نشرة “الإنسان والتطور”
الأحد: 8-8-2021
السنة الرابعة عشر
العدد: 5090
من كتاب “تبادل الأقنعة” (1)
دراسة فى سيكولوجية النقد
(التفسير الأدبى للنفس)
قراءات فى ديستويفسكى (1)
الفصل الثانى
عالم الطفولة من ديستويفسكى (2 من 4)
………..
………..
عودة إلى:
نيتوتشكا نزفانوفا
الجزء الأول- الطفلة الأم
فى هذا الجزء تعيش نيتوتشكا فى جو أبعد ما يكون عن السواء، جوٍّ هو الشذوذ ذاته، هو نصف الجنون الذى هو أخطر من الجنون التام، الجنون الكامل الصريح محدد العالم صارخ الحضور بحيث يمكن مواجهته وأحيانا تحديه، أما نصف الجنون (ص88) (2) فهذا هو الاضطراب المخل حيث الأرض مغرية بالسير لكنها رخوة حتى الغرق وحيث “الآخر” واعد بالإنصات ولكنه بعيد حتى الصمم، وهكذا. بدأت سرعة إيقاع الأحداث تزيد بعد شجار عنيف بين الزوجين إنحازت فيه نيتوتشكا لأبيها لاعتبارات غير واضحة، أهمها الخوف الشديد من أمها التى كان يتراءى لها أنه “ما من أحد إلا يخشاها”، وقد كان خليقا بهذا الخوف وما تلاه أن يعلن بداية طفولة حقيقية واستكانة إلى أبيها مثلا بعد أن لجأت إليه تكاد تدخل فى جسده حتى التلاشى طلبا للأمان وفرحا به.
”نادانى أبى، فقبلّنى، وداعب رأسى، وحملنى إلى ركبتيه بينما كنت أشد جسمى إليه (3) “برفق وحب” (ص66,65)
نلاحظ أن الذى حدث هو: أنها هى التى تلوذ به، وليس هو الذى يضمها، بل إن الرفق يحمل ريح أمومة حانية كما سيأتى حالا.
”وشعرت نحو أبى منذ تلك اللحظة بحب ليس له حدود، حب غريب ليس من الطفولة فى شئ” (ص66)
يسارع النقاد ليقولوا أنها – اذن – عقدة أوديب (إلكترا) ولو تمهلوا ثانية واحدة لسمعوها تكمل:
”حتى لأستطيع أن أقول أن هذه العاطفة تشتمل على شئ مما تشعر به الأم نحو إبنها من حب وقلق” (ص66)
وهى ذات نفسها تعلن غرابة الأمر (لنتعلم! وياليتنا نفعل) وهى تكمل:
”إن لم يكن مضحكا أن توصف عاطفة طفل بمثل هذا” (ص66)
والأكثر إضحاكا أن نسارع نحن (نقادا ونفسيين!) إلى “جنسنة ” هذه العاطفة تحت أفكار تحليلة أوديبية متعجلة.
نيتوتشكا تعلن – مباشرة – أن هذه اللحظة الحادة المعقدة (أنظر بعد) كانت بداية جديدة لتغير كيفى، وتفجر ذكرياتى، ووعى جديد.
”..كانت تلك فيما أعتقد أول ملاحظة أبوية… ولعلها هى السبب فى أن ذكرياتى أصبحت منذ تلك اللحظة واضحة هذا الوضوح”(ص66).
بضربة واحدة وخلال بضعة عشر سطرا قال لنا ديستويفسكى كيف بدأت نيتوتشكا مسيرة النمو، وكيف تغير استقبالها للعالم، بل أنه حدد نوع الوعى الجديد النامي:
”أصبحت لا أكتفى بالمشاعر التى تصلنى من الخارج بل صرت أفكر، وأحكم، وألاحظ” (4)
نيتوتشكا لم تنمُ طفلة منذ “هذه اللحظة”، فقد سرقت طفولتها فى نفس الثانية، سرقتها حالة ألحُّ من طفولتها، فاذا بها الأم الحانية الراعية، ولمن؟ للوالد الذى أثار طفولتها بتلويح ما. يبدو أن الذى يحدد “مَنْ الوالد” و” مَنْ الطفل” ليس هو السن أو القبل العُلوية أو مَنْ يجلس على ركبتىْ من، وإنما اتجاه الاعتمادية ونوع وعى كل طرف بالآخر:
فالأب هنا بدا هو الأضعف، إذن: فهو أولى بالطفولة!.
