مجلة فصول – المجلد التاسع
عدد 3-4 فبراير 1991
من شهادات النقاد
1- لم أشتغل بالنقد الأدبى كما يوحى به الاصطلاح، وإنما بدأت القراءة بالقلم – كما أحب أن أسميها– حين لفت نظرى نجيب محفوظ وهو يكتب فى الأهرام رائعته الشحاذ، حيث جزعت من دقة وصفه لمرض من الأمراض (وهو الاكتئاب) حتى خشيت أن يكون قد ألم به طائف منه، إذ تراءى لى أنه لا يستطيع أن يصل إلى عمق هذا الوصف ودقته إلا من عاش هذه الخبرة حتى النخاع، فقلت أكتب مبيناً ما فى هذا العمل من قدرة على تعليمنا المرض النفسى بأدق وأعمق من السائد فى كتبنا ومراجعنا العلمية. ونشرت قراءتى لهذه القصة فى باب ابتدعته فى مجلة كانت تسمى الصحة النفسية، وأسميت هذا الباب نظرات فى الأدب، وبدأته بهذه الكتابة عن الشحاذ، ثم رباعيات جاهين، ثم عن “غبى” فتحى غانم. ولكنّى سرعان ما تبينّت الخطأ الذى وقعت فيه، فمن ناحية تبينت أن المستوى الذى أكتب فيه هذا النوع من النقد هو مستوى وصفى، يقلل من قيمة العمل الأدبى ولا يضيف إليه، ومن ناحية أخرى تبينت مدى التشويه الذى يمكن أن ينتج عن مظنة وصاية العلوم النفسية على تلقائية المبدع، فعدلت عن هذا المستوى تماما، لدرجة أنى أود لو أتخلص من هذه الأعمال الباكرة، أو حتى أن أكتب ضدها. وقد أشرت إلى ذلك فى كتاباتى اللاحقة، فيما يختص بالغبى لفتحى غانم، حين قرأت له “الأفيال” ناقدا، وقدمت هذه القراءة باعتذار عما بدر منى فى قراءتى للغبى، وبالنسبة لرباعيات جاهين، حين عدت لدراستها بالمقارنة برباعيات الخيام ورباعيات سرور فى عمل لاحق. أما شحاذ نجيب محفوظ فإنى أقوم بإعادة دراسته حاليا بالمقارنة بمالك الحزين لإبراهيم أصلان. ولعل ذلك يكفى اعتذارا عن هذا الخطأ الباكر.
2- أنا لا أعد نفسى أديبا (ناثرا أو شاعرا) بما يمكن أن توحى به هذه الصفة، وإن كنت أمارس الكتابة فى كل من هذا وذاك، وقد نشر بعضها ولم ينشر أغلبها. غير أننى أتصور أنه لا توجد علاقة مباشرة بين ما أمارسه إبداعا أوليا وما أمارسه إبداعا نقديا، وإن كان من المحال أن أنفى هذه العلاقة أصلا. المهم أن ما أكتبه ناقدا لا يلزمنى فيما أكتبه منشئا أوليا، فأنا لست المقياس الذى أقيس به نفسى، وإلا أصحبت كتابة موصى عليها. كذلك فأنا لا ألزم نفسى بقيم نقدية أكون قد طرحتها أوأكتشفتها فى أثناء نقدى لعمل غيرى. وليس معنى ذلك أن المسألة عفوية تماما، وإنما أردت أن أوضح أن العملية النقدية هى عملية إبداعية، بادئة بنص متاح محدد المعالم فعلا، له ذاتيته واستقلاله ونكهته وشموليته وإيحاءاته، فهو الواقع الماثل أمام الناقد ليبدعه مرة أخرى، فى حين أن كتابة القصة – مثلا – تستلهم واقعها من أبدية عيانية مختلفة، أبجدية من مادة الواقع الولية التى لم تنتظم فى صياغة أدبية بعد.
