نشرة “الإنسان والتطور”
السبت: 7-8-2021
السنة الرابعة عشر
العدد: 5089
من كتاب “تبادل الأقنعة” (1)
دراسة فى سيكولوجية النقد
(التفسير الأدبى للنفس)
قراءات فى ديستويفسكى (1)
الفصل الثانى
عالم الطفولة من ديستويفسكى (1 من 4)
أولا: مقدمات
واقع النفس وسرعة التغير
حول 1845 (أقل قليلا “الحمل والحضانة”، أو أكثر قليلا “الكتابة والنشر”) تم افراز هذين العملين موضوع هذه الدراسة . ديستويفسكى يقول لنا ما رآه فينا/فيه، و”هو” لا يزال شابا آنذاك، لكن مارآه هذا ما زال فينا الآن، عام 1982، (2)، فهل هذا صحيح؟ هل يمكن أن نعتبر ما قاله ديستويفسكى وعاشه ورآه هو هو نحن الآن ؟ الإجابة الأرجح عندى: أن “نعم”، بل هو قد يصح أكثر فى ظروفنا الأحدث. النفس الانسانية لا تتغير بالسرعة الظاهرة لتغيرات السلوك، وما قاله الشاعر الجاهلى ما زال ينبض فى وجداننا إن كان ثمَّ من يشرف بالانتباه الى وجدانه يقظا بنفس الدرجة، والأسطورة ما زالت مرجعا لدارس النفس باعتبارها مصدرا أساسيا لفهم تراكيبها. حين نقرأ ديستويفسكى معا حالا، يمكن ان نعتبر – بدرجة مناسبة - أننا نقرأ أنفسنا الآن دون اعتبار خاص لفارق الزمن، ودون نفى مطلق لبعض التفاصيل السلوكية أكثر من التركيبية، إنْ سلبا وإن ايجابا.
الترجمة: فضلها وحدودها
كل قراءة منشئة هى”إعادة إبداع”، وهى مسئولية متجددة إن صح هذا الافتراض فى القراءة المتذوقة المعيشة، هذا يصح أكثر فى الترجمة التى هى قراءة مبدعة ثم أمانة ملتزمة ثم صياغة جديدة، أعمال ديستويفسكى التى بين أيدى معظمنا هى أعمال مترجمة (ربما للمرة الثانية)، والترجمة بهذا القياس وخاصة تلك التى بين يدىّ هى إبداع أساسا، وفى تصورى، وكما وصلنى من هذه الترجمة المتميزة (د.سامى الدروبى) أنه يرجع إليها كثير من فضل ما بلغنى بلغتى العربية. اللغة- أى لغة – لها شخصيتها ونبضها وحركتها وإيقاعها وطبقاتها وإيحاءتها – وبالتالى فانى شديد التحفظ وأنا أدعى أن ديستويفسكى قال كذا وعنى كيت، لعله د.سامى الدروبى، ولعله كاتب هذه السطور، ولكنى شديد اليقين فى نفس الوقت أنه قاله من حيث مطابقته “الموضوعية ” لحقائق المعرفة المتماسكة فى ذاتها، المثيرة لمثيلها فى ذات المتلقى، المتناغمة مع بقية أعمال المبدع وتراجمه.
مسئولية القارئ (والمترجم أكثر القراء معاناة حالة كونه ناقدا طبيعيا رغم أنفه) هو أن يتخذ لنفسه موقفا جديدا يعيد من خلاله صياغة ما وصله (3).
مادة هذه الدراسة هى من خلال تلك الترجمة المشار إليها لا أكثر ولا أقل، ومع ذلك، سوف أعامل “النص” باعتباره ديستويفسكيا صرفا (حتى يثبت غير ذلك) ولن أعود لإيضاح هذه النقطة أبدا.