”كان يتراءى لى أن أبى حقيق بالرثاء، معذب، مضطهد” (ص66)
ثم بالتالى: “وأن من الظلم ألا أحبه حبا قويا” (ص66)
وتتحدد العلاقة اضطرادا بإعلان من هو الأكثر مسئولية والأقدر فهما وأعمق وعيا.
”كيف استطعت أنا الصغيرة أن أنفذ إلى أعماق نفسه، فأدرك الآلام التى كان يعانيها” (ص66).
ويتردد ما يؤكد هذه العلاقة الأموية بعد ذلك فى أكثر من موضع:
”ومع أنى كنت طفلة، استطعت أن أنفذ إلى أعماقه” (ص102)
”لا شك أنه هو الطفل لا أنا، ما دام يحدثنى بهذه اللهجة عن أعدائه” (ص102)
وهى تشاركه آلامه وتُـرجع مصدر آلامهما معا إلى القسوة المتخيلة للأم رغم مخالفة ذلك للحقيقة، فهذه الأم التى لم تكن أبدا قاسية استقبلتها طفلتنا على انها مصدر القسوة التى تبرر لها تعلقها بأبيها أمّاً له:
“لعل قسوة أمى الشديدة علىّ هى التى دفعتنى إلى التعلق بأبى تعلقى بإنسان يعانى مثل الذى أعانيه وفقا للصورة التى رسمتها لنفسى”
وقد ظلت أمومتها لأبيها تلاحقها حتى فى أقسى لحظة فى حياتها حين تركها فى الشارع غدرا بعد وفاة والدتها، فبدلا من أن تثور عليه وترفضه أو على الأقل تعامله تَرْكَاَ بَتْركِ، ظلت تجرى وراءه لا لتحتمى به.. ولكن لترعاه:
”أخذت أعدو وراءه عدوا سريعا وقد تملكنى خوف مجنون .. ووجدت قبعته فى الطريق، لقد سقطت عن رأسه وهو يعدو فحملت القبعة وتابعت عدوى.. كنت أشفق على أبى، كان صدرى يختنق إذ أتذكر أنه بلا معطف، وبلا قبعة، بعيدا عني” (!!) (ص111).
وتبلغ درجة السماح الحانى من الأم الطفلة لطفلها الهارب أنها تريد أن تلحق به لتطمئنه أنها سمحت له بتركها وهى الخائفة العاجزة اليتيمة المهجورة، كل ما تريده “له” هو ألا يخاف منها (وليس العكس).
” …حتى أستطيع أن أطمئنه.. حتى أستطيع أن أؤكد أننى لن أعود إذا كان يريد ذلك” (ص118). وهى فى سماحها هذا تعلم مصيرها”
”.. وإنى عائدة وحدى إلى جانب أمي” (ص:118)
مع أن أمها لم تكن آنئذ إلا جثة هامدة فىالمنزل. نيتوتشكا لا تكاد تدرك الحد الفاصل بين الموت والحياة بعد.
هكذا نرى ديستويفسكى وقد استطاع بحدسه الفائق أن يظهر تركيبا متكاملا (هو التركيب الوالدى) (5) الموجود فينا منذ الولادة، نحن أطفالا، إلى نهاية العمر، وكيف أنه يظهر حسب توزيع القوى والعواطف بين كيانين إنسانيين بغض النظر عن السن، ولا أجد أى معالم دالة تبرر تفسيرات أوديبية جنسية فى هذه العلاقة.