أما الشعر فهو اقتحام يصنع واقعه بكل عنفوان الخلق الذى يكاد يكون من المحال معه إرجاعه إلى نص قائم، ولا حتى إلى أبجدية محددة المعالم. وأية وصاية نقدية مسبقة –حتى من موقف الشاعر على نفسه إن كان فى الوقت نفسه ناقدا- أية وصاية لابد وأن تفقد الشاعر هجوميته المخترقة، التى لا يتميز الشعر إلا بها ليكون شعرا بحق. صحيح أنه لابد من موقف نقدى لاحق لانبعاثة الشعر الأولى، وهنا يتدخل الشاعر ناقدا شعره وهو يعيد صياغته تدخلا يزيد أو ينقص من قيمة الجرعة الأولى، بحسب الجرعة ودرجة الوصاية. ولابد أن أعترف أن كثيرا من قصائدى قد تشوه بهذا التدخل حتى انتهى إلى سلة المهملات، وبعضها قد تحور ونضج وتنامى حتى صار جديرا بأن يبقى.
إن كل عمل من أعمال الإبداع عندى له كيانه وبداياته وغاياته التى يتداخل بعضها فى بعض من حيث المبدأ والغاية، ولكنها أبدا غير ملزمة لبعضها البعض. ولا يمكن أن تكون الكتابة النقدية وصية على الكتابة المبدعة الابتدائية، وإلا أصبح الأمر مثل تدريبات التطبيق على القواعد. وهذا ليس خلقا ولا هو حتى كتابة عادية.
ولكن دعونى أعترف أنى أتبين فى إسهاماتى النقدية ما أتصور أنه إضافة إبداعية، هى أهم وأكثر أصالة من محاولاتى الابتدائية إنشاء انبعاثياَ أوليا، فأشعر أننى أستطيع أن أضيف – ناقدا – ما لايستطيعه غيرى، من موقعى المتعدد التوجّه والمصادر، بالمقارنة بما يمكن ألا اضيفه قاصا أو شاعرا.
وربما يرجع هذا إلى طبيعة مهنتى الأصلية، حيث يمثل المريض نصا إنسانيا أصيلاَ ينبغى علىّ قراءته بما هو عمل فريد ليس كمثله عمل آخر حقا. لذلك فأنا أرفض اللافتات التشخيصية لمرضاى حتى لا يصبحوا رقما فى نمط، وأعد الجنون الفردى حدثا أصيلا دائما يحتاج إلى قراءة نقدية مسئولة.
أما أين بدأت، وكيف تحولت إلى النقد، فالإجابة هنا ترتبط بمأزقى الخاص الذى دفعنى إلى أن أطرق كل هذه الأبواب أصلا، وهو عجز تخصصى العلمى عن استيعاب الجرعة الوجودية المعرفية التى وصلتنى من مرضاى، وعالمى الخاص الذى استثاره مرضاى، فرحت أطرق كل أبواب التعبير معا، لعل وعسى، فكأنى بدأت كل محاولاتى الإبداعية جميعا لنفس الهدف، بنفس الدافع. أما الدافع فهو عجز الأداة واللغة العلمية فى تخصصى عن استيعاب الرؤية التى بلغتنى. وأما الهدف فهو أن أبلغ هذه الرؤية التى لم أعد أملك أن أكتمها، وإن كنت لا أتبين تفصيلات معالمها إلا فى أثناء الإبداع ذاته، بكل أسلوب، وفى كل مجال.
والنقد هو هذا وذاك، وهو أقدر وأرحب المجالات التى طرقتها.
3- من البديهى أنى لابد أن أكون متهما بأنى أكتب ما يسمّى النقد النفسى، وإن كنت قد أوضحت فى أول دراسة لى هذه المسألة (وهى أول ما نشر لى فى “فصول” عن إشكالية العلوم النفسية والنقد الأدبى) – أوضحت أننى فى نهاية الأمر ضد هذه المدرسة النفسية، فمن ناحية غلب على هذه الدراسات النقدية النفسية مفاهيم التحليل النفسى التقليدى الذى تجاوزته معظم معظم المدارس الأحدث، بما فى ذلك المدارس التحليلية، ومن ناحية أخرى ظهرت بعض مقاييس تقيس العمل الأدبى بما يختزله أويفرغه، وفى الحالين وثق أهل الإبداع الأدبى بأهل النفس حتى تصوروا أنهم اصل فى معرفة ماهية النفس، ومن ثم قد يمكن أن يكونوا مرجعا فى ذلك، وكل ما حاولت أن أبرزه فى هذه المسألة هو أن المبدع هو الأصل، ونحن – المشتغلين بالعلوم النفسية – نتعلم منه، وأن فرويد حين أطلق كلمة “عقدة أوديب” على مرحلة من مراحل النمو كان يعلن سبق الأدب لمعرفة النفس، أى أنه كان يفسر النفس بالأدب، ولا يفسر الأدب بالنفس، وحين حاول فرويد عكس تحليله لليوناردو دافنشى أخطأ وشطح بما لا يليق، وهكذا.