أعمال مستقلة:
كنت أود- وما زلت – أن يكون حديثى عن النفس كما رآها ديستويفسكى من خلال دراسة طويلة شاملة تربط بين أعماله وبعضها، وبين مراحل نموه ومراحل رؤيته، إلا أننى لكى أفعل ذلك – وسط مسئولياتى الأخرى- كان لابد أن أنتظر طويلا طويلا، حتى قدرت أن يمتد الانتظار الى ما بعد أجلى، فأقضى حاملا ما ليس لى حق الاحتفاظ به بعذر وهم الاتقان والشمول، فقررت أن أبدأ بعمل مستقل واحد (أو بضعة أعمال متقاربة فى المرحلة أوالدلالة) أولا بأول، فاذا ما انتهيت مما استطعت عدت اليها أنظر فيها مجتمعة لعلها تقول ما تصورته ابتداء.
المنهج الفينومينولوجى بين العلم والفن:
المنهج الفينومينولوجى يعتمد على الباحث كأداة وجزء من الظاهرة قيد الدراسة – حيث يقوم بالمعايشة فالاحتواء فالإمحاء فاعادة التركيب فالصياغة، وهذا يصدق على العالم مثلما يصدق على المبدع الفنان. فالباحث الذى هو نفسه أداة البحث فى هذا المنهج هو الباحث الذى تنمحى ذاتيته الخاصة فى موضوعية مشتملة لذاته وموضوعه معا، ثم يستعيد ذاته بما أضيف إليها “فيقول” (أو يعبر بأى أداة شاء). بتكرار سخيف، أنبّهُ أن المنهج الفينومينولوجى ليس استبطانا، كما أنه ليس ملاحظة عن بعد، هو موضوعى بقدر مرونة الباحث به وتناسقه مع موضوعه وقدرته على الاحتواء والإمحاء والإعادة والاستعادة والصياغة المباشرة دون “استبطان “ذات أو “تأمل” أجزاء، بل بافراز نتاج المعايشة تلقائيا ومباشرة!! الأديب والناقد المبدع يفعلان كل ذلك دون أن يدرك أى منهما أنه ”فينومينولوجىّ” بالضرورة، وأنه إنما يصوغ ”حياة عاشها فى موضوعاته (الداخلية والخارجية) معا” صياغة جديدة متناسقة متفوقة عن الواقع الأصل ليصنع منها جدلا واقعا أكبر وأشمل ، وهو ما أسميه الواقع الإبداعى.
لماذا ديستويفسكى:
(1) لأنه غير بعيد عن القارىء العربى وأعماله المترجمة فى متناوله .
(2) ولأنه رائد فى رحلات ”الداخل/الخارج” واصفا تفاصيل التفاصيل .
(3) ولأنه صاحب تجربة مرضية ذاتية اعتقد أنها ذات دلالة فى دفع إبداعه وتمييز محتواه جميعا.
(4) ولأنه قد غطى مساحة هائلة من النفس فى مختلف مراحل تطوره الشخصى وتطور المجتمع وتطور رؤيته.