ثانيا: النمو وقفزات الوعى
حين أعلنت نيتوتشكا “هذه اللحظة” (ص66) كبداية اليقظة من “نوم الطفلة” (ص66) كانت لا تستعمل مجازا بلاغيا وإنما حقيقة مباشرة، ذلك أن كتب التربية المتعجلة والشائعة قد سطحت مسار النمو حتى تصورنا أنه إضافات كمية مع أقل الإنتباه لهذه “النقلات” النوعية. انتقلت نيتوتشكا هنا هذه النقلة تحت مظلة جو الأمان الذى وصل إليها من هدهدة الوالد بعد رعب معايشة الشجار بين الوالدين، رعب يهدد الوجود ذاته، دام ساعتين طويلتين:
”كنت أحاول عبثا خلالهما، وأنا أرتجف من القلق أن أحذر كيف سينتهى الأمر (ص65)
ورغم هذا التمهيد برعب يهدد الوجود، يتلوه الاحتواء بطمأنينة غير متوقعة أو محسوبة مما يغرى القارئ المتعجل بتصور ما سيتبع ذلك من “نوم آمن” فإن الذى حدث هو أبعد ما يكون عن ذلك، إذ هو”يقظة مفرطة” بل إن تعبيرها عن هذا الحادث وما استتبعه بعد ذلك كان غريبا لمن لا يعرف الطفولة وكيف تنمو.
”وقد جرحنى هذا الحادث جرحا عميقا”!!(ص67)
”…من ذلك اليوم أخذ نموى – يتم بسرعة عجيبة- بسرعة مرهقة” (ص 67)
والآن: كيف يجتمع “الجرح ” “بالأمن” “باليقظة” فيؤدى ذلك إلى “الإسراع فى مسيرة النمو”؟.
على القارئ أن ينسى -أو يتناسى – التأكيد الاستقطابى على التناقض الظاهر فى معظم المجالات، إذا كان يريد أن يستقبل علاقة الجرح بالأمن باليقظة (مثلا):
إن النمو لا يتم بالإضافة، وإنما بالكسر فالإطلاق فالاستيعاب فاتساع الوعى، ربما كان هذا ما أراد ديستويفسكى أن يعلمنا إياه، إن هذا الجرح إنما يعلن ما يمكن أن تتصوره شرخا فى جدار الكبت، يطلق مكنون الذات، فُتسْتَعاد الذكريات، ونفيق من تنويم سابق (كان لازما حتى تلك اللحظة) لننطلق بسرعة أكبر- وأكثر إرهاقا – على درب النمو، وكأن ديستويفسكى قد رأى كل الظروف المطلوبة لإعلان هذه اللحظة المتكررة على مسار النمو (برغم أنها غائبة عن اهتمام كثير منا بما فى ذلك رهط من العلماء) فهى تتطلب عادة (وبالترتيب):
(أ) تهديد بأن القديم لم يعد يصلح، أو أنه أصبح مهدداً بشكلٍٍ ما، مهدداً لدرجة الإطاحة بالوجود برمته (هنا الشجار بين الأم والأب)
(ب) ظهور معالم أمان واعدٍ منقذ يسمح بالعودة إلى الحياة (هدهدة الوالد لنيتوتشكا)
(ج) تراخى قبضة الكبت القديم حتى التسليم المؤقت (الالتحام الجسدى)
(د) إنطلاق الداخل عبر الشرخ الحادث فى جدار الكبت نتيجة التراخى بعد الوعد بالأمن الذى تلى بدوره التهديد “السالف الذكر” (اليقظة بعد نوم الطفولة، وظهور الذكريات “بهذا” الوضوح)
(هـ) ومن ثَمَّ الإسراع باستيعاب المخزون المطلق من الوعى الكامن يثرى به الوعى الظاهر لتوليف وعى جديد فى خطى سريعة مرهقة (أخذ نموى يتم بسرعة عجيبة- سرعة مرهقة).
