نشرة “الإنسان والتطور”
الأثنين: 24-2-2020
السنة الثالثة عشرة
العدد: 4559
من كتاب:
الترحال الثانى: “الموت والحنين” (1)
قبل الفصل الأول “سفرٌ آخر” (1 من ؟)
مقدمة الترحال الثانى
لم تنته الرحلة الأصلية مع الأولاد إلى الناس على الطريق. وهى ممتدة فى هذا الترحال الثانى. لكن ما بين وقت الرحلة، وبين ما جدّ أثناء كتابتها حدثت أشياء، وتحدث أشياء، كان لا يمكن إلا رصدها، فلم تعد المسألة تقع بين أدب الرحلات وأدب السيرة الذاتية، تجاوز، هذا العمل هذا وذاك إلى ما أسميته “أدب المكاشفة”، وهو ليس مرادفا بالضرورة لأدب الاعتراف.
يتبيّن لى مع نمو هذا العمل أن أدب المكاشفة – إن صحّت التسمية- هو نوع من السيرة الذاتية “الآنيّة”، ذلك أنه بدا لى أنه لا معنى للحديث عن الماضى باعتباره مضى، أما الماضى الحاَضر فينا الآن فهو الأصدق والأهم.
أنا لا أومن بالتاريخ مصدرا للمعلومات، لكنه قد يصلح إشارات جيّدة لما تـَبـَقـّى فينا من حضور فاعل، أو خامل.
إن ما تجلّى لى من خلال مُثيرات السفر فى بلاد الله لخلق الله، من ذكريات وتداعيات ومواجهات، ليس له معنى ولا مبرر لحكيه إلا إذا كان مُطِـلقا لما يمكن أن يتكشف لى، فأبوح به مما وصلنى من طبقات الوعى المتاح.
سفر آخر فرض نفسه على بداية هذا الترحال الثانى، فغاص بى إلى طبقات أعمق، لم يخل منها الجزء الأول، لكن للرحيل بلا عودة شأن آخر.
فقد رحل عنا والد ابنتىّ اللتين رافقتانا “فى الجزء الأول: مايسة السعيد، ومنى السعيد. هو المرحوم الأستاذ الدكتور السعيد الرازقى حدث هذا وأنا لم أنته من كتابة رحلتنا الأساسية فتداخلت مواكبتى له فى سفر آخر، مع مواكبتى صحبة بنتينا وبقية أولادى وزوجتى رفقاء السفر الأول، ثم عجِلَ هو إليه دونى.
ثـم وأنا أراجع التجربة (البروفة) الأخيرة رحل عزيز آخر، قلّب عندى أكثر معانى الرحيل الآخر، هو د.حلمى نمر.
أما الحنين الذى ألقى بظلاله على معظم هذا الترحال، فهو يتمثل فى الإلحاح المعاِود للاستجابة لجذب الركن الصغير القصىّ الواعد، هو حنين قد يعنى التمهيد للرحيل الآخر، أو هو الذى يلوّح بوعدٍ بالولادة الجديدة.
أكتشف فى هذا الترحال الثانى، وبالذات من خلال الحنين إلى “الركن” الذى ألحّ بشكل متكرر، أكتشف سر ما يسمى “برنامج الذهاب والعودة”، جوهر حركية الوجود.
فحاولت أن أكاشفكم بما كان. قدر المستطاع.
****
……حتى المذكَّرة الصغيرة التى سجلتُ فيها (بعد وصولى) التواريخ، وبضع كلمات عن كل يوم، هذه المذكرة غابت، وكأنها تعمدت الغياب، بعد أن علمت تغير المزاج، وصعوبة العودة، ولم يعد ثمَّ وقت للبحث عن شئ يبدو وكأنه لم تعد له أهمية فى الواقع. فالوقت غير الوقت، والإيقاع غير الإيقاع، وإن كان الالتزام واحدا، والورطة أشد.