قارئ ديستوفسكى يعرف ما يقال عن أغلب شخصياته – إن لم يكن جميعها حتى الشخصيات الخلفية والثانوية – من أنها من الشواذ، سواء كان الشذوذ مرضا صريحا، أم انحرافا عجيبا، أم تميزا غير مألوف، الأمر الذى قد يثير شكا حول ما إذا كان ديستويفسكى فى عطائه المعرفى الفنى هذا قد وصف النفس الإنسانية العادية، أم أنه لم يصف إلا حالتها الشاذة (والمرضية) فحسب، نفس النقد الذى وجه لسيجموند فرويد من أنه استقى معلوماته من المرضى وعممها على الأصحاء. هذا الهجوم الهادف للفصل الحاد بين السواء والمرض هو – فى نظرى – حيلة دفاعية ربما نلجأ إليها- نحن الأصحاء !- لتحمينا من رؤية أنفسنا فى عمق تركيبها، وبالتالى تحرمنا من رؤية المرض والحقيقة. المريض والشاذ- فى المجال النفسى – تضخيم وتعرية بشكل صارخ فيه لأحد جوانب تركيبنا ووجودنا، والباحث الأمين هو الذى يبحث فى هذا الجانب تحت نور هذه الخبرة المكبَّرة، فإذا تمكن من سبر غورها رآها هى هى فى الشخص السليم بدرجة أخف، وبتكامل أشمل مع سائر الجوانب الأخرى، وبتعبير آخر: ما المرض الا “مبالغة منفصلة” (مستقلة) فى نشاط تركيب قائم يوجد أصلا كجزء متسق مع الكل عند الأسوياء . إن رفض رؤية الشاذ كنموذج مكبر لأجزاء الوجود البشرى هو دفاع ذاتى سرعان ما سيتراجع المختبئون فيه عودة الى الحق أو إنهاكا من الباطل، ويكفى لسوىٍّ خائف، (عالم أو غير عالم) أن يتشجع بالنظر فى أحلامه (ما يصله من أحلامه) ليرى مدى شذوذه الذى يسارع برفضه.
شخصيات ديستوفيسكى “الشاذة” ما هى إلا داخلنا بكل تفاصيله وقد وضع تحت عدسة حدسه المكبرة.
والآن: إلى قراءة المتن نقداً
ثانيا: نيتوتشكا نزفانوفا
هى رواية متوسطة كتبها ديستويفسكى فى عامى 1849,1847، أو هى فى واقع الأمر”نصف رواية”، لأنه كان ينوى أن يكتبها فى ستة أجزاء، ثم توقف، ويقال أن اعتقاله فى 23 أبريل 1849هو الذى قطع عليه عمله فى إنجاز هذه الرواية، رغم أنه لم يكف داخل السجن عن الكتابة. إن القصة القصيرة”البطل الصغير” التى تمثل الجزء الثانى من هذاه الدراسة كتبها داخل السجن، فلو كان ثمة تكملة ملحة- أو ممكنة- لهذه الرواية المبتورة لأمكن ذلك داخل السجن كما أمكن لغيرها، على أن بتر هذه الرواية ونشرها ناقصة كانا فرصة جيدة لأقول:
(1) إن النسيج القصصى المحبوك والمتكامل ليس هو محور دراستى هذه، بل اللقطات المكثفة المستعرضة بغض النظر (ليس تماما) عن الخط الطولى.
(2) إن حالة الوعى المصاحبة لكتابة عمل ما، هى حالة من نوع خاص (الخصوصية هنا بمعنى الاختلاف عن عموم الوعى فى غير هذا الوقت وليس بمعنى الاختلاف عن وعى سائر الناس، وإن كان ذلك محتملا)، وهى تكتمل وتنضج فى تهيؤ بذاته وهى تنُشِّطُ تركيبات بذاتها، ذات”حضور” متداخل، على أن هذه التركيبات ليست جاهزة لتخرج كاملة إذا ما ترتب لها التهيؤ النوعى المناسب، إلا أن تحريك مكوناتها وتنشيطها يحتاج إلى هذا التهيؤ الخاص الذى يعطى هذا العمل تشكيله المتميز، فاذا تغير التهيؤ نوعيا وطويلا فقد تنزوى حالة الوعى الخاصة تلك أو تختفى فيعجز المبدع عن إتمام هذا العمل بالذات - دون غيره ، وكأنه لم يعد هو ذاته الذى بدأه، وكأنى بهذا الفرض أرجح أن المبدع الحقيقى