الوقوف عند هذه اللحظات (6) هام وضرورى لأن الأعمال الأدبية تتحفنا به أكثر من الملاحظات التربوية والمشاهدات الكلينيكية، وقد أسميت مقابلها المرضى “بداية البداية” (7)، ولها مقابل ثالث فى لحظات التنوير فى الإبداع أو لحظات “الوصول” فى الخبرة الصوفية. إن تحديد هذه اللحظة تحديدا نوعيا يتم بمنتهى الدقة والوضوح (دون التزام بتوقيت معين) وهى تصبح - عادة- معلما من المعالم التاريخية الحياتية، يتحدث الفرد عنها بجلاء تام (8) هى “لحظة” بذاتها لها ”ما قبلها”، وهو (ما قبلها) عادة ما يكون مدغوما إلى أن يحدث سبق التوقيت (9)، وهى لها ”ما بعدها” الذى يكون عادة شديد الوضوح والتحديد: تقول نيتوتشكا: ”أستطيع أن أرى بوضوح تام كل ما وقع بعد الثامنة والنصف من عمرى يوما بيوم… دون إنقطاع كأنه وقع بالأمس” (ص63)
أما الوضع قبل هذه اللحظة فكان كما يلى:
”كل ما انقضى قبل هذا العهد لم يدعْ فى نفسى أى أثر يمكن أن أذكره الآن” (ص63).
فهل نصدقها بالحرف الواحد حتى وهى تحكى عن”جزر من الذكريات” شديدة الوضوح رغم الضباب من حولها ورغم انفصالها عن أى تسلسل منظم؟ نعم، فهى تذكر فى تلك الفترة (السابقة) فى غير ترتيب “أشبه بأحلام مريض: “حصانا داسها، وفأرا فى ركن حجرة ساكنة وهى مريضة إثر حادث الحصان..” الخ، وحتى الوعى بحالة النوم السابق إنما يدل على أن الفرق ليس فى التذكر من عدمه وإنما هو أساسا فى ”نوع الوعى” قبل وبعد تلك “اللحظة”. وظاهرة”سبق التوقيت” هذه هى عادة من أهم ما يؤكد حيوية الأحداث فى مخزون الوعى، وهى إن كانت ذات دلالة خاصة فى توقيت بداية سيكوباثولوجية بعض الأمراض فإنها هنا تمثل الأداة النشطة فى السرد والرواية. وديستويفسكى لا يفتأ يذكرنا بتناوب النمو، وقد عاد يستعمل تعبيرات: النوم واليقظة والبلادة والوضوح لوصف فترات النمو المتلاحقة المختلفة عن بعضها البعض نوعيا. مثلا:
“كأنما استيقظت من نوم ثقيل” (ص64) وكذلك، “…وانقضت سنة كاملة على تيقظ شعوري… وعلى تمزقى صامتة بين مطامح غامضة نشأت فى بغته” (ص74) ثم، “أصبحت حياتى بعد سفر كاتيا حياة هادئة ساكنة ملازمة للبيت .. لم استيقظ منها إلا فى نحو السادسة عشرة من عمرى ان صح التعبير..” (ص195) (وقد صح التعبير).
”كنت قد بلغت السادسة عشرة من عمرى، وقد أصبت فجأة فى ذلك الحين بنوع من تبلد الحس وخمود العاطفة… وكأن خيالى قد كبا، وكانت وثباتى قد انطفأت وكانت أحلامى قد تبددت حتى لكأنى لا أستطيع أن أحلم” (ص225)
ويلاحظ هنا أنه كما تحدث الإضاءة والتنوير والوضوح فجأة، كذلك فإن الإنطفاء يحدث فجأة، كما أود أن أكرر أنه لا مبرر لاعتبار هذه التعابير عن انطفاء الوثبات، وخمود العاطفة تعابير مجازية، إذ أنها تصف مباشرة خبرات وعى حقيقية مختلفة نوعيا عن كل عداها.