كنت أنوى أن أسافر معهم هذا الصيف (1985) فى رحلة قصيرة أثبـّت فيها ماجرى، أو أختبره. ولكننى عزفتُ حسما، وقبل أن يحدث ماحدث؛ ذلك أنى خفت أن أشّوه موقفى من السفر بالوقوع فى استدراج الاعتياد الترفيهى السخيف، كما خفت على الأولاد أن ينسوا حين تستدرجنا العادة، تحت وهم أملٍ فى فائدة مرجوة من مواصلة التعرى فى مواجهة حضارة (ثقافة) أخرى، وناس أُخـَر، وعادات أخرى، وإيقاع آخر. أقول: إننى خفت منى، وعليهم، خفت من تسحب العادة، فالرفاهية، فالنسيان، فالاغتراب، فالعزلة عن الناس، ثم تصورُ الحق الخاص من الموقع الفوقى الأخص. خفت حتى أننى لم أستطع أن أستجيب إلى رغبتهم ورغبتى، على الرغم من الإلحاح، أنا- حتى الآن- شديد اليقظة لألاعيب التبرير التى يبرر بها أمثالى مثل هذه الأسفار، سواء تحت دعوى “الحق فى الراحة” (قال “ماذا”؟)، بعد طول عناء!!. أم تحت دعوى (منظرة) المؤتمرات العلمية (السياحية الدعائية الاجتماعية)!! إلخ، وأخيرا تحت دعوى: فرصة “للحوار” الحضارى. (!!) فقلت: “لا”، لا سفر الآن، على الأقل حتى أنهى كتابة (معايشة) ما كان فى الرحلة السابقة بما أنا فيه الآن، ثم نرى.
فجأة، حدث ماحدث،
فوجدت نفسى فى الخارج هذا الصيف، (صيف 85)، لكن الصحبة غير الصحبة، والسبب غير السبب، فى بلد غير البلد ،فرض سفرٌ آخر نفسه علىّ مع صديق رحـَلَ متعجّلا،
……. بدأت الأحداث المفاجأة فى يوليو 1985، وكنت بمحض الصدفة قد انتهيت مبكرا من كتابة الفصل السابق من هذه الرحلة (الفصل الأخير من الترحال الأول) فحمدت الله أنه قد نفذ بالكاد من تحمل وطأة ما حل بى، منذ أن حدث ما حدث. حمدت الله أننى لم أضطر، وقتئذ وأنا فى تلك الحال، إلى الالتزام بالإمساك بالقلم، أحركه كطن من الرصاص، أو أمسكه وقد تلبست أصابعى وعقلى ووجدانى جميعا بقفازات من الجبس الأسود.
لكن يبدو أننى استطعت أن أتسحب من ورائى؛ لأعاود حركة القلم، بدءا من القيام بالتزاماتى الراتبة منتهيا إلى التقاطات إشراقات البعث، على الرغم من دوام نفس الأحوال .
فما هذه الأحوال؟
لى صديق أصيب بمرض نذل خفى، فوجدتُ نفسى بجواره جدا، مثل زمان. ثم تطورت الأمور بسرعة أكبر، فوجدت نفسى مسافرا بجواره أكثر؛ حيث تصورنا – هو وأنـا – أن ثمة رؤية علمية طبية فى الخارج أدق، وأن ثمة فرصة علاجية أنجع.
سافرنا فجأة، هو، و.. أنا.
سافرتُ وأنا أشعر بعكس كل ما تعودت أن ألقى به السفر، هو يستند على جذعه دونى، بجهد جهيد، بل يكاد يطيـّب خاطرى ويطمئننى، وليس العكس، فهو (أيضا) لم يستطع أن ينسى موقفه الأبوى المزمن الذى تلبّسه مُنذ كان طفلا، وهو لم يكن أبدا طفلا، و”أنا” أسير بجواره أتصور أنى أسانده، أو أسنده، فلا أفعل شيئا إلا أن يعتصرنى الألم بجواره، عاجزا، خائبا، لا أجرؤ على إعلان رفض المرض والعجز، ولا على قبولهما، فأكتشف خداعى لنفسى بعد طول ادعاء. فكم تصورت أنى أهيئ نفسى طول الوقت للنهاية الطبيعية لدورة حياة الفرد البشرى، وقد كان هذا هو حديثـنا المفضل معا فى وقت غير الوقت، حين كنا بعيدين عن المواجهة الصريحة لما نتحدّث عنه: “النهاية”.