ومع ذلك فأنا اضبط نفسى متلبسا بالتفسير النفسى للأدب فى أثناء قراءاتى وكتاباتى النقدية، برغم كل هذا الرفض لهذه الوصاية.
وقد اكتشفت من واقع هذا التناقض الظاهرى أنه يمكن أن توجد لما يسمّى النقد النفسى عدّة مستويات مارستها جميعا حتى انتهت إلى ما أقوم به الآن:
المستوى الوصفى: وهو الذى يقول فيه الناقد إن هذا البطل فى رواية كذا كان عنده كيت من الأعراض واسم مرضه كيت من الأمراض وهذا هو أسوأ المستويات قاطبة، وهذا هو ما وقعت فيه من البداية، وما أحاول أن استغفر عنه حالا (مرحلة قراءتى للشحاذ، والغبى، وإلى درجة أقل رباعيات جاهين أول مرة).
المستوى الدينامى أو التحليلى: وهو يصبغ المدرسة النفسية فى النقد أكثر من المستوى الأول. ولاشك أن له شرعيته وعمقه. وهو المستوى الذى تناولت به الدراسة المقارنة بين رباعيات الخيام، ونجيب سرور، وجاهين، وإن كنت لم ألتزم فيها بالفكر التحليلى التقليدى (الفرويدى) بقدر ما قرأتها (الرباعيات الثلاث) من منطلق العلاقة بالموضوع object relation school، وقد أفدت منها أبعادا جديدة أضافت إلى علمى بهذه المدرسة أكثر مما أضافت هذه المدرسة إلى هذه الأعمال، وإن كان فى ذلك ما يمكن أن يسمى الصدق بالاتفاق consensual validity، أى أن الوصول إلى حقيقة معرفية واحدة من منطلقات مختلفة، وبلغات مختلفة، هو فى ذاته إثبات لصحة هذه المعرفة. وقد أثبتت هذه الدراسة صدق ما ذهبت إليه هذه المدرسة التحليلية، بقدر ما أضاءت أبجدية هذه المدرسة جوانب الحدس الإبداعى فى هذه الأعمال.
وثمة بعد آخر لهذا المستوى التفسيرى، وهو قراءة العمل الأدبى من منطلق تركيبى نفسى أساسا، وهو بعد مستعرض أكثر تميزاً، لأنه يعطى رحابة وحركة آنية أكثر مما ينقله المنظور التحليلى الذى يهتم بالبعد الطولى والعلاتى أكثر فأكثر .. وأعتقد أن كل أعمالى النقدية بلا استثناء قد غوصت فى هذا البعد التركيبى بما استطاعت، وخاصة من منطلق مفهوم تعدد الذوات حيث أرى شخوص الرواية، ووحدات الشعر – مثلا – كلها كيانات حية قائمة حاليا، ومتفاعلة ومتضافرة ومتبادلة .. إلخ، فى ذات المبدع وفى عمله فى آن واحد، وهذا هو مفهوم الواقعية عندى، الواقعية هى أن يتناول المبدع واقعه الحى بكل مفرداته من حيث حيوية تمثله ( لا فهمه) للواقع بكل أبعاد الداخل والخارج، فتتحاور كياناته الحية واقعا مع عالمه الخارجى، واقعا آخر، بحيث يكاد يكون من المحال الفصل بينهما. وعلى ذلك فكل أدب جيد هو واقعى حتما. وقد كدت أحقق هذا الفرض من واقع قراءاتى النقدية بنفس قوة تحقيقه من واقع ممارسة علاجية خاصة هى العلاج الجمعى.