ثالثا: الداخل والأنغام
يافيموف الكمان:
ما وصلنى هو أن “كمان” يافيموف (والد نيتوتشكا = زوج أمها) لم يكن إلا ذاته الداخلية المرْجُوَّة، وبقبولنا هذا الفرض الذى سنحاول إثباته حالا يبدو تفسير حالة يافيموف بعقدة النقص الأدلرية شديد التسطيح.
لم يكن “الكمان” هو الآلة التى بدأ بها فقد كان فى الأصل عازفا على “الكلارينيت”، وقد “ورث” هذا الكمان من “عجوز عجيب” وكأنه يشير إلى أن هذه اللغة الأنغامية (10) الأعمق هى الأصل الأقدم المنحدر من تاريخنا الأول (11) الذى لم تعجز لغتنا الرمزية الكلامية أن تستوعبه بما يحقق التوازن والتواصل معا، فالكمان هنا هو “ذات يافيموف” الأعمق، وهو رغبته فى التواصل بحق، وهو عجزه عن هذا وذاك، وهو لغة كامنة واعدة، وحتى اتهامه بقتل صاحب الكمان العجوز قد يواكب هذا الغرض فى مقابلته “بالجريمة الأولى” وقتل هابيل أو الجريمة التطورية الرائعة: “قتل الوالد”.
تطورت علاقة يافيموف بالكمان من آلة يمكن أن يتفوق فى العزف عليها إلى “سر يخبئه” و”يرجع إليه” و”يناجيه”، وحين أراد أن يكافئ نيتوتشكا على استجابتها لنزواته الطفلية، واستغلال أمها لحسابه، كافأها باطلاعها على سره”هذا”، وكأنه يكشف لها عن مكنون ذاته:
”.. لم يستطع أبى أن يكبح جماح نفسه فأخذ يقبلنى بقوة من شدة الفرح، … ثم أخبرنى أنه مكافأة على أننى إبنة طيبة عاقلة سيرينى شيئا جميلا جدا، شيئا، سيسرنى أن أراه، ثم فك أزرار سترته، فأخرج مفتاحا صغيرا كان معلقا فى رقبته بخيط أسود لا يفارقه (أنظر أين يضع مفتاح سره وداخله) (12)، وألقى علىّ نظرة غريبة كأنما يريد أن يقرأ فى عينى السرور الذى كان لابد- فى رأيه- أن أشعر به، وفتح الصندوق وأخرج منه فى كثير من الحذر علبة سوداء ذات شكل غريب لم أرها قبل ذلك أبدا، ولمس العلبة بنوع من الرهبة غير مألوف فيه (فهى تاريخه ونبض داخله) وانمحت الابتسامة من وجهه ليحل محلها فجأة مظهر الرصانة والجلال (فى حضرة الحقيقة) وأخيرا فتح العلبة الغريبة بالمفتاح وأخرج منها شيئا غريب الشكل (الغموض هو أصل الحقيقة) لم أره قبل ذلك أيضا، وتناول الشئ (ما زال مجهولا) فى عناية أشبه بالاجلال (قارن الرصانة قبل ذلك) قائلا: إن هذا هو كمانه، ثم حدثنى بصوت خافت رصين حديثا لم أفهمه (ما زالت اللغة الخاصة من جانب واحد). سالت دموع أبى على خديه، وتملكنى أنا انفعال شديد، وأخيرا طبع على كمانه قبلة رقيقة (ليست هذه آلة وليس ثمة شعور بالنقص أو موهبة مهضومة) ثم مدّه إلىّ لأفعل مثلما فعل (ولم تقل إن كانت قد فعلت أم لا) ثم لاحظ أنى أتمنى لو أرى الآلة عن كثب (كم مرة أعلنت انها رأت داخله قبل ذلك)، فأجلسنى على سرير أمى (كم كان يود أن تفهمه أمها مثلما هى تحاول) ووضع الآلة بين يدى (سلمها نفسه دون أمان كامل) إلا أننى شعرت أنه كان يرتجف خوفا على الآلة أن أكسرها…” “…واستولى على الخوف أنا أيضا، فبادرت أردها إليه، فأعادها إلى علبتها بعناية كبيرة، وأغلق العلبة ثم أرجعها إلى مكانها فى الصندوق، ووعدنى وهو يداعب رأسى أنه “سيرينى” الكمان مرات أخرى كلما كنت عاقلة مطيعة مثلما أنا الآن” (ص:87-86)
المسألة ليست كمانا أو تفوقا فى العزف. إنه بمجرد أن “يريها كمانه دون “عزف” يتحقق بعض ما يعنى، وهولم يعدها أنه ”سيُسمعها عزفه” وإنما فقط “سيريها كمانه” وكأنه يكشف لها عن داخله، عن ذاته الحقيقية.
