نشرة “الإنسان والتطور”
الأثنين: 8-6-2020
السنة الثالثة عشرة
العدد: 4664
من كتاب:
الترحال الثانى: “الموت والحنين” (1)
الفصل الثانى: “ويا ليتنى أستطيب العمى!” (16 من ؟)
…………………..
…………………..
أعلم يقينا أنه لا الركن ولا الرحم، ولا الموت يستطيع أن يحل مشكلة القهر، والسلطة، والإعاقة، وأن من لا يتمكن من إدارة معركته على أرضه فى عز عنفوانه فلا سبيل إلى تصور أنه سيفعلها على أرض غيره، ومع ذلك فأنا لا أحرم نفسى من حقى فى أن أحلم “برحمٍ ما” لحين أستقر فى جوف الرحم الأوسع وقتما يشاء فى حينه ولكنى لم أكن أتصور أن حاجتى إلى الاطمئنان لوجود هذا الرحم سوف تتمادى الى الحلم: بكوخ – مِلك – فى بلاد الفرنجة” هكذا،بهذا التكرار، طول الوقت.
أسترجع ما قالته لى ابنتى فى “نيس” حول تفكيرها فى الهجرة، ثم كيف عدلتْ بعد حادث السرقة فى “فيل نيف” فى شاطئ الزير (الكوتدازير). أتصور أن الحرية المزعومة فى بلاد الفرنجة هى خدعة أكبر من كل تصور، فإن كنت أخاف من قمع حريتى فى نشر كلمة، أو إبداء رأى، فى بلدى، فى يوم ما لم يأت بعد، فإن حرية المشى ليلا، وحرية إمكانية التخلص من وصاية الإعلان، ووصاية التليفزيون، ووصاية شركات التأمين وغير ذلك هى كلها حريات غير قائمة فى بلاد الخواجات المتقدمة. إن هذا الحنين إلى حرية أخرى، أو ركن كهف واعد، مرتبط بعجزى عن أن أنفصل عن مشاكل ناسى ومرحلتى، يختلط عندى العام بالخاص، حتى لا أميز.
موقفى السياسى موقف فردى خائب، لم أترك فرصة أعلن فيها رأىى إلا فعلت، ولم ُيُنشر لى رأى حقيقى واضح إلا إذا ابلغ من الغموض ألا يفهمه رئيس التحرير الذى ينشره، أو لعله يتمتع بالقدر من الشجاعة الذى يسمح له بالتغابى، وحين تضيق بى الصحف، القومية والمعارضة، وترفض كلماتى أنشرها فى مجلة مجهولة أرأس تحريرها منذ عشرين سنة، هى مجلة “الانسان والتطور”، وأحيانا أختبئ فيما أسميه تجاوزا :شعرا”.
عندما حدثت “هوجة” الأمن المركزى فى بلدنا (28/2/1986)، ومنعونا من التجول فى القاهرة، ضجر الناس و ضجوا، وقد أهاجنى هذا الحادث واعتبرته نذيرا ضخماً لأمر ما، أنا أعرف مدى استثارتى حين تعجز الكتابة العادية عن استيعاب دفعة انفعالى، فيهيج شعرى ضد اعتراضى عليه، وعلى مستواه، نظرا لبصيرتى أنه ليس أحسن أدواتى، لكننى على الأقل أكتشف أزمتى من خلاله، قلت فى هذا الانفجار وكأنه يعنى سقوط الأقنعة والثورة ضد النمطية الدائرة.، أذكر ما يناسب حالتى الآن، وقد يفسر الحنين المتواصل إلى الركن القصى.
ـ 1 ـ
………..
طلاسِمُ المعادلة،
والنّسَمَةُ البلهاءُ تاهَتْ فى سَحَابَة الملاَحَقَهْ.
………..
………..
-5-
أُمِرْنا بليلٍ
يَمُوُت الأملْ
ـ 6 ـ
تململـتْ رسالة مغلّفة
من حول ساق الزاجلِ
[حُلْمُ لاح لعيَن السَّاهر ]
وهمسُة شاَرِدُة تَقنفدَتَ
………..
