عبورا – تبادل أدوار الأب بين الأخوين إيفان وأليوشا.
أتقن ديستويفسكى رسم ”هذه الزحمة الأبوية” وهو يتجاوز السن والميلاد، وهو يحسن رسم التفاصيل بما لا يدع مجالا للشك فى طبيعة الجانب الإيجابى من الأبوة، وهو العلاقة الراعية الحانية المسئولة (الأبوية) بغض النظر عن مَـنْ أكبر مِـنْ مَـنْ سنا، وقد طغا هذا الجانب غالبا على ما يرصد باعتباره السمات الأساسية للأبوة بما يصاحبها من إثارة التحدى وجدل الإنفصال وصعوباته، فلم نر أبا من هؤلاء الآباء وهو “يمتلك” أو “يسيطر” أو ”يمنع الاستقلال” بالشكل المألوف، اللهم إلا فى بعض التنافس العادى مثل تنافس إيليوشا مع أليوشا، أو كوليا مع أليوشا وهو تنافس الإخوة أكثر منه تنافس الأب مع الإبن.
الإثنان اللذان لم يقوما أصلا بدور الأب إلا فى أقل القليل هما فيدور الأب الحقيقى ، وديمترى الطفل الجامح.
(3) الأم (الأمومة)
إذا كانت هذه هى كيفية ظهور دور الأب، فإن الأم لم تظهرظهورا جليًّا صحيحا أبدا، فهى إما غائبة، وإما متوارية فى ظلمة علاقة خافتة، وإما مشوهة عاجزة، وإما ملتِهمه مدّعية.
فلنعدد الأمهات بشكل متعجل أيضا:
1- أم الإخوة الكارامازوفيين التى لم تظهر بجلاء إلا استنتاجا
أ- الأم أديلائيد: هاربة إلى زوج طفيلى، ثم هاربة منه بالموت.
ب- الأم صوفيا: دمية، هشة بكل معنى الكلمة – يخطفها المرض مبكرا.
2- أم ليزا، السيدة هوخلاكوفا، حيزبون سطحية، لم نر من أمومتها إلا عاطفة مهترئة، وشفقة قاسية.
3- ثم أم كوليا، وهى أم مضحية فى ظاهر الأمر (لم تتزوج من أجل كوليا)، لكن عواطفها كما ينعتها إبنها هى من “عواطف العجول” (فى الأغلب).
4- لم يتبق إلا أم إيليوشا وهى أم معتوهة تماما، ليس نتيجة لتخلف ذهنى بقدر ماهو نتيجة لتدهور عقلى ظاهر، وإن كان ديستويفسكى قد لعب بعتهها بقدرة العارف أين وكيف يمكن أن يعثر على بؤر الحكمة ودلالات الفطرة فى وسط زحمة وتشوش العته.
على أنى لم أجد لتهميش دور الأم فى هذه الرواية دلالة خاصة، لا فى قضية الكارامازوفية، ولا فى قضية الدين والإيمان، ولا فى أية قضية محورية أخرى، وإن كان ثمة دور لصورة الأم كما وردت فى كارامازوف فهو دور يعلن الأهمية التى نستنتجها من أثر الاختفاء أو الإنكار لما لا ينبغى أن يختفى أو يُنكر، فربما تعمد ديستويفسكى أن يظهر الإيجاب من واقع تجسيد آثار السلب، تجسيدا بما هو… وليس بمعادلة مسطحة، بمعنى أن اختفاء الأم، أو انتحارها، أو سطحيتها، أو بلهها كل ذلك كان وراء الدوافع التى شكلت نوع العلاقات الأسرية التى ظهرت فى الرواية، سواء كانت علاقات حب أَخَوى يعوض فقدان الأم وطفولة الأب، أو كانت تماسك القهر والذل فى عائلة إيليوشا، أو كانت الوحدة والتعويض فى حالة كوليا.