ديستويفسكى فى نفس العمل قد استعمل نفس الرمز بشأن آلة أخرى فى موقف آخر مع الكسندرين ميخائيلوفنا وهى تعلن لنيتوتشكا إحساسها بقرب النهاية بعد طول المعاناة.
”إن الخريف يتقدم، وقريبا يسقط الثلج، وسأموت أنا عند أول مرة يهطل فيها الثلج، نعم، وإن هذا ليحزن قلبى وداعا”.….، “وقد اقتربت من البيانو تعزف بعض الألحان، فاذا بأحد الأوتار يقطع فجأة..، فيدوى من انقطاعه صوت مباغت امتد ثم انطفأ فى ارتجاف”.
ثم تترجم الكسندرين لنيتوتشكا الأمر مباشرة دون حاجة إلى خدماتنا التفسيرية.
”هل تسمعين يا نيتوتشكا، هل تسمعين، لقد كان هذا الوتر(أنا) مشدودا أكثر مما ينبغى أن يشد (زاد الأمر وضوحاً حتى فاق الفرض) (13) فلم يستطع أن يحتمل فمات (لاحظ كلمة”مات” وليس انقطع) لقد سمعت كيف توجع الصوت وهو يموت (الصوت أيضا ”يموت” بعد أن ”يتوجع”) (ص258).
فاذا كانت المباشرة هنا شديدة الصراحة وألكسندرين هى الوتر، ألا يدعم ذلك الفرض الذى ذهبنا إليه بعناية مسئولة، وهى أن يافيموف هو وكمانه شئ واحد، وأن التفسير النفسى الأدلرى هو أبعد ما يكون عن الاحتمال.
إن هذه الموسيقى لم تكن موسيقى:
”لم تكن تلك أصوات الكمان لقد كانت صراخا دوى فى منزلنا لأول مرة”
”إلا أننى مقتنعة بأننى سمعت آهات وصرخات إنسانية ونحيبا، لقد كان يتفجر من هذه الأنغام ألم فظيع حتى إذا زمجرت نهاية اللحن بدت تلف كل شئ فى آن واحد” (ص:112)
هامش حول العلاقة الثلاثية:
يجدر بنا هنا أن نذكر أن تفاعل يافيموف لموت زوجته كان يشير إلى طبيعة علاقته الشديدة التعقيد بزوجته، فقد بدا لأول وهلة وكأنه يكرهها ويتمنى موتها، حتى انتقلت تلك الأمنية إلى نيتوتشكا وأصبحت تلح عليها مثيرة الألم والخجل والذنب جميعا، ولكنه حين فقدها فى لحظة إعلان عجزه عن الحياة والتواصل (بالمقارنة بالعازف “س”) احتضر معها، ثم كان هروبه وعدوه ثم جنونه حتى الموت مجرد”تحصيل حاصل” حصل منذ أن نعى نفسه بهذا”الاحتضار اليائس” (ص112)، لقد كانت هذه الزوجة المحبة البائسة مرفأ صامتا صابرا حافظت بوجودها- وباعتبارها ” مرمى للكراهية” – حافظت على نصف عقله ونصف جنونه، فلما ذهبت تحرر منها، فجُـن فمات:
”نعم إنها ضربة قاضية، كان يريد أن يهرب من محكمة ضميره ولكنه أصبح الآن لا يستطيع أن يجد ملجأ يهرب إليه” (ص:12.)
