نشرة “الإنسان والتطور”
الأحد: 24-5-2020
السنة الثالثة عشرة
العدد: 4649
من كتاب “أصداء الأصداء” (1)
تقاسيم على أصداء السيرة الذاتية (نجيب محفوظ) ( 3 من ؟)
الفصل الأول: “الطفل يرحب بالشيخوخة ويغازل الموت”
…………….
…………….
2- رثاء
كانت أول زيارة للموت عندنا لدى وفاة جدتى، كان الموت مازال جديدا، لا عهد لى به إلا عابرا فى الطريق، وكنت أعلم بالمأثور من الكلام أنه حتم لا مفر منه، أما عن شعورى الحقيقى فكان يراه بعيدا بعد السماء عن الأرض، هكذا انتزعنى النحيب من طمأنينتى فأدركت أنه تسلل فى غفلة منا إلى تلك الحجرة التى حكت لى أجمل الحكايات. ورأيتنى صغيرا كما رأيته عملاقا، وترددت أنفاسه فى جميع الحجرات فكل شخص نذكره وكل شخص تحدث عنه بما قسم. وضقت بالمطاردة فلذت بحجرتى لأنعم بدقيقة من الوحدة والهدوء، وإذا بالباب يفتح وتدخل الجميلة ذات الضفيرة الطويلة السوداء، وهمست بحنان: لا تبق وحدك.
واندلعت فى باطنى ثورة مباغتة متسمة بالعنف متعطشة للجنون وقبضت على يدها وجذبتها إلى صدرى بكل ما يموج فيه من حزن وخوف.
فجأة، نجد أنفسنا فى مواجهة موت الجدة”، فننتبه – أيضا من البداية – إلى دلالات نقلات الذاكرة الخاصة، من طفل طائر إلى شاطيء السعادة، إلى جدة تموت، والموت طوال الأصداء كان حاضرا بحيوية بادية، حيث تتفجر منه الحياة فى معظم الأحيان،، كما علمنا محفوظ فى الحرافيش أساسا.
محفوظ يعامل الموت هنا باعتباره كائنا حيا “لا عهد له به إلا عابرا فى الطريق”، ثم يحكى عن الموت إذ تسلل، ثم وهو يصير”عملاقا له أنفاس تتردد فى كل الحجرات”، وفجأة ينقلب الموت شبحا يطارد الطفل شخصيا، فيجرى أمامه ليلتقى بالحياة، “الجميلة – ذات الضفيرة”، هذه الوصلة بين الموت والحياة هى لعبة نجيب محفوظ المفضلة. (أنظر أيضا: الفصل الرابع)
ويتبين هنا - أيضا- الخيط الرفيع الذى لمحناه من البداية والذى يربط بين الداخل والخارج، فإذا كان الدعاء للثورة (المظاهرات) التى أعفته من المدرسة وارد فى الفقرة الأولى، فإن الثورة المباغته التى اندلعت “فى باطنه” كانت حركة حيوية داخلية، آثارها فقد جدته، وقد جاءت هذه الحركة (لاحظ الصفات): “مباغتة، متسمة بالعنف، متعطشه للجنون”، أى طفولة حية هذه التى يسترجعها الشيخ بهذا الوضوح حتى يعلمنا جمال انفجارات وعى الأطفال الداخلية، تلك الانفجارات التى تــغـلف بالجنس دون أن يكون بالضرورة جنسا (ولا يمنع أن تسمى جنسية دون أن تكون كذلك كما يفهم العامة الجنس) لتنتهى الفقرة بالالتحام بالجميلة (طفل وطفلة) وبدلا من أن نتصور أنها لذة النجاة بسبب الهرب من الشعور بالفقد بالموت، نفاجأ بأنه جـَذَبَ الجميلة إليه ولم يرتم فى حضنها خوفا من الموت المطارد، ومع أنه هو الذى جذبها وهو فى ثورته المتسمة بالعنف المتعطشه للجنون، إلا أن الجذب كان بكل ما يموج به صدره من “حزن وخوف”.
وحين يتذكر الشيخ (أو تبدع ذاكرته) هذا الخليط الجميل الذى يجمع فيه تداخل العواطف البشرية هكذا فى نسق متسق يرفض الاستقطاب والاختزال، نعرف أننا أمام أصداء تتردد أكثر منها أحداث تـٌحكى مـٌجـَّزأه، أو ترمز إلى مفاهيم محددة مسبقا، وهذا يتطلب أن نعامل اللغة بطريقة متجددة، ربما هى أقرب إلى الطريقة التى نقرأ بها الشعر.
[1] – يحيى الرخاوى “أصداء الأصداء” تقاسيم على أصداء السيرة الذاتية (نجيب محفوظ) (الطبعة الأولى 2006 – المجلس الأعلى للثقافة)، و(الطبعة الثانية 2018 – منشورات جمعية الطب النفسى التطورى) والكتاب متاح فى مكتبة الأنجلو المصرية وفى منفذ مستشفى دار المقطم للصحة النفسية شارع 10، وفى مركز الرخاوى: 24 شارع 18 من شارع 9 مدينة المقطم، كما يوجد أيضا بموقع المؤلف www.rakhawy.net