أقوى موقف أموى وصلنى، كان نهاية أديلائيد أم ميتيا، فقد وصلنى فيه احتجاج قوى، وانسحاب موقوت مدروس وكأنه هو هو انتحار الفتاة الرومانسية ، فى الخلفية: حين ناداها الجرف الجميل للعودة إلى الرِحم الأرض (ما دامت الحياة هكذا!!) فاستجابت بانتحار متناغم- هكذا استقبلتُ موت أديلائيد بعد هربها.
(4) الأخّوة:
ثمَّ نوعان من التآخى ظهرا طوال الرواية:
1- أخوة الدم، وهى الأخوة الحارة جدا بين الاخوة الثلاثة (2).
2- أخوة الرأى أو العقيدة أو الهدف أو أخوة ألفة الائتناس بالحوار.
أما عن أخوة الدم فقد كانت شديدة الحرارة والترابط، والتقارب، والحركية برغم الاختلاف الجوهرى فى ظاهر الطباع، وفى عمق المعتقد وطبيعة التدين والموقف من الله، وفى طبيعة العلاقة بالحسيات والحياة، وفى توجه الغايات، وفى منبع ومسار النشأة. كانت دوائر التماثل تعلن تارة، وتمارس دون إعلان تارة أخرى، كما كان تبادل الأدوار واضحا، والتصارع جاهزا وقريبا من أول اعترافات إيفان لأليوشا شعرا فنثرا، حتى نهاية الرواية وترتيب هرب ديمترى بواسطة أليوشا وإيفان.
الأمر الجيد الآخر الذى يؤكد هذا الحب الأخوى، بل ويعطيه نكهة متعالية، هو أننا لم نلاحظ أى تقارب بين الشقيقين أليوشا وإيفان أكثر من التقارب بين كل منهما (وخاصة) أليوشا مع الأخ غير الشقيق ديمترى، وحتى شبه الجفوة بين ديمترى وإيفان كانت بسبب تنافسهما على حب كاتيا، أو بمعنى أدق بسبب ألعاب كاتيا التحتية، وليس بسبب ضعف الأخوة.
تفسير العلاقة الأخوية الحارة
ثمة أبعاد محتملة تفسر تلك العلاقة الحميمة والحارة بين الكارامازوفيين، ومن ذلك:
1- إن الوالد الطفل جمعهم حوله بتنازله عن أبوته لهم، فأصبح كل منهم مسئولا مستقلا بشكل أو بآخر، وبالتالى تبنى كل أخ أخويه (مع اعتبار أن ديمترى كان أقل ظهورا فى هذا الدور)
2- إن حركية وعيهم، خاصة وهى تدور حول الدين والإيمان وجذب حركة الأرض إلى السماء وبالعكس، كانت حركية نشطة لدرجة أدت إلى هذا التقارب الأخوى الحار .
3- إن وجود أليوشا (بدفع مبدئى من الأب زوسيما ثم بتلقائية إنسانية ذاتية وليست دينية فحسب) وجود أليوشا المحورى الجاذب هذا إلى وسط الحركة الودية الأخوية هذه – كان له دلالة خاصة فى جمع الشمل فى حوار حى طول الوقت.
4- إن التشابه فى الإيقاع والإندفاع (الكارامازوفية عامة) مع الاختلاف فى المواقف الفكرية مثلا حول الدين وقضايا الوجود والناس، كان أبعث على الحفاظ على حيوية العلاقة تجاذبا وتنافرا معا…
5- وبالتالى فإنه بعكس المألوف فى الأسر العادية المدعية الحب الأخوى – كان ثمة حوارا معلنا وخفيا يجرى طول الوقت، بغض النظر عن محتوى الحوار: اتفاقا أو اختلافا.
العلاقة الأخوية الحارة هذه لم تظهر مسطحة مثلا فى إعلان “أنا أحبك، أنت تحبنى..فقط” ولكن فى الرؤية والفعل طول الوقت.