أما المستوى الثالث: فهو الذى أقرأ فيه العمل الأدبى بما هو أنا، دون التزام مسبق بأى إطار مدرسى أو نظرى، فأتحاور مع النص مثل أى قارئ آخر. لكن ما هو “أنا” ليس إلا خلاصة كل معرفتى ووجودى وخبرتى وإبداعى وحضورى ..إلخ. فلا أستطيع أن أتخلص من كونى طبيبا، أو من كونى متقمصا مريضا لى، أو من كونى أعرف هذه النظرية النفسية أو تلك، فيتم حوار عنيف بينى وبين العمل، أحاول فيه أن أطوعه لما وصلنى منه، وما عرفت عنه وبه، وفى الوقت نفسه أقبل منه أن يروضنى نحوه. ويتم هذا وذاك فى آن واحد، فأخرج من القراءة بإضافة إلى ما هو “أنا” بحيث تتحور مواقفى العلمية والأدبية على حد سواء، فأمسك القلم لأسجل كل هذا الذى حدث، فيكون نقدا.
ولا أحسب أن ذلك كله يندرج تحت ما يسمى بالمدرسة الانطباعية، أو أنه يحتوى أى جرعة شخصية مفرطة ذلك أنه بقدر ما يكون حضور الناقد موضوعيا، أى بما هو، وبما يمثله، وبما يستوعبه جميعا، وبقدر ما يكون حضوره هذا حيا متحركا أبدا فى رحلة مرنة متصلة بين الداخل والخارج – بهذا القدر يكون انطباعه أبعد شئ عن الذاتية.
فالمسألة إذن ليست فى أن هذا العمل أنا أسيغه، وأن ذاك العمل أنا أنفر منه، بل إن المسألة هى: هل انا أعيش هذا العمل فى داخله، داخلى، أم أنى أظل منفصلا عنه؟
والمقياس فى ذلك عندى هو أننى إذا خرجت من عمل ما كما دخلته فلا نقد ولا يحزنون، مهما بلغت دقة الأداة، وموسوعية التنظير، أما إذا عشته فغيرتى، فأعدت صياغته من خلال ذلك، فأوصلت صياغتى هذه لثالث، فهذا هو النقد الذى أجتهدُ فى اتجاهه.
وأرى أننى لو نجحت فى ذلك قليلا أو كثيرا فإننى أكون قد أسهمت فى إضافة إلى النص، وأستطيع أن أعد قراءاتى النقدية المنشورة عن: “ليالى ألف ليلة”، و”رأيت فيما يرى النائم” لنجيب محفوظ، وعن قصة (رواية) “نيتوتشكا نزفانوفا” لديستويفسكى، و “أفيال” فتحى غانم، و”ليل آخر” نعيم عطية، و “قتل نفس بشرية” للمنسى قنديل، وشعر أحمد زرزور – أستطيع أن أعد كل ذلك نموذجا لهذه القراءة الموضوعية المرنة لإعادة خلق النص فى اتجاه مواز، إن صح التعبير.
وأستطيع كذلك أن أعلن أن هذا الأسلوب هو الذى قرأت به – ناقدا – كثيرا من الأعمال الأخرى التى لم تنشر كتابتى عنها بعد، مثل “رشق السكين” للمخزنجى، و”السكة الحديد” للخراط، و”ذباب” سارتر و”متمرد” موافيا، و”ليمون” الديب، و”مالك الحزين” لأصلان، ناهيك عن محيط ديستويفسكى الذى ليس له قرار أو حدود.
4- بصراحة، لا أستطيع أن أجزم، بل لعلنى أكون أكثر أمانة حين أجيب بالنفى، فأنا مقل تماما فى قراءاتى المنهجية المنتظمة، وإن كنت قد قرأت كل ما نشر بالعربية فيما يسمّى المنهج النفسى، محاولا أن أصحح نفسى، من أول أستاذنا العقاد حتى شاكر عبد الحميد، مارا بالغنيمى وعز الدين إسماعيل، فتأكد تحفظى على هذا المنهج كما أسلفت، ولكنى أعد هذا تأثرا بشكل ما، فلولا هذه الإسهامات الباكرة والمواكبة ما صقلت رأيى فى اتجاه ما أرى الآن، وإن كان فى اتجاه مختلف فالفضل يرجع إلى أصحابه دون ارتباط بالنتيجة.