لفّ الدثارَ أحكم المراوغهْ
تمزقت رسالة مـُنـْتـَهكـْة،
تطايرت أوراقها
[حلمٌ ضاعَ بدربِ الثائرِ] ……إلخ
حكاية الثورة والحرية أصبحت غير ملائمة لحاجة الإنسان المعاصر، هذه البضاعة المعروضة من حوانيتهم ليست مطلبى،
لا أريدها، ولا أستطيع الاستغناء عنها،
بديلها هو القهر بلا حدود، وهى فى نفس الوقت لا تساوى عندى شيئا،
فما العمل؟
أتذكر كيف كنا فى نيويورك، أو حتى سان فرنسيسكو، نسرع الخطى للعودة للفندق قبل الساعة 8 مساء، فرارا من خطر التجوال بعد ذلك (دون طوارئ ودون قرار منع التجول) وإلا تعرضنا للنهب أو ما هو أخطر، ولا أظن أن هذا حرية أو حضارة. أنا لا أميل إلى اعتبار هذه الحكومات المتحضرة بريئة مما يحدث فى شوارعها، باعتبار أن السود وقطاع الطرق الآخرين من السكارى والعاطلين والمجرمين هم المسئولون عن الإغارة على “حرية التجول” هذه، الدولة الأضعف من التحكم فى سلوك أفرادها هى مشارِكة فى نتائج هذا السلوك على حرية المواطنين والزائرين على حد سواء .
ماذا يفيد الرجل الحر أن “يقول” ما يشاء وسط إرهاب دعائى إعلامى يسجنه فى حدود ما يراد تماما، وماذا يفيدنى أن أتصور أنى حر التفكير وأنا لا أستطيع أن أمشى فى الشارع حرصا على حياتى، وقروشى، فأتوارى مقهورا بعد المغرب فى بلاد الحرية؟ وأفيق من جديد على تعدد أشكال القهر بقدر تعدد أوهام الحرية.
هكذا اكتشفتُ أننى أعيش أوهام الحرية والأمل فيها أكثر مما أمارسها،
أنا حين أحسب أن كوخا فى بلاد الفرنجة ينتظرنى عند اللزوم ليحمينى من القهر، أو أن هجرة واعدة قد تسمح لى بمساحة أكبر فى الحركة، لا أمارس إلا الوعد بحرية زائفة، فهى ليست إلا “حرية” عدم الانتماء ” لا أكثر ولا أقل، إنها دعوة أن أعيش بين ناس لست مسئولا عن مشاكلهم وآلامهم، فأتصور أنى حر.، حرٌ بالتخلّى، هناك ، أستطيع أن أستدفئ بظلام كهفىّ، فى حين أنى أكون قد اخترت التعجيل بنهايتى.
من ذا الذى يستطيع أن “ينشر” رأيه فى بلاد غير بلاده، بلغة غير لغته، دون أن ينحاز لهذا الفريق أو ذاك، ممن لا ينتمى إليهم أصلا.
أُدرك من خلال تعرية تبريراتى الهروبية بهذا الوضوح أنه حتى العلم ليس محايدا أبدا، ولن يكون كذلك أبدا. راجع التمويل.
ولكن: ماذا أقول فى بلدى أكثر من عدة فقاعات كلام أو كتابة قد تطفو أو لا تطفو على سطح المسيرة، تتفجر طاقة أو لا تتفجر حسب حسابات صعبة، ليست فى متناوَل تحكمى، ولا هى فى متناوَل أى فرد واحد أو شعب واحد مهما بدا دوره واعدا.
نصل الى منزل فرانسواز ونجد والدها وأخاها فى انتظارنا. يقودنا المضيفون إلى “المنزل” عبر ممر طويل وهو ليس منزلا لزوجين حديثين بقدر ما هو “مشروع” مصغر، يأوى أمل شابين، قانعين شجاعين، وهذا المشروع يقبع أغلبه تحت السلم، فهو مكون من حجرة واحدة كالحُق، بها منضدة متوسطة تكاد تملؤها، فاصطففنا حولها بالكاد، وبجوار الحجرة “فكرة” مطبخٍ ما يسع موقدا ما، يعلوه سلم خشبى يصل إلى حجرة نوم فوق الاثنين.