حين وقعت الفأس فى الرأس: واجهْنا الاختبار الحقيقى، فإذا بنا نفاجأ بأننا نستغرب ما ليس غريبا، ليس غريبا بحكم مهنتنا، وليس غريبا بحكم ما نزعم من حكمة وبصيرة!!، فأىة غرابة فى المرض ونحن أطباء؟ وأىة غرابة فى العجز ونحن بشر؟ بل أىة غرابة فى الموت نفسه ونحن أحياء = كيانات بيولوجية محدودة العمر مهما طال؟. هل نحن غير الناس؟
نكتشف كم أن هذا الوهم كامنٌ داخل داخلنا دون أن ندرى: نحن – فعلا – نعتقد “أننا غير الناس”. أية خدعة!! أى كذب.
ضبطت نفسى متلبسا بذلك حين عدت مكسورا من هذه الرحلة بعد أن تبيّن ما تبين، وجعلت أسأل “حكيمة” صديقة، تعرف صديقى هذا، وكم أنه كريم طيب خدُوم عالم. طبيب حاذق رحيم … إلخ، جعلت أسألها محتجا، وكأنى أسأل نفسى، أو ربى، بصوت مسموع،
جعلت أسألها محتجا، وكأنى أسأل نفسى، أو ربى، بصوت مسموع:
“يا ست نعيمة، إشمعنى.. سعيد؟!،
فتفاجئنى- بإيمان المصريين البسطاء – برد شديد الدلالة:
و”اشمعنى غيرُه”؟!،
……….
ثم أصبح يختلط مع الدهشة نوع من الخجل اليقظ الطيب، فعلا:
” إشمعنى غيره؟ واشمعنى غيرى؟“
(15 ديسمبر 1985)
فأفقت ُفجأة، ثم طويلا،
وكلما عاودتنى الجملة دهشت لها وكأنى أسمعها طازجة تقال بصوت واضح لأول مرة. فأدهش من جديد، ثم أصبح يختلط مع الدهشة نوع من الخجل اليقظ الطيب، فعلا: إشمعنى غيره، واشمعنى غيرى؟
كلما اتعصرت ساخطا، أو حزنتُ مغيظا تذكرتكِ يا ست نعيمة وشكرتك وأنا أردد: “واشمعنى غيره”؟ لماذ نتصور، نحن الأطباء، أو أى “نحن”: أن لنا قوانين خاصة، وأمراضا خاصة، وعلاجات خاصة؟ ماذا فينا يستثنينا؟
كانت هذه حالى، لكنها لم تكن هى حال صديقى تماما، فهو أرق صبرا، وأعمق إيمانا، لكنه بشر طيب، وطبيب أستاذ، وأستاذ قدير، وتخصُّصه يكاد يكون فى نفس ما أصابه، مما لم نكن نعرف “تحديدا” قبيل السفر، وإن كنت ـ للأسف ـ كنت أعرف عن طبيعة ما أصابه أكثر منه.
صديقى هذا هو والد ابنتّى اللتين صاحبتانا فى الرحلة التى أكتبها الآن عن “الناس والطريق”، وقد كان حاضرا معنا طول الرحلة بشكل ما. حيث كنا نتذكره، ونسترشد بحكمته، ونرفض فرط تعقله، وندعوا له، ونتوعده، أنــا وابنته الصغرى”منى”، حين كنت أجرى بجوارها (فقد كنا ـ نحن الاثنين ـ نفضل الجرى على السير ما أتيحت الفرصة…). كانت هذه الصغيرة تذّكرنى أنها حين تعود، ستجعل والدها يغيـّر كثيرا مما “هو فيه”، فأقول فى نفسى: “بل مما اضطـُـر أن يكونه”، وأتساءل: أية فرصة فارقة بيننا وبين أولادنا؟ ولا أقبل أن أتصور أنهم (أولادنا) أحسن منا. قد يكونون أوفر حظا، لكنهم أقل ألما شريفا؛.
يبدو لى أن الألم- بجرعة مناسبة- هو حق لـلبشر مثل الدعة سواء بسواء، لكن يبدو أيضا أن نصيبنا- صديقى وأنا- من الألم والنسيان والإهمال كان أكبر من حقنا. وقد كنت أعلم ذلك وأخفيه طول الوقت، فكنت حين أنطلق، أو حين أصور للجميع أنى منطلق، كنت أفعل ذلك “إلا قليلا”، أو… (ولا تقل لأحد) … إلا كثيرا. نعم، يتسحبُ بعيدا عنى ذلك الفرح الطفلى بسرعة وكأنه يتوارى خجلا أمام ذلك الجزء الغائص فى جوف وجودى، ذلك الجزء الحزين القابع وراء كل شىء، هذا الحزن المتربص يظل يجذبنى ضد كل فرحة، وحين تصورت أنى تغلبتُ عليه، أو على الأقل روّضته، عاد يلاحقنى، أو يتبعنى خلف كل انطلاق، وكل فرح، وكل ضحكة. فهو لم ينسنى أبدا، فلم أنسـَهُ مرغـما، بل إنى أصاحبه حتى الائتناس.