أما الرؤية فمثالها:
أليوشا: “أحبك يا إيفان. ديمترى يصفك بأنك قبر أما أنا فأقول إنك لغز، ولم أستطع أن أحل هذا اللغز حتى الآن” (3).
وأما الفعل فقد وصل إلى أن مجرد وصول الأخ أليوشا قد حال دون إنتحار أخيه ديمترى.
”… إلهاما مباغتا، قلت لنفسي” هناك إذن إنسان أحبه أنا أيضا”
” وهذا هو ذلك الإنسان، هذا هو الإنسان الذى أحبه هذا هو ، إنه أخى الأصغر” (4).
وعَدَلَ عن الانتحار.
أما أخوة الرأى أو العقيدة أو الدين – فلم تظهر نتيجة اتفاق فى كل ذلك، أو أى من ذلك، وإنما كانت دائما نتيجة لصدق الحوار وعمقه واستدامته، فقد ظهرت فى أرضية موقف أليوشا عامة، ونصائح زوسيما، ثم فى أغلب العلاقات الحوارية بغض النظر عن السن أو الموقف الاتفاقى أو الاختلافى مثل: علاقة أليوشا وكوليا وعلاقة أليوشا وإيليوشا، وقد أسميتها أخوة – وليست صداقة – قصدا، باعتبار أنى أرجع بها إلى جذور طبيعتها حيث الندية والحوار وتبادل الرعاية هم الصفات التى تجعل من الانسان أخا.
5- أشكال ودلالات الإنتحار:
لم يكن الانتحار قضية جوهرية، طوال الرواية، بقدر مالم يكن القتل كذلك، رغم كثرة ذكرالقتل والتلويح به حتى لكأنه وشيك، ولكن ظهور الانتحار-كلما ظهر- كان له دلالاته الخاصة والدقيقة، وأشير إلى بعض ذلك فيما يلى:
أ- يلاحظ فى موت الفتاة الرومانسية، التى جاءت على ذكر زواج أديلائيد من فيدور، يلاحظ سهولة القرار وشاعرية الموقف، فالانتحار هنا ليس رفضا للحياة، ولا هو مجرد “منظرة” رومانسية، وقد زاوج ديستويفسكى هنا بين الدرامية (التشبه بأوفيليا) والجـديه حتى النهاية (ماتت فعلا).
قرأت أيضا فى هذا الانتحار لمحة أخرى شديدة الدلالة على طبيعة الانتحار، وهى ارتباط الإنتحار بالجمال، وبالعودة إلى حضن الطبيعة ، وقد اتضح صدق ودقة هذا الربط بما أعطاه ديستويفسكى للجرف من قوة النداء الملزم:
”حتى أنه فى وسع المرء أن يتصور أنه لو كان هذا الجرف الذى اختارته منذ زمن طويل متحمسة له أشد التحمس، لو كان أقل جمالا وروعة، ولو كان فى مكانه شاطئ منبسط عادى مبتذل، إذن… لأمكن ألا يقع حادث الإنتحار” (5).
ب- علاقة الفتاة الرومانسية بهذا الجرف الجميل الداعى إلى حضنه، هى تقريبا عكس علاقة إيفان بأخيه أليكسى، تلك العلاقة التى منعته من الانتحار. هذا ما يشير إلى دقة ديستويفسكى فى إلمامه بماهية العلاقة بالموضوع. وعلاقة ذلك بالانتحار، بمعنى أنه يستحيل الانتحار إلا إذا أُعْـِدَم “الموضوع” (الآخر) تماما قبل الاقدام على فعل الانتحار ولو بجزء من الثانية، فبعد أن نادت الشجرة إيفان (ربما فى مقابل نداء الجرف للفتاة الرومانسية)، وتجهز الحبل الصناعى(المنديل والقميص).. “نعم قررت أن أنتحر” إذا به يلقى أخاه فيتغير كل شئ، (أكرر: “قلت لنفسي” – هكذا أكمل إيفان – هناك إذن إنسان أحبه أنا أيضا. وهذا هو ذلك الإنسان هذا هو الإنسان الذى أحبه. هذا هو. إنه أخى الأصغر” (6) وعاد إلى الحياة.