وقد تتملذت على نقاد نجيب محفوظ بصفة عامة حين رجعت إليهم لّما قررت أن أقوم بدراسة مقارنة بين أولاد حارتنا والثلاثية والحرافيش فى مقابل مائة عام من العزلة لماركيز، وقد هالتنى هذه الرؤى المتعددة، حتى قلت، وسجلت فى بداية بعض نقدى لمحفوظ، خذ من محفوظ ما شئت لما شئت.
وعموما ففيما عدا أستاذنا يحيى حقى، من الجيل الرائد، وجابر عصفور من الجيل الحالى، فإنى أجد صعوبة شديدة فى تتبع الدراسات النقدية المفرطة فى أكاديميتها، ففى نهاية النهاية، لن يكون النقد إلا إبداعا، وأية محاولات لجعله علما بالمعنى المقنن المحكم، سوف تمسخه وتشوهه، كما حدث لعلم النفس وأكثر، ولن تفيد علمنة النقد مسيرة الإبداع بصفة عامة، بقدر ما لم تفد دراسات علم النفس الُمعلمن معرفتنا بماهية النفس بالمقارنة بها أسهمت به الفلسفة قديما.
5- ذكرت حالا أنى أدخل قارئا عادياَ، لكننى أستطيع أن أتذكر أن ثمة فرقا بين أن أقرأ صامتاً لى، وأن أنوى أن أقرأ العمل بحروف مكتوبة لى ولغيرى ( مما أسميه نقدا)، فالأمر على ما يبدو يجرى هكذا:
فأنا أحاول أن أنزع عن نفسى ابتداء أن هذا العمل لفلان الذى أعرفه مسبقا، إذ أننى لو قرأت العمل بما أتوقع منه، وما أعرف عن كاتبه، فجاء كما توقعت، فأى جديد هناك؟ وأى نقد ممكن؟ وقد شجعتنى هذه البداية دائما على أن أرفض أعمالا لمن لا يمكن تعميما من حيث المبدأ – أن أجرؤ أن أتصور أنهم يكتبون ما يرفض فمثلا حين قرأت قصة اسمها “الفأر النرويجى” لنجيب محفوظ لم أتمالك أن أرفض رمزيتها المفرطة، ولم أنقدها ولم أعد إليها قط.
ثم إنى أعود للعمل بعد أن تكون قد وصلتنى الإشارات الأولية التى تكون سلبياتها – فى العادة – أكثر من إيجابياتها، فأحاول أن أتقمص الجو العام الذى كتبت فيه، احتراما للجهد البشرى وتقمصا لإبداع الكاتب الخاص لهذا العمل بالذات (إن أمكن ذلك)، فمالك الحزين والسكة الحديد، كتبتا فى سنوات، فكيف أسمح لنفسى أن أمر بأى منهما فى ساعات ثم أدعى أننى عايشت كاتبها بدرجة تسمح لى بمحاورته ومحاورة قرائه؟
وفى هذه القراءة الثانية أمسك القلم “مشخبطا” على النص بحرية كاملة، وكأن صاحبه معى أمسك خناقة، بل أننى أتصور أحيانا أننى “ألابطه” جسديا، ويملؤنى الغيظ منه، والحقد عليه، وشكره والدعاء له، والتضاؤل أمامه، فأحاول أن أقلب كل ذلك إلى ما أسميه حوار “الملابطة”. ثم إنى أعود إلى العمل ببطاقات التسجيل، أجمع “التيمات” التى سبق أن أشرت إليها “مشخبطا” والتى تستحق أن ترصد معا، فأعيد تنظيم العمل من منطلقى الخاص لأظهر منه ما ظهر لى فى نسيج آخر، يصنع منه ثوبا آخر.