أسأل صديقى هذا وقد عضنا الألم وعصرنا العجز، فرحنا نقطر مرارة على الرغم من ظاهر الابتسام. أسأله، فيجيبنى بحكمته المفرطة التى استسلم لها طول عمره (كارها إياها… دون أن يدرى). يقول لى ونحن نسير ببطء يعلن ثقل همومنا على سيقاننا، وهو يميل بأحد كتفيه ميلا خفيفا إلى ناحية (عادة أعرفها عنه من قديم، وليست بسبب ما أصابه مؤخراً، عادة أميزه بها من بين الآلاف وهو قادم من بعيد) يقول، وقد حفّت بنا المرارة من كل جانب:
“.. كنت أتحدث مع شقيقتى الكبرى، ونحن نبحث فى داخلنا عن ضحكة، أو آثار ضحكة، كتلك التى نراها على وجوه أولادنا. فقالت شقيقتى أو قلت لها: يبدو أنه لا فائدة، فمن لم يضحك صغيرا، لا يعرف كيف يضحك، كبيرا، لقد راحت علينا… ولن نستطيع أن نفعلها مهما حاولنا..”
رحلتى مع صديقى سفر آخر، كما أن الموت شعٌر آخر .
هذا ما تعلمته من أدونيس فى رثاء عبد الصبور.
لست واثقا إن كنت أستطيع أن أكتب هذا السفر كله أو بعضه بالطلاقة نفسها.
من البديهى أننى لن أكتب على الموجة ذاتها التى كتبت بها تَرْحالى الأول.
هل يا ترى أستطيع أن أواصل الترحال إلى داخلى ـ خارجى، وأنا محمّل بكل هذا بعد ما كان ذلك كذلك؟.
حاولتُ أن أُظهر كيف قالت لنا حرافيش نجيب محفوظ أن وهم الخلود هو أكذب كذبة، وأن روعة الوعى بالموت هو دفع الحياة (نشرت هذه الدراسة فى مجلة فصول، ثم فى كتاب لى نشرته لى هيئة الكتاب عن بعض قراءاتى فى أدب محفوظ) كانت الفروض تقول:
” إن ملحمة الحرفيش تريد أن تؤكد ماهية دورات الموت والبعث،”
” إن وهم الخلود بمعنى البقاء ثابتا فى المحل، أو مكررا فى الفعل، هو عين السلب الساكن ، وهذا هو الخليق باسم الموت.”
“إن الوعى بالموت هو الذى يعطى للحياة زخمها ويحافظ على دوراتها، واستمرارها”.
ثم عشت هذه التجربة: عشتها فى صحبة الموت يمشى على أرجل، عايشت الموت خارجى وداخلى، كما عايشت الوعد بالبعث وأنا أغوص فى محاولة الكشف عن معنى هذا الحنين الملحّ إلى ركَنٍ قصىّ. لعل وعسى.
…………..
ونبدأ الأسبوع القادم بعرض الفصل الأول: (الفصل السابع: من الترحالات الثلاثة)
[1] – المقتطف من الترحال الثانى: “الموت والحنين” (الطبعة الأولى 2000)، وتتضمن ترحالات يحيى الرخاوى أيضا (الترحال الأول: الناس والطريق) و(الترحال الثالث: ذكر ما لاينقال) منشورات جمعية الطب النفسى التطورى، والكتاب موجود فى الطبعة الورقية فى مكتبة الأنجلو المصرية وفى منفذ مستشفى دار المقطم للصحة النفسية شارع 10، وفى مركز الرخاوى للتدريب والبحوث: 24 شارع 18 من شارع 9 مدينة المقطم، كما يوجد أيضا حاليا بموقع المؤلف، وهذا هو الرابط www.rakhawy.net