الجرف فى حالة الفتاة الرومانسية ليس موضوعا وإنما هو رحم جاهز للإمتصاص فالتلاشى. ولكن أليوشا فى حالة إيفان هو موضوع وأى موضوع.
جـ- انتحارات ديمترى (الأفكار والدفعات) عامة كانت دفعات نزوية إنفعالية غير محسوبة، وقابلة للمراجعة بسبب أو بدون سبب.
”وكنت حاملا سيفى فى تلك اللحظة فسللته وودت لو أغمده فى صدرى” (7)
“أتراك تظن أنى سأنتحر لأننى لن أستطيع أن أجد ثلاثة آلاف روبل أردها إلى كاترين؟… الخ” (8).
د- فكرة الانتحار عند جروشنكا كانت عابرة وعادية.
“قد هجرها الرجل الآخر، الرجل الذى محضته ذلك الحب كله… وقد فكرت أن ترمى بنفسها إلى الماء… فأنقذها ذلك العجوز، أنقذها” (9).
ليس هذا انتحارا.
هـ – ثم يأتى انتحار سمردياكوف ليحتاج وقفة خاصة، فهو يعلن إعدام الموضوع الذاتى والخارجى فى آن – فهو عدم يذهب إلى عدم، بل ربما من بعد آخر هو عدم يكاد يتخلق من جديد بتحقيق عدميته (أنظر بعد – سمردياكوف)
6- العلاقة بالموضوع (جدل “الآخر”):
من هذا المدخل (الانتحار – العدم – الآخر) نتبين دقة إلمام ديستوفسكى بمعنى العلاقة بالموضوع، الأمر الذى يكاد يغمُض على كثيرين من المشتعلين بالطب النفسى، بل وبالتحليل النفسى أحيانا، حين يتصورون أن الموضوع هو شخص “حقيقي” فى الخارج، فى حين أن ديستويفسكى يلتقط بمنتهى المهارة” ما أستطيع صياغته فى ألفاظ تقول:
إن الموضوع هو شكل ومحتوى (معا) لحركة مرنة بين الداخل والخارج، ولابد من وجود علاقة موضوعية حتى يمكن تحريك وجود “داخل حى”. حدْس ديستويفسكى يلتقط ذلك، وهو يصفه مرة باعتبار أنه ذكرى صورة أم، ومرة على أنه لحظة حضور فى وصف أليوشا أيضا
“تلك الدقيقة الغريبة المبهمة من الحياة الداخلية التى عاشها بطلى الذى أحبه” (10)
ومرة على أنه حضور واعد، لكن بداياته تملأ الداخل الآن”
“ولتصبح إنسانا آخر، يكفيك أن تظل طول حياتك تفكر فى هذا الإنسان الآخر” (11).
إذن فالعلاقة بالموضوع تتمثل فى وعى ديستويفسكى بشكل فاعل موظف (قبل ميلانى كلاين وجانترب (12).. الخ) وهو يستطيع أن يميز بين الموضوع الحقيقى والموضوع الذاتى بشكل محدد. كما أنه أحاط بأبعاد الموضوع فى الداخل والخارج بشكل قوى متميز، وفى الفقرات التالية نركز على الموضوع البشرى أساسا:
أول حضول صريح للموضوع بالداخل كان له وظيفة وقائية، هى الوظيفة المانعة للانتحار وقد تجسد ذلك واضحا فى لحظة لقاء أليوشا بإيفان التى أشرنا إليها حالا.