يكون – أثناء إبداعه – هو عمله الذى يعمله أكثر مما يكون هو نفسه الشائعة، وتتولد شخوصه من طبقات وعيه الإبداعى وتنمو ما استمرمصدر التوليد، وقد يؤكد ذلك عملية بتر (4) الصغير “لوريا”، فقد ظهر هذا الطفل فى مسودة أحد فصول الجزء الثانى من رواية نيتوتشكا (الجزء الذى يجرى فى بيت الأمير”ك”) ثم ظهر فى الطبعة الأولى ليحذف تماما فى الطبعة التالية. وكأنه بتر بعملية جراحية قاسية لازمة فى آن، ولعل ذلك تم بعد أن اضمحل هذا “العضو” (لوريا) نتيجة لافتقاره الى مقومات نموه (حالة الوعى الذى حملته حتى الولادة الباكرة) فاستوجب البتر رغم أن ما كان يمثله هذا الصبى لوريا كان شديد الأهمية بالنسبة للدراسة الحالية لو أنه إكتمل خلقه فكمل مساره، ذلك لأن هذا الصبى كان محاصرا بفكرة ملحة “”أن أبويه ماتا حزنا وكمدا لأنه لم يكن يحبهما”، وفى ذلك ما فيه من معانى الذنب المركب، والقتل بالحرمان (5)مما كان سيثرى معرفتنا بعالم الطفولة كما قدمه ديستويفسكى، وخاصة وأننا نلمح بعض ملامح نفس التركيب والميكانزمات عند نيتوتشكا نفسها، ناهيك عن التماثل فى الالتقاط والاستضافة فى بيت الأمير (مثلهما فى هذا الشأن مثل الكلب: فالستاف- انظر بعد).
رواية نيتوتشكا تتكون من ثلاثة أجزاء:
الجزء الأول: يمثل الطفولة المحرومة البائسة التى نشأت بين أم شبه مريضة طول الوقت، تعانى أبدا من الإنهاك والفقر، وبين زوج هذه الأم المضطرب العاطل الأنانى الخيالى المحبَط، الذى اعتبرته نيتوتشكا والدها منذ بداية إدراكها، فأحبته (كما سيأتى) وتمنت موت أمها لحسابه، (رغم حبها السرى لها) حتى ماتت الأخيرة وكأنها قضت نحبها من تراكمات البؤس فى ليلة واجه فيها زوجها حقيقة عجزه (“الموسيقى”!!) عن كل شئ، فولّى هاربا من جثة زوجته، ومن فشله، ومن حب نيتوتشكا، ومن عقله جميعا، ليتمتع بحرية الجنون يوما أو أكثر ثم يموت معلِنا الهزيمة الأخيرة.
الجزء الثانى: يشير إلى حياة نيتوتشكا فى بيت الأمير الذى التقطها بعد ترك والدها (6) (زوج أمها) لها فى الشارع عاويا جبانا قاسيا، وفى هذا الجزء نرى التعويض الصعب (لدرجة الاستحالة) لبؤس الطفولة الأولى، فنرى العلاقة الزاخرة بين نيتوتشكا ابنة الأمير وهى فى مثل سنها، تلك العلاقة التى بدأت بالتوجس والحذر لتنتهى بالغرام الملتهب بين الطفلتين، حتى تحول الأسرة – والظروف- بينهما.
أما الجزء الثالث: فيمثل المراهقة التى أمضتها نيتوتشكا فى بيت إبنة الأميرة الكبرى – من زواج سابق – (ألكسندرينا ميخائيلوفنا) حيث لقيت رعاية أموية حقيقية لأول مرة، ولكن فى ظروف شاذة (أيضا) حيث ظل زوج ألكسندرينا، بكل بلادته وتصنعه وانزوائه وغروره، يغذِّى شعورا وهميا بالذنب عند زوجته حتى يربطها به وببيتها وطفليها ونفسه دون أدنى كرامة أو إرادة، وينتهى هذا الجزء والرواية بعد أن تعثر نيتوتشكا على رسالة تحوى “سر” هذا الإذلال القاتل، وهى رسالة موجهة إلى ألكسندرينا تحمل كل العواطف (الأخوية) النبيلة مع قرار الانفصال الرزين من حبيب مخلص قديم، مما دعى نيتوتشكا أن تعلن ثورتها لصالح “الحق” فتمثل الضمير القاضى الحامى المسؤل (الوالد) الذى يضع حدا لهذه المأساة بما يتضمن حق “الحق فى الحب”.