وفى هذه المرحلة الأخيرة تحضرنى الرؤى العلمية، والممارسات الخبراتية، فأستعين بها وأستهدى، بقدر ما اضيف إليها وأحورّها من واقع العمل، فأنا لا أجعلها – مثلما أخطأت فى البداية – وصية على العمل، وفى الوقت نفسه لا أتناساها مدعيا أننى تخلصت من أثرها تماما، بل إننى أعدلها من خلال العمل طوال الوقت، فحين أكتشف – مثلا – فى سكة حديد الخراط صورة محوّرة للموقف الأوديبى، أضيف إلى الموقف الأوديبى تفصيلات جديدة، بقدر ما تهدينى معرفتى بالموقف الأوديبى الأصلى إلى اكتشاف بذوره فى هذه العلاقة أو تلك.
فى كل ذلك أريد أن أقول إننى لا ألتزم بمنهج معينّ، اللهم إلا الالتزام بمعاودة القراءة، وإبطاء إيقاعها والحوار معها طوال معايشتها بأكبر قدر من الموضوعية والمرونة التى تسمح برحالات الداخل والخارج المستمرة.
على أنى بدأت مؤخرا خبرة جديرة بالتسجيل، بعد أن حذفت السيطرة على التقنية المغيرة (الحاسوب) فرحت أكتب النص الأدبى على الكمبيوتر حرفا حرفا، وأعد ذلك فى ذاته نوعا من القراءة البطيئة، ثم رحت أستعين بهذا الحاسوب ليجمع لى تواتر ما ترامى لى جمعه فى أثناء هذه القراءة المكتوبة، (حيث كنت أضيف إلى النص ملاحظاتى مقوسة أولا بأول فى أثناء نسخه)، فوجدت أنه قد وفّر علىّ ما لا أتصور، وتذكرت مرايا طه حسين لجابر عصفور، وأشفقت عليه، وحسدت نفسى، لكننى عدت وخفت أن تنقلب المسألة عند المتعجل أو المنهبر إلى عد تواترات فارغة، فتصبح مسألة حسابية قبيحة، وهذا لا ينبغى أن يدفعنا إلى إهمال هذه التقنية الجديدة، إلا أنه يطرح علينا – كما باشرت – تحديات ماثلة خطيرة، فقد شعرت أن هذه الآلة يمكن أن تساعدنى فى جمع ما أرى، لكنها لا ترينى ولا ترى بدلا منى – طبعا.
6- للأسف، بكل الأجناس، فلى قراءاتى النقدية فى القصة القصيرة والرواية والشعر، بل إن قراءتى فى التراث الشعبى، والحواديت والأمثلة والمواويل، أعدها قراءة نقدية أكثر منها دراسة منهجية، وإن كان لى أن أعتذر عن هذا التعدد المترامى الذى يحرمنى من إتقان نوع بذاته، فعذرى أننى لست ناقدا بقدر ما أنا قارئ حاضر، وأحب أن يحضر الناس معى قراءتى لكل ما أقرأ، ونتاج هذا هو ما يسمى نقدا.
وأضيف هنا تفصيلا مناسبا، فأصعب أنواع النقد فى خبرتى هو نقد الشعر، لدرجة أننى قلت لنفسى إن الشعر لا ينقد أصلا، ولولا إلحاح الصديق أحمد زرزور، وبعض إيحاءات متفرقات شعرية هنا وهناك، لما جرؤت على أن أقول شيئا أمام ما هو شعر. ولابد أننى مخطئ فى هذا فما دام هناك نقد للفن التشكيلى، والشعر تشكيل، فلابد أن نقده جائز، ومع ذلك فما زلت عند تحفظى، وقد يكون مناسبا، ما دمنا نتكلم عن علاقة أنواع الإبداع عندى، أن أعترف أن الشعر قد لا ينقد إلا شعرا، وهو أحد صور ما أسميته “إبداع على إبداع” (مستشهدا بقصيدة محمود شاكر على قصيدة الشماخ الغطفانى، القوس العذراء). وأعترف أن الشعر يثير فى ما هو شعر أكثر مما يثير فىّ ما هو نقد، وكفى.