مثال آخر: نجده فى صورة أم أليوشا داخل أليوشا، تلك الصورة التى أشرنا إليها أيضا والتى تكرر استدعاؤها، وهى التى ظلت ماثلة له، وهو يؤكد حضورها المالئ لوجوده، بما لا يمكن معه أن تعتبر مجرد صورة، أو ذكرى داخلية بالمعنى البديل.
الاتجاه الإيجابى، وهذا هو الأرجح، لأنه تمادى فى وصف البراءة حتى وصف بطله بالعجز الكلى عن المكر وهو يبتعد عن “الكلام قلة الأدب” (13)
لكن ديستويفسكى عاد يؤكد إيجابية هذا الموقف وأنه ليس أبدا عدم مبالاة، فقد سمح هذا الموقف “الموضوعى” – من أليوشا لوالده – أن يطمئن إليه بالتالى يقول الوالد فيدور لابنه أليوشا: “أنت الإنسان الوحيد فى هذا العالم الذى لم يتهمنى ولم يُدِنّى…” (14).
يذكرنا هذا الحديث عن عالـَـم شخوص الداخل بالتأكيد على رفض مقولة أن الشخوص عند ديستويفسكى هم أفكار تتجسد، لأننا من هذا الضوء على الموضوع الداخلى يمكن أن يتضح لنا كيف أن الذوات هى التى تحضر فى أفكار (15). الحد الفاصل بين الفكرة والشخص والصفة، يخفت أو حتى يمحى حين نقترب من الموضوع الداخلى / الخارجى معا.
ديستويفسكى يتقن وصف الموقف الشيزيدى (حيث “لا موضوع”-بمعنى الهرب من الموضوع كلما لاح.. أو إنكاره أو ابتلاعه.. ألخ) يتقن وصفه إتقانا هائلا كلما اقترب من وصف إيفان عامة، بل إنه بلغ من حذقه فى هذا الصدد أن جسـد هذا الموقف فى أقوال شخص ثانوى لم يظهر فى الرواية أصلا وهو الطبيب الذى جاء ذكره على لسان الأب زوسيما “يقول الطبيب الشاكى للأب زوسيما.
“ولكننى لاحظت فى كل مـرة أننى كلما ازددت كرها للبشر أفرادا، ازدادت حرارة حبى للإنسانية جملة” (16).
ثم يستطرد:
”… لقد أرتضى أن أصلب فى سبيلها (الإنسانية) إذا بدا ذلك ضروريا فى لحظة من اللحظات، ومع ذلك لو أريد لى أن أعيش يومين متتاليين فى غرفة واحدة مع أى إنسان لما استطعت أن أحتمل ذلك، .. فمتى وجدت نفسى على صلة وثيقة بإنسان آخر أحسست بأن شخصيته تصدم ذاتى وتجور على حريتي” (17).
أليس فى هذا معنى سارترى أن الآخرين هم الجحيم؟ وأيضا أليس هذا المعنى هو قريب لمعنى المثل المصرى الشائع “أحب الناس واكره طبعهم”؟
الفقرة التالية أوضحت علاقة أخرى بالموضوع، نهملها أو ننكرها علاقة نتجنبها فى الأغلب، مع أنها جزء لا يتجزأ من حركية العلاقة بالموضوع. الكره يمثل هذا الجانب الآخر للقضية: الكره علاقة قوية عكس الشائع من أنها علاقة سلبية، لكن يبدو أن هذا ليس واضحا تماما لديسيتويفسكى، حيث لاحظت أنه يعتبر الكره سلبيا معظم الوقت، وهذا من مآخذ الإستقطاب الذى يقع فيه ديستويفسكى كثيرا وليس دائما، قد رجحت أن ذلك ربما يرجع إلى نوع مسيحيته غالبا (18).
وقد أعطى ديستويفسكى وهو يتجول فى الرواية هذه العلاقة الشيزيدية حقها فى الوصف التفصيلى، وهو بقدر ما وصف أشكالها تطرق إلى بدائلها ونقائصها.