أعجب أن الطفـلة الحامل وزوجها لا يشعران بأى حرج من استضافتنا هكذا هنا، بل إن فرانسواز تدعونا لرؤية حجرة نومها، وهى فخورة، دون خوف من احتمال تصدع السلم أو عدم اتساع الحجرة، وتفهم زوجتى وابنتاى أهمية هذه “الفرجة” لعروس صديقة، وأعتذر، ويدور الحديث عن جمال البيت كأنه القصر المنيف!!! وأتعجب لهذا الرضا بهذه البداية التى لا تؤجِّل الزواج، وتقول لى ابنتى ونحن عائدون أن الرضا ليس نابعا من حسن استغلال ضيق المكان فحسب، بل من التأكد من إمكانية تغييره متى ألحّت الحاجة وتغيرت الإمكانيات، فى ظروف متكاملة، فما دامت الفرص متاحة ومتنوعة، والإمكانيات متزايدة، فإن أى بداية واردة لأنها ليست نهاية، أما عندنا فالمنزل – إن وجد – هو البداية والنهاية حتما، وتدافع ابنتى بأن المسألة عندنا ليست دلع شبان، لكنها الخوف من جمود الحركة وقلة الفرص، وتخبرنى – مثلا – أن فرانسواز قالت لها إنهما سينتقلان قريبا الى منزل آخر بمناسبة قدوم الطفل الجديد، فالمكان تُحدد سعته حقيقة استعمالاته، والحاجة الحاضرة، وهو يتجدد أو يتغيّربتجدد الظروف والاحتيجات والإمكانات..
أراجع عدد الحجرات التى لا تستعمل عندنا، وعدد الساعات التى لا تمتلىء، وعدد الأمخاخ التى لا تفكر، وعدد طبقات الوعى التى لا تُخترق، وأشعر أن الفاقد عندنا أكبر من كل تصور، ثم إن اختفاء الأمل فى أى حركة إلى أحسن، هو دعوة للجمود من البداية.
أتذكر كيف كان والدى فى طنطا يترك الشقة التى نسكنها أثناء شهور الصيف توفيرا لإيجارها الذى لا يتعدى ثلاثة جنيهات شهريا، وكان والدى يُحضر جملا أو اثنين من البلدة ليحمل عليهما “العزال” (عدة مراتب وأغطية وسريرين حديد أسود، وصيوان مفكك) وأذكر أننا كنا نفرش حجرتين فحسب، وتبقى حجرة خالية، فـنرص فيها الأحذية والشباشب، حتى أسميناها “أودة الجزم”.
فى تلك الأيام كنا نشترى نصف أقة “الـدِّعْدِع” بخمسة تعريفة، والـدِّعْدِع هو البقايا المتناثرة من قلىْ الكفتة، يبيعها الحاتى- بدلا من أن يرميها- لمن لا يقدر أن يشترى الكفتة السليمة ، فتصبح غموسا به رائحة الشواء وعرقه بشكل غامر، كان هناك شئ اسمه “قيمة الشىء” كان لكل شئ قيمة، فلا تـُلقى ورقة بيضاء تصلح للكتابة، وبقايا الرغيف نعمة من يرميها قد يحرمه الله من استمرارها.
أفيق على حديث والد فرانسواز عن فشل ميتران فى أن يحقق آمال الطبقة العاملة وعموم الشعب، وهو، والد فرانسواز، قد انتخبه، لكنه ينوى أن يُفشله حتما ليقف عند حده، وأتعجب لفشل الحكومات الاشتراكية (وليس بالضرورة الحل الاشتراكى) فى إقناع الناس، عامة الناس بأنها الأفضل، ولا أظن أن المشكلة الآن هى فى الترجيح ما بين الحل الاشتراكى والحل الرأسمالى بقدر ما هى فى ترجيح النظام الذى يمنع “الفاقد” بكل صوره فى كل موقع، وأطرد عن أذنى وعقلى هذا الاستدراج الذى حرمنى من لحظات أدق وأرق.