تبتر الرواية فجأة دون أن نعلم ما يترتب عن إعلان هذا الحق من ممارسة أو انهيار أو استمرار أونقلة أو غير ذلك.
تحفظات حول التفسيرات النفسية لمقدم الأعمال المترجمة
كما قدمنا، نجد أن الجزء الأول إنما يروى نشأة نيتوتشكا التعسة فى جو شديد البؤس، مع أمها العاملة المكافحة المحبة لزوجها (رغم ما هو، وبسببه) حيث يقوم هذا الزوج بدور “والد” نيتوتشكا ليجسد الاضطراب والضياع والخيالية الذاهلة، حتى يفسد كل استقرار عائلى محتمل أو مأمول، وفى نفس الوقت فقد كان مصدرا هائلا لفيض زاخر من العواطف الملتهبة الصادرة من تفاعل بؤسه ووحدته وهواجسه ومحاولاته المستميتة لكى يعترف أحد بموهبته “الحقيقية المشوشة” أو “المزعومة المأمولة” (لا أحد يدرى – فهو لم يُختبر)، المهم أن يُرى (بضم الياء) من خلالها، ورغم ما ذهب اليه مقدم الترجمة من تصوير حالة بافيموف “لعقدة النقص” مشيرا بذلك إلى سبق ديستويفسكى لأدلر (7)، فانى رأيت فى يافيموف أساسا إلحاح “الحاجة إلى الشوفان” لذاتها (8) (ومن ثم الاعتراف بالوجود)، لا ليغطى بها نقصا حقيقيا أو متخيلا.
طوال هذا الجزء ظلت هذه الحاجة تلح عليه أساسا وتماما حتى لتفسر كل وحدته وكل شقائه وكل ضياعه، ولعل علاقته بكمانه (أنظر بعد) لم تكن سوى علاقته بذاته (من داخل)، وقد يكون هذا اليقين بالقدرة الموسيقية الإبداعية الخاصة ليس سوى إعلان أن بداخله من الألحان (9) ما يستحق أن يظهر فيُسمع، ”ليرى” صاحبه، ولم يُثْرِهِ أو يطمئن وجوده أى شئ آخر، لاحب زوجته (الحقيقى) له ولا أمومة نيتوتشكا، ولا غيبوبة الشراب، وظل وغْدا طوال الوقت، بما فى ذلك علاقته بهذه الطفلة البائسة، كان وغدا معها أيضا، وأصلا، رغم نوبات العواطف المجهضة التى كانت تظهر منه رغما عنه فى بعض الأحيان، ظل لها – وهى الطفلة الوديعة – إبنا مدللا أنانيا حتى تركها فى أصعب المواقف بعد وفاة أمها، وهنا أختلف مع من يزعم بأن هذه العلاقة هى علاقة أوديبية أساسا (10) (أو بتصحيح أدق: عقدة إلكترا) إذ يستشهد ذلك الزاعم بقولها: “…شعرت نحو أبى… بحب ليس له حدود، حب غريب ليس من الطفولة فى شئ” (ص66) فتصور هذا الناقد أن ما ليس طفولة هو ما يعنيه التفسير الأوديبى لعواطف الأطفال، بل ذهب أكثر من ذلك إلى تصور أن ديستويفسكى صالح بين أدلر وفرويد (أو جمع بينهما) فى علاقة نيتوتشكا بأبيها من ناحية مع استمرار تطلعاتها الحالمة نحو القصر المجاور ذى الستائر الحمراء (عقدة النقص: أدلر) الأمر الذى يمكن إرجاعه مباشرة إلى نشاط خيالها النابع من شقائها وغيره نحو المنزل الجنة (الرحم الآمن)، لم أجد فى هذا أو ذاك تصالحا يستأهل هذه الوقفة أو هذا التفسير، بل إنى أشك فى جذور النقص كدافع أولى لهذا الخيال، فما كانت نيتوتشكا إلا أمّا لأبيها، وما كانت خيالاتها حول القصر ذى الستائر الحمراء إلا خيالات الأطفال حتى لو لم يعيشوا النقص، فهى مجموعة متداخلة من خيالات الاستكشاف والتغير والتعويض جميعا، يغذيها هذا القدر الهائل من التعاسة والحرمان لتهرب فى “خيالات الأمن والسكينة (التى قد تشير إلى الرحم لا إلى التطلع) دون حاجة إلى لافتة “عقدة النقص” ومن ثم “التعويض”!!.