أ- فهو يعلن الحاجة الصريحة للاعتمادية على الآخر لحما ودما، وخاصة إذ تتعرى هذه الحاجة صراحة بتأثير الخمر، ولكن بانتقائية دقيقة
“ففى تلك اللحظات إنما كان يجب أن يوجد على مقربة منه فى المبنى الملحق على الأقل…. رجل يمكن أن يحميه عند الحاجة”…
“مـمن يحميه؟ من إنسان مجهول..، ولكنه رهيب خطر.. كان لابد له حتما فى مثل تلك الساعات من أن يوجد على مقربة من كائن آخر” (19). وكان فيدوركارامازوف يعنى بذلك الخادم العجوز جريجورى.
ب- بقدر ما يدرك ديستويفسكى أهمية وصدق هذه الاعتمادية -يستطيع أن يرصد نوعا آخر من العلاقة وهى “العلاقة الالتهامية” وهى علاقة شيزيدية أيضا:
”إن تلك الوغدة جروشنكا.. فى وسعها أن تزدردك لقمة واحدة”.
جـ- وإذا كانت “الثقة الأولى” (20) التى ظهرت فى أليوشا كانت ذات علاقة بأمه وصورتها التى ظلت تحل فى وعيه فتملؤه، فإن اللا-ثقة (21) التى ظهرت من البداية فى سمردياكوف امتدت لتعلن أنه:
“وهو لا يحب أحدا على كل حال”. وهذه اللا-ثقة تؤدى إلى القسوة مع انتفاء الموضوع.
“وكان – سمردياكوف – أثناء طفولته يجد لذة كبيرة فى أن يشنق قططا ثم يدفنها بعد ذلك محتفلا بدفنها احتفالا طقوسيا كبيرا “ (22).
من هنا جاء تحفظى على اعتابر سمردياكوف مجرد أداة لوعى إيفان البغيض، بل لعله قد قتل فيدور كارامازوف الأب كما كان يقتل القطط ثم الكلاب لا أكثر (ولا حتى بسبب السرقة)- ثم هو راح يقتل إيفان باتهامه أنه القاتل الحقيقى، – ثم هو يتخلص من النقود، تخلصا مكافئا للانتحار، ثم هو يقتل نفسه بنفس السلاسة، ولكن مع ظهور احتمال خلاص وتطهـر فى آن. (أنظر بعد)
إنتحار سمردياكوف له وضع خاص. فهو ليس يأسا، ولا جذبا، ولا رومانسية درامية، ولكنه أقرب ما يكون إلى التخلص من الموضوع كما ألمحنا سابقا. وإذا كان أليوشا، رغم انطوائيته قد نفى عنه ديستويفسكى أنه حالم منطوٍ، أى نفى عنه شيزيديته بشكل ما، فإن كلا من إيفان وسمردياكوف كانا يمثلان التراوح بين اللاعلاقة والعلاقة التوجيسية الشديدة، وهو الموقف “الشيزيدى / البارنوي” معا (23).
د- كأن ديستويفسكى هكذا يعرض لنا بصراحة شبه مباشرة مشكلة الثقة الأساسية، فى مقابل التوجس الأساسى.، Basic trust versus Mistrust (24) إذ يعرض أليوشا فى مقابل سمردياكوف.
أما موقع ديمترى وإيفان على متدرج الثقة: اللا-ثقة فهو أقل وضوحا، وإن كان يمكن أن نضع ديمترى فى موقف أقرب إلى الثقة من إيفان، دون إبداء أسباب
كذلك غير واضح لماذا التقط أليوشا الثقة الأساسية من أمه، وهو الأصغر دون إيفان. هل يا ترى يرجع ذلك إلى أن الطفل الأكبر، ناتج علاقة زوجية من هذا النوع، (هرب اختطافى، فتسليم ذليل، فكراهية رافضة)، هو الذى يكون الَمسقط الأهم لمشاعر الإحباط والإهمال والإنكار؟ وبالتالى ينمو جافا فارغا؟ ثم يأتى الطفل الثانى الأصغر بعد أن يكون الأكبر قد امتص كل مصائب الإسقاط والاستعمال، يأتى الأصغر فيقوم بدور الطفل الحقيقى، فيحظى بقدر كاف من “الشوفان” “والدفء” ومن ثَمَّ بالقدر المناسب من الثقة الأساسية.