لا أستطيع إلا أن أحترم هذاالنظام الذى يجعل هذا الرجل “الاشتراكى” الطيب (والد فرانسواز) يقول بكل ثقة أنه – شخصيا – هو الذى أتى بميتران، وأنه سوف يخلعه، يا صلاة النبى، هذا هو الكلام ، هو لم يقل: أتينا به، وسوف نخلعه، لم يستعمل صيغة الجمع، وإنما: أنا انتخبتُه، وأنا سوف أُفشله، أما نحن فليس عندنا إلا: “إحنا اخترناك، وحانمشى وراك”، ونظل نمشى وراء كائنٍ من كان دون حتى أن نسأل إلى أىن،
أذكر فى بداية الثورة أن “أحمد أبو الفتح ” كتب عدة مقالات بعنوان “إلى أىن؟” ، وقامت الدنيا ولم تقعد إلا على رأسه هو وعائلته وصحيفته، إلى أين يا حمار ؟ هل أنت أعمى؟ هل هذا يصح؟ إلى أين؟ يا بجاحتك ياأخى !! ألا تعرف إلى أين؟
ثم كان ما كان.
ولم يجب أحد على السؤال حتى الآن.
أقمع نفسى للمرة المليون. قف.انتبه لما حولك ومن حولك فى ضواحى باريس،
الإجابة ليس أسهل منها،
إلى أين؟
إلى محطة القطار لنستقلّه عائدين إلى باريس.
ونحن فى طريق العودة يصحبنا الوالد والمضيفون، جعلت أتابع علاقة والد فرانسواز العجوز الطيب المتفجر حيوية، ببنتىّ منى، ومَىْ، وعلاقتهما به، فأشعر به والدا طيبا يكلم منى كأنها ابنته من ظهره، ياحلاوة، أخيرا وجدتُ من يتبنى بناتى كما أتبنى بنات الناس، هذا طيب، وهذا بعض فائدة الانفتاح الرحلاتى.
تعدد الآباء ـ عندى ـ من أهم معالم التربية الحقيقية، وعندما تقول فى بلدنا للعم والخال ومن فى مقامهما “آبا” فلان، فإننا نوسع دائرة الأبوة بدلا من حكاية “أونكل” و “عمو” خيبهم الله.
كنت قد قمت بمغامرة مع أولادى فى هذه المنطقة منذ أربع عشرة سنة (سنة 1972 فى عز حماس الأمل فى التغيير) . شجبت لفظى “بابا” و”ماما” لأحل محلهما لفظى “أمّا” و “آبا”. أصدرت هذا الفرمان بشكل حاسم فاستجاب الأولاد وما كان يمكنهم غير ذلك، ولكنى التقطت بعد ذلك بسنوات همسا يشير إلى أنهم أحيانا ما يخفون هذا “الشذوذ” عن أصدقائهم وزملائهم ـ فأواصل إصرارى مهما كان الثمن.
ذات مرة، بعد سنوات طوال، (أظن سنة 1983) تباحثوا فيما بينهم، وفكّروا أن يرجعوا إلى اللفظ العام “بابا”/”ماما”، وافقتُ على مضض نتيجة إجماعهم، مع أن الفرمان كان ساريا لمدة سنوات طويلة طول الوقت كما ذكرت، وما إن نادانى أحدهم: “بابا” حتى استقبلتُ اللفظ كأنه “طوبة” صكت وعيى، لم أعرف ماذا جرى لى، ولم أتراجع عن موافقتى، لكن الأولاد كانوا قد كبروا وشعروا بما بى، وكأنى بموافقتى على التراجع إنما أعلن هزيمتى وفشل محاولتى أن أتجاوز ما فرضته علينا الحملة الفرنسية فالاحتلال الانجليزى حتى فى أدق ما ننادى به أهلنا، فيشفقون علىّ قبل أن أعلن أننى لم أعد أحتاج منهم أن ينادونى لا بابا، ولا آبا، ولا أبويا، ولا شئ إطلاقا. فتراجعوا هم وحدهم رحمة بى وقد وصلهم كل هذا دون أن أقوله، هذا على الرغم من أنى كنت أنادى أمى أمامهم بـ “ماما”، كما أنى ما زلت أذكرها أيضا بـ “ماما” كما تعودتُ منذ أكثر من ستين عاما،
أىُّ مفارقة؟!! أنا صاحب الفرمان أقول “بابا” و”ماما”، وهم المساكين ممنوعون، أى سخف، وأى ورطة َ!!
وما زال الحال كما اعتادوا، وكما اعتدت: أبويا وأمى، بلا تراجع، فات الأوان (أغسطس 2000).