ثم إن هذا المقدم الناقد زعم أن العلاقة بين نيتوتشكا وكاتيا (إبنة الأمير) فى الجزء الثانى تثبت تصالحا جديدا بين أدلر وفرويد حيث ذهب إلى تفسير حب الطفلتين لبعضهما البعض بحب “المِثْل” الذى قال به فرويد، أما صراعهما التنافسى المبدئى فقد عزاه الى ما أشار به أدلر من رغبة التفوق (تعويضا) وهذا تأكيد جديد لخطورة التسرع بالتفسير النفسى الظاهر، ذلك أن علاقة طفلتين مختلفتين عادة ما تبدأ بالحذر، ثم تشمل التنافس، ثم قد تتصاعد الى الالتحام للتكامل فضلا عن إسقاط كل منهما لداخلها وأحلامها على الأخرى، واستعمال كل منهما للأخرى بما تحتاجه، وكذلك فضلا عن دور “الصنو” (11) فى النمو، وكل هذا سوف أعود اليه تفصيلا، المهم هنا أنى أنبه ابتداء إلى رفض ما يسمى بالتفسير النفسى كما هو شائع.
القصة القصيرة: البطل الصغير
قصة “البطل الصغير”، من وجهة نظر هذه الدراسة، تعتبر هامشا للعمل الأساسى، وهى تكمل رؤية ديستويفسكى للطفولة فى أعماله الباكرة، وهى قصة كتبها ديستويفسكى وهو فى سجنه المنفرد بقلعة “بتروبافلوسكابا”، وهى تقدم لنا الطفولة من جانب سهل وحار وشاعرى، ففى حين تمثل نيتوتشكا عالما داخليا زاخرا بكل عوالم الخارج المتناقضة، يمثل لنا البطل الصغير عالم الطفولة الراصد “للخارج” أساسا وبما يستتبعه تفاعله مع هذا “الخارج”، وقد تعجب ديستويفسكى نفسه – كما تعجب ناقدوه – على التناقض بين جو كتابة القصة فى زنزانة منفردة منتظرا صدور حكم الاعدام، وبين جو القصة “.. حياة توشك أن تكون عيدا لا ينتهى”، وعندى أن ذلك يشير إلى أن التهيؤ الذى أشرتُ اليه سالفا لا يكون بالضرورة مطابقا لنفس الحالة المزاجية المصاحبة للكتابة، فتحريك الوعى الإبداع يأخذ استقلاله بمجرد أن ينطلق بغض النظر عما يثيره، وبأسلوب آخر: فليس الجو البهيج هو الذى ينشأ منه وعى بهيج، ومن ثم عمل متفائل سعيد، والعكس صحيح، وإنما يثار من محتوى الذات: ما يماثل، أو يكمل، أو يعوض، أو يعيد تركيب، أو يتحدى: التهيؤ المحيط حسب درجة الاستعداد ونوع الإعداد، ويستمر هذا الوعى المثار باستمرار نوع الإثارة الداخلية والخارجية حتى يصل إلى غايته الإبداعية التى تعطى لكل عمل استقلاليته الفريدة، وقد توفر هذا فى قصة البطل الصغير رغم التناقض بين الخارج والداخل.