ولنا أن نتذكر - أيضا- أنه كان يعقد على موتها آمالا للخلاص نسجها خياله المريض، فلما تحقق الأمل ولم يتحقق الخلاص سقط من شاهق، وديستوفسكى يعلم (ويعلمنا) ذلك:
”لا شئ أفظع من التحرر من فكرة ثابتة وخاصة حين يكون المرء قد وقف عليها حياته كلها” (ص:95).
ولكن هل كان يافموف يحب زوجته؟ إن مفهوم الحب هنا بالمعنى الشائع قد يوحى بالإجابة بالنفى إلا أن مفهوم الحب بمعنى دورها (الأم) فى تغذية حاجة أساسية لوجوده لابد أن يقلب الإجابة إلى الإيجاب.
قبل أن ننتقل إلى الجزء التالى بقيت لدينا دعوة لنظرتين فى العلاقة الثلاثية المعقدة التى لا يصح أن يسطحها التفسير الأوديبى المختزل:
الأولى تتعلق بقسوة الطفل نتيجة للحب الخاص واحتكاره للشخص المحبوب، فهو يفقد مشاعر الرحمة تجاه كل آخر غير محبوبه:
”وأدركت بعد ذلك أن كثيرا من الأطفال قد يفقدون مشاعر الرحمة فقدانا رهيبا، وأنهم إذا أحبوا شخصا أحبوه وحده ولم يعبأوا بمن عداه، فكذلك كانت حالى أنا” (ص:73).
والثانية تتعلق بعلاقة نيتوتشكا بأمها: فظاهر الأمر أنها كانت تخاف منها وتتمنى موتها لإسعاد والدها (طفلها المسكين) وحقيقة الجارى أنها كانت تحبها فى السر (تخفيه عن نفسها أولا):
”رغم كل شئ لا أستطيع أن أمنع نفسى عن حب أمى فى السر” (ص: 73)
بل إنها كانت تأمن إلى رحم حضنها فتنام: ”كان يكفينى أن أشد نفسى إليها وأن أغمض جفنى وأن أعانقها بقوة حتى أنام على الفور” (ص:73)
ويمكن أن نقارن هذا الحضن الآمن الباعث على النوم، بالتصاق آخر بأبيها سبق الحديث عنه (ص:87) لكنه التصاق بعث على اليقظة لا النوم.
فى نفس الوقت كان الخوف - ربما بتأثير أبيها- هو الحائل الأعظم بينها وبين أمها، فأمنية موت الأم الظاهر كانت استجابة لرغبة الأب غير المعلنة، والمتناقضة فى آن، الأب الطفل المستسهل المسكين معاً، التفسير الأوديبى الذى يعتمد على المثلث الأسرى المحكوم بالحب والكره الموزع إستقطابيا بين الوالدين لا يصلح هنا مقارنة بهذا التفسير التركيبى على المستوى الأعمق لتعقد العلاقات المكثفة عل هذا النحو.
وإذ ينتهى الجزء الأول بفقد الوالدين نجد أنفسنا متروكين مع طفلة ملقاة فى الشارع فى إنهاك ومرض وإغماء تبحث عن قدر مجهول.
…………..
ونكمل الأسبوع القادم: ” الجزء الثانى: “من الطفلة الدمية إلى الطفلة النغمة”
[1] – يحيى الرخاوى “تبادل الأقنعة” (دراسة في سيكولوجية النقد) الهيئة العامة لقصور الثقافة (2006)
[2] – الأعمال الأدبية الكاملة لدوستويفسكى – دار ابن رشد – 1985
[3] – يبدو أن ديستويفسكى قد وعى بحدس فائق معنى هذا الالتصاق” الحسى” للطفل فقد كرره فى أكثر من موقع مع اختلاف التعابير والظروف: مثلا: فى البطل الصغير” .. وكدت ابكى وأنا اشد نفسى اليها من فرط ازدحام المشاعر” (البطل الصغير 618) – يبدو أن هذا الالتصاق الحسى يذكرنا “بحماية الرحم” قبل لذة الالتحام الجنسى( الذى قد يكون هو ذاته رمز للحماية الرحمية بالالتحام متبادلا مع الولادة فى إيقاع المضاجعة).