أعود إلى “آبا جبرييل (والد فرانسواز) وأتابع حديثه مع بناتى، ثم ننصرف شاكرين فرحين داعين إياهم لزيارة بلدنا وهم السابقون بالفضل،
كنا نزمع زيارة أم فرانسواز فى ضاحية قريبة، ولكن فى الطريق يستأذن الوالد و ينتحى بابنتى الكبيرة جانبا، ويسر إليها أمرا وهو يحرك ذراعيه شارحا مُسهبا، فتومئ برأسها، ثم تعود قائلة أننا سنتوجه الى مترو الـ RR مباشرة، دون أن نزور منزل الأب.
نفهم بعد ذلك أنه كان يعتذر لها بمرض زوجته لأنها (زوجته) لا تستطيع أن تستقبلنا الآن . تحكى لى ابنتى أنه ليس مرضا طارئا، وأنها كانت قد لا حظت بعض مظاهره خلال زيارتيها السابقتين، وأتاكد من جديد من علاقة ابنتى بوالدها هذا الخواجة، وأحترم أنه أسرّ إليها دوننا، واتعلم الجديد المفيد.
الثلاثاء 11 سبتمبر 1984
غدا رحيلنا عن باريس.
قررت آن أجالس نفسى فى الفندق طوال الفترة الصباحية، علنى أعيد ترتيب أمورى، داخل دماغى، وأواصل حوارى معى فيما قد يجمعنى فى قرار، أو يوضح لى موقفا، أو يوجه خطوة، أو يستوعبنى فى مراجعة.
بعد انصراف الأولاد، أخرجت قلما وورقة، وجعلت أكتب وأكتب مدة لا أعرف مداها، ثم نظرت فإذا بشخبطة هائلة، وخطوط بلا معنى.
كلمات متناثرة فى غير جملة مفيدة.
ابتسمت . هذا هو “القرار”!!
ثم أنتبه على صوت رنين التليفون فإذا به “بيير” ابن السيدة كومباليزييه يشكرنى على هدية الشطرنج التى تركتها له عند أمه بعد زيارة أمس، يا للذوق.
يدق التليفون ثانية، فأعجب وكأنى فى مصر فإذا به العميدا.د.بورتوس إبن شبرا، يخبرنى أنه فشل أن يفعل شيئا لابنى هذا العام، فأشعر براحة شديدة ضد ظاهر حرصى على إجابة مطلبى، أشكره وأرتد غوصا إلى قاع اللحظة متسائلا: أنا مالى، مالى بهذا الابن أو بغيره، وماذا سيفعل لى بدراسته هنا أو هناك.
لا أتمادى فقد عرفت مدى كذبى فى كل هذا مهما كررت، ولكنى لا أكف عن التكرار، لعلنى لا أفقد الأمل فى أن أستوعب يوما ما أردده هكذا.
ربما يثبت أن هذا الكذب هو الحقيقةَ الأولى بالرعاية.
ثم آمل أن أتمادى فى هذا الكذب حتى أصدقه، ثم أستطيع أن أنفذه.
لا أكف عن الطمع فى أن يتجمع تراكم الرؤية، مع مواصلة إلاصرار، وتحمل الحيرة، فأجد كلمة بسيطة جدا تشير إلى بديل حقيقى.
أولادى لن يحلّوا إشكال وجودى.
أعرف ذلك جيدا.
ودّعنا باريس،
واتفقنا على الرحيل المبكر.
أنا الذى سأوقظهم هذه المرّة.
مسحراتى ،مسحراتى، من أجل خاطر البكور.
…………..
…………..
ونستكمل الأسبوع القادم
[1] – المقتطف من الترحال الثانى: “الموت والحنين” (الطبعة الأولى 2000)، وتتضمن ترحالات يحيى الرخاوى أيضا (الترحال الأول: الناس والطريق) و(الترحال الثالث: ذكر ما لاينقال) منشورات جمعية الطب النفسى التطورى، والكتاب موجود فى الطبعة الورقية فى مكتبة الأنجلو المصرية وفى منفذ مستشفى دار المقطم للصحة النفسية شارع 10، وفى مركز الرخاوى للتدريب والبحوث: 24 شارع 18 من شارع 9 مدينة المقطم، كما يوجد أيضا حاليا بموقع المؤلف، وهذا هو الرابط www.rakhawy.net