هـ - ثم لا أعرج كثيرا إلى سائر العلاقات فى الأبعاد المختلفة والمحتملة، لأن ديستويفسكى قد عرض بانوراما من العلاقات لم ينس منها حلقة واحدة ناقصة، لكننى أشير بوجه خاص إلى علاقة كوليا بأمه، حيث أصبح كوليا مستهدَفا لعواطفها الفجة السطحية التى أسماها “عواطف العجول” وليس حب الأم، فكان ما كان. لم يكن كوليا موضوعا لحب أمه فى ذاته، بل أصبح بديلا وملجأ واعتذارا ضد أية علاقة جديدة ناضجة محتملة يمكن أن تنشئها الأم مع مدرس كوليا مثلا.
وبعد (مرة أخرى)
أرجو أن تسمحوا لى بالتوقف عند هذه النقطة ونكمل غدًا بدءًا بالتركيز على الكاتب وهو يشرح لنا النفس الإنسانية من خلال إبداعه الفائق.
وأنا أستمحكم أن تقرأوا الرواية قبل المضي فى قراءة النقد والرواية موجود تحت أمركم في الموقع بهذا الرابط Link
أو على الأقل أن تتابعوا الأجزاء من النقد التي سبق نشرها هنا
الاخوة كارامازوف1 .. دوستويفسكى
الاخوة كارامازوف2 .. دوستويفسكى
الاخوة كارامازوف3 .. دوستويفسكى
[1] – يحيى الرخاوى “تبادل الأقنعة” (دراسة في سيكولوجية النقد) الهيئة العامة لقصور الثقافة (2006)
[2] – لا أخفى أنى افتقدت الأخت البنت اللهم إلا فى عائلة إيليوشا، ومع ذلك لم يكن ظهورها كاف- فى حين أن كاتيا وأختها لم يكن لهما أخ- وبالتالى لم أستطع أن أتقدم خطوة نحو سبر غور دور الأخت بالذات عند ديستويفسكى فى كارامازوف، وإن كان أكثر وضوحا فى روايات أخرى، لكنه يظل باهتا أيضا.
[3] – ص 49 جـ2
[4] – ص 339، 34. جـ1
[5]- وقد ظهرت صورة مشابه فى حادث مشهور فى مصر فى الثمانينات فى حالة م. ع (قاتل والده أستاذ الجامعة ووالدته المذيعة) حين قطع هذا الشاب حوالى ثلاثمائة كيلوا متر بعد قتل والديه، لينفذ الإنتحار فى حضن صخره يحبها، وسبق أن صادقها وحاورها على شاطئ رأس البر.
نظرتْ للأرض الرحم الأم، ناداها الهدهد، فتذكرت العش المجدول، طارت مثل يمامة، تبحث عن صدر وليف لم يولد أبدا، وتهادت فى زفة عرس… الخ (وانتحرت).
[6] – يحيى الرخاوى: (الموسوعة النفسية “انتحار”) مجلة الإنسان والتطور الفصلية – عدد أكتوبر 1987- مارس 1988
[7] – ص 521 جـ1
[8]- ص 261 جـ1
[9] – ص 552 جـ3
[10] – ص 261 جـ2
[11] – ص 552 جـ3
[12] – ص 35 جـ1 ونذكر هنا أمرين: الأول: هو علاقة مدرسة العلاقة بالموضوع بروادها من ميلانى كلاين إلى جانترب، بهذه الرؤية الداخلية، والتى لم تأخذ حقها فى التطبيق الفعلى حيث تركز الأمر على الموضوع الخارجى، والثانى هو رحلة الصوفى حتي”يرى وجه الله” فى الداخل الخارج. لذلك وجب التنويه.