حكاية البطل الصغير تروى لنا قصة طفل فى الحادية عشر من عمره، يستعمله بعض الضيوف (الشقراء العابثة) فى قسوة كأداة للمداعبة وموضوعا للفكاهة والمرح، وهو يرفض هذا التسطيح فى استقبال ما يظنونه طفولة، ويحمل من منابع العواطف وتصانيفها ما يكفى أن تجرى منه أنهار الحياة النابضة فى قلوب العشرات، وهو يتوجه بكل حيويته وطاقته وخياله وحاجته إلى حسناء أخرى (السيدة: م) لتصبح معبودته وموضع أحلامه ورعايته معا، وهو يكتشف أثناء ذلك- بموضوعية مناسبة- ثقل زوجها وبلادته، وفى نفس الوقت يكتشف علاقتها الخاصة العميقة الرائقة بفارس مسافر، وهو لا يغار لذلك ولا يثور، بل يحنو ويتقبل، ويتمادى فى إيثاره وعطائه المحب إلى أن يحتال ليرجع لها “رسالة” (أيضا رسالة!) وقعت منها عفوا بعد أن تسلمتها من حبيبها فى لحظة وداع سرى، يحتال لذلك دون أن يظهر مباشرة فى الصورة إكمالا لانكار ذاته، وتماديا فى تصوير أن تحقيق هنائها هو الغاية غير المرتبطة بذاته، واحتياجه أصلا.
هذه القصة إذ تقدم لنا صيحة منذرة لكيفية إفسادنا لما هو طفولة، وعجزنا عن فهمها، تشترك فى أقل القليل مع رواية نيتوتشكا – مثلا فى رعاية الطفل لوالديه (عكس المنتظر). هذا الاختلاف فى ذاته يعلن ثراء ديستويفسكى فى الإحاطة بظاهرة ما، ودون خضوعه لنمط معين.
…………..
ونكمل غدًا: ” عودة إلى:”نيتوتشكا نزفانوفا”
[1] – يحيى الرخاوى “تبادل الأقنعة” (دراسة في سيكولوجية النقد) الهيئة العامة لقصور الثقافة (2006)
[2] – الكتابة الأولى لهذه الدراسة ظهرت فى مجلة الإنسان والتطور الفصلية – عدد أكتوبر – 1982.
[3] – لا أمنع نفسى من أمل فى قارئ يتقن الروسية والعربية بنفس القدر”المتذوق” فيحدد لنا حقيقة ما ذهبنا اليه، وبُرجع الفضل لذويه، وخاصة ما وصلنى من دقة المترجم وصدق إبداعه
[4] – استعملت فى المسودة لفظ “أجهض” ولكنى عدلت عنه الى “بتر” بعد أن أكتشفت أن عمر الصبى عند البتر كان أثنى عشر عاما.
[5] – وسوف نعود – غالبا – لدراسة هذا التركيب فى أعمال لاحقة لديستويفسكى
[6] – سأطلق على زوج أمها صفة والدها طوال الدراسة لأنها الصفة النفسية التى استقبلتها نيتوتشكا فحكت عنه بهذا الاسم دون غيره وخاصة فى الجزء الأول.
[7] – الفريد أدلر رائد مدرسة علم النفس الفردى
[8] – يحيى الرخاوى دراسة فى علم السيكوباثولوجى: ص 193 ،529
[9] – تكرر هذا الرمز بالذات فى حرافيش نجيب محفوظ تكرارا مؤكِّدا لما ذهبنا اليه.
[10] – مقدمة الجزء الثانى من الأعمال الكاملة – ربما بقلم المترجم – صفحة 12 – المؤسسة المصرية العامة للتأليف والنشر. دار الكاتب 1967
[11] – يحيى الرخاوى – حالات وأحوال – (ص 50 – 62) مجلة الإنسان والتطور (1981) – المجلد الثانى – عدد ابريل (ص 52).