[4] – قد يشير هذا الاختلاف النوعى فى الادراك الى نوعى الادراك الذى وضعتها فى عمل سابق” دليل الطالب الذكى فى علم النفس” أحدهما سلبى “تصلنى من الخاريج” والآخر ايجابى “أفكر واحلم” رغم أن غلبة الإدراك الجديد هنا اصطبغت بقيم “الوالد” المختزنة الجاهزة داخل نيتوتشكا (بقية ص67).
[5] – رغم فضل “إريك بيرن” فى التنبيه الى هذا التنظيم التركيبى، فقد تعمدت الا أذكره تحديدا، خوفا من التمادى فى التسطيح والاختزال اللذين لحقا بنظريته”التحليل التفاعلاتىTransactionl analysis”، كذلك فان التنظيم التركيبى قد تتعدد فيه الصور الوالدية وغيرها الى ما لا نهاية بما ينبهنا الى الحذر أكثر فأكثر من التقسيم الثلاثى المشهور فى هذه النظرية.
[6]- سأعود اليها فى أعمال لاحقة.
[7] – onset of the onsetدراسة فى علم السيكوباثولوجى ص 168،358،430
[8] – مع أن أغلبنا – مع التربية النمطية – ينساها أو يتناساها حتى ينساها.
[9] – دراسة فى علم السيكوباثولوجى (ص 361) “الذى يحدث هو أنه بعد هذه اللحظة يبدأ الطفل (أو الشخص الناضج فى خبرات النمو أو المرض اللاحقة) فى تحديدها كان قبل ذلك مما لم يكن بهذا الوضوح، وهذا ما اسميناه “سبق التوقيت” أى انه يعطى بداية سابقة لأحداث جارية، أو ماضيه، سابقة لما كان – وكنا – نحسب لها قبل هذه اللحظة”.
[10] – من هنا يمكن اعادة النظر فى وجه الشبه (الذى أشار اليه الكسندر سولوفييف) بين يافيموف هنا وبين كرايزلر( بطل هوفمان) أوشخصية جامبارا(بلزاك) – لا من حيث وجود عقدة نقص نتيجة للفشل ومحاولة تعويضها ولكن باعتبار دلالة ما ترمز إليه الآلة الموسيقية الغامضة أو الساحرة عند الثلاثة، ومن الحاجة الى التواصل الأنغامى الأعمق، وهذا ماجعل كرايزلر وهو شبه مجنون “سحر” بآلة “شيطانية”، وجعل جامبارا يطوف أوروبا كلها يحاول أن يخلق موسيقى جديدة ثم يعجز عن أن يجد من يفهمه فيهوى الى ” الجنون” المشكلة إذن عند كل هؤلاء (وربما عند نجيب محفوط فى حديثه عن أتغام أناشيد التكية فى الحرافيش هى فى اعلان عجز اللغة السائدة(اللفظ) أو الممكنة(هنا: الكلارينيت) عن تحقيق وظيفة التواصل الحامية ضد الجنون، ومن ثم يظهر دور الالة الشيطانية، أو الموسيقى الجدية، أو الكيان المعشوق…. الخ.
[11] – يمكن أيضا مقارنة مونودراما بارتيك زوسكند (مؤلف العطر) بعنوان الكنترباس، فى علاقة الخارج بالداخل، بالآلة الموسيقية ذات الدلالة الخاصة.
[12] – ما بين لأقواس هو إضافة للنص لتوضيح ما ذهب إليه الفرض النقدى فى هذه الدراسة.
[13] – مازال ما بين الأقواس مضافا للنص المقتطف من المتن.