[13] – ص 48 جـ1
[14] – 57جـ1
[15] – حتى أننى ذهبت لاحقا إلى مدى أن أفترض أن الأفكار (الحقيقية) هى ذوات (بيولوجية) وليس العكس، صحيفة روزاليوسف اليومية أعداد(13، 27 يناير 2006) وما بعدها من أعداد.
[16]- ص 127 جـ1 وقد فضلت استعمال لفظ شيزيدى ترجمة للفظ Schizoid وذلك بدلا من اللفظ الشائع وهو شبه الفصامية لأن ما تعنيه كلمة “شبه” ليس صحيحا، فبالرغم من أن ثمة علاقة بين الفصامى، والشيزيدى، فإنها علاقة نقيضية فى معظم الأوقات أى أن الشيزيدى هو عكس الفصامى سلوكيا، رغم أنه الشيزيدى يستهدف أن يكون فصاميا أكثر من غيره.
[17] – 2.6جـ1
[18]- والأب زوسيما يروج لحل هذا الموقف الشيزيدى بما أسماه الحب الفعال (الذى سوف يأتى تعريفه فى مكان آخر).
[19] – 2.6جـ1
[20] – Basic trust
[21] – Mistrust
[22] – ص 271جـ1
[23] – استعمال كلمة شيزيدى schizoid أفضل من استعمال الترجمة “شبه فصامى” لأن، كما أن تلام الموقف الشيزيدى مع الموقف البارنوى.
[24] رغم أن إريك إريكسون لا ينتمى إلى مدرسة العلاقة بالموضوع إلا أن موقفه كرائد لمحاولة التوفيق بين ما هو بيولوجى وما هو إجتماعى، ورسمه الدقيق لعصور الانسان الثمانية وإعادة الولادة، يظل هذا وذاك فى الإطار المرجعى الذى استلهُم منه رؤيتى للعلاقة بالموضوع وخاصة فى المرحلة الأولى للتطور التى أسماها إريكسون الثقةَ الأساسية فى مقابل اللاثقة Basic trust Vs Mistrust وعلى أى حال سوف يأتى ذكر ووصف العلاقة بالموضوع مرة ثانية، وأنا أصف الداخل/الخارج من خلال عرض الشخصيات وخاصة شخصيتى أليوشا وسمردياكوف.
صباح الخير يا مولانا:
المقتطف : أما قتل الأب بالمعنى الأوديبى أو بمعنى صراع الأجيال فهو أمر آخر يتطلب حضور أب قوى جاثم ممثلا للسلطة معيقا للنمو، وبالتالى حافزا على اختراقه، مثيرا لرغبة المحيطين المبهورين للتخلص منه، ولو بالقتل، أما هذا الأب المتنحى أصلا، الإبن دائما، الطفل لاهيا، فهو أبعد من أن يبرر قضية قتل الأب بالمعنى الأوديبي
التعليق : ضربة معلم ،تلك التى التقطت بها الفروق الدقيقة بين الآباء ،وصلتنى كأنك تغزل من إنتاج الأديب معاطف عديدة يرتديها البشر ليلعب كل منهم دوره فى الحياة ،لنرى أنهم ليسوا سواء ،فلا نلبس جميع الآباء ذلك المعطف الوحيد الذى ألبسهم فرويد إياه ليذهب بهم جميعا إلى القتل،أما ،رؤيتك فقد فتحت. أفقا جديدا للنمو دون حاجة للقتل لا فى الداخل ولا فى الخارج ،تماما كما فعلتها مع ميلانى كلاين فى تفسير الارتقاء للمخ الاكتئابى التواصلى المتحمل…كأنك تعلمنا أن قراءة الأدب ونقده آداة رئيسية من أدوات المعالج النفسي،فى مدرسة الرخاوى