وإذا كان لى أن أختار، فأنا أختار القصة والرواية ذلك أن البعد الزمنى فى هذه الأعمال (الزمن بمعناه الطولى ومعناه العرضى) إنما يسمح لى بالحركة المواكبة التى يمكن أن أجد فيها الجديد، وأن أعيد فى رحابتها الصياغة، بعكس الشعر الذى يعوقنى عن الحركة الرحبة بقدر ما يصوّر الإبداع مكثفا بعضه فى بعضه، حتى يصبح تحليله إلى عناصره أقرب إلى التشويه أو الجريمة.
7- ليس لى أن أحكم من موقعى هذا، وإن كنت أرى أن النقد يسير على غير ما أشتهى، أو أتمنى، إذ أخشى أن يغلب الطابع الأكاديمى المعَلمَن على النقد، فلا يعود إبداعا، إذ قد يتردد النقاد المبدعون أن يرفعوا صوتهم بإعادة صياغة النص نقدا، وذلك خشية التجهيل أو التهوين. وأتصور أن العودة إلى النقد/الإبداع هى ضرورة للحوار مع المبدع المنشئ، بقدر ما هى ضرورة للأخذ بيد الشباب والمبتدئين بصفة خاصة، بل هى ضرورة لتحريك الحركة الأدبية برمتها.
8- لابد أن أعترف أننى فعلا أحلم بمثل ذلك، وأن هذا يمثل عندى غاية لها حق الأولية على كل ما عداها فى محاولاتى المتشعبة، فلا أحسب أننى استطيع أن أكتب شعرا لا يكتبه غيرى أفضل منى مرات كثيرة، كذلك القصة قصيرة أو طويلة، فهذا كله يكاد يكون مفروضا علىّ فى محاولة تواصل مجهضة، كما اشرت سابقا.
أما الذى أستطيع أن أضيف فيه، ومن خلاله، فهو هذا العمل النقدى الذى أحلم به. وأحسب أنه يقوم على محورين متوازيين متكاملين:
المحور الأول: هو قراءة نجيب محفوظ قراءة شاملة، وخاصة فيما يتعلق برؤيته الممتدة عبر الأجيال فى الحرافيش التى هى “ولاف” يمثل جماعا بين أولا حارتنا والثلاثية. وقد كان لى فيما كتبت عن ليالى ألف ليلة ورأيت فيما يرى النائم (وليس الشحاذ) ما يدفعنى إلى الأمل أن تستأهل هذه المحاولة أن تكون حلما قابلا للتحقيق، وخصوصا إذا نجحت فى أن أربط بينه وبين “مائة عام من العزلة” بوجه خاص، وبينه وبين الأعمال الأخرى لهذا الكاتب/التاريخ. وقد كان حلمى قبل جائزة نوبل، ولكننى ترددت لأسباب أصبحت أكثر مدعاة للتردد بعد الجائزة، ومع ذلك فأنا اجتهد لأحاول أن أخترق كل صعوبات داخلية وخارجية، وأشعر فى الوقت نفسه أن هذا ما أستطيع أن أشكره به بما يجدر به وبنا.
أما المحور الثانى: الذى أحلم به فهو إعادة قراءة ديستويفسكى حرفا حرفا فى ضوء المعطيات المعرفية الجديدة عن النفس، وخصوصا البعد التركيبى الذى أشرت إليه حالا، فأحسب أن عالم النفس الداخلى عند ديستويفسكى لم ينل ما يستحق، وما هو جدير بأن يجعلنا نستلهمه، وما يضيف إلى معارفنا ما ينبغى، وأن نضئ حوله بما نستطيع، فنسهم بذلك فى معرفة أعمق بما هو نفس، وبما هو إنسان.
وإذا كان ما يحول بينى وبين المبادرة إلى ذلك أننى سأتناول هذه الأعمال مترجمة، فإننى أعد ترجمة سامى الدروبى على وجه الخصوص هى إعادة إبداع بالعربية، أو لعلها، من عمق معين، عملية نقدية فعلا، إذ هى إعادة قراءة النص بحدس – لا مجرد ألفاظ – لغة أخرى. وقد يكون فى هذا التحفظ ذاته ما يحفزنى أكثر نحو هذا العمل، لعله يأتى قراءة فى جماع حدس الترجمة والإبداع جميعا.