نشرة “الإنسان والتطور”
الأحد: 7-6-2020
السنة الثالثة عشرة
العدد: 4663
من رواية “ملحمة الرحيل والعوْد” (1) (من 2 إلى ؟)
الجزء الثالث من ثلاثية: “المشى على الصراط”
………………….
…………………
-2-
كانت الشمس قد ملأت الحجرة، وبدا الوقت متأخرا، حاول أن يتذكر بعض معالم ليلة أمس، هلت عليه الأحداث متلاحقة، التفت إلى السرير فوجده مرتبا تماما إلا الغطاء الخفيف، كان الغطاء على الأريكة، استبعد أن يكون حلما.
تراجع الصداع بشكل متذبذب.
السرير مرتب بطريقتها، فرك عينيه مرة ثانية، فى المطبخ وجد اللبن مغليا والأطباق التى كانت فى الحوض انتقلت إلى الرشاقة، بعد غسلها، الحوض يلمع من النظافة، هى هى لم تتغير، هى لا تريد بذلك ـ ولا بغيره ـ أن ترجع، ولا هو…، ثـُريَا رقيقة دائما، هى أرق من رقتها، خيل إليه أنه ذهب إلى الحمام فى جوف الليل، لعله تقيأ أو ربما….، وجد الحمام نظيفا تماما، حتى لو كان قد تقيأ فقد نظـّفت الحمام مثلما نظفت المطبخ قبل أن تنصرف، أخذ يسترجع حديثهما أمس، تذكر بصعوبة أنها حدثته عن أخيها محمود العائد من البوسنة، “على عزت بيجوفتش”، شئ ما يبدو قريبا يبتعد، أو بعيدا يقترب، كيف يبدأ؟ هى التى جاءت، بنفسها، هو مازال يحبها، أى حب هذا الذى يتأكد بالانفصال ويختلّ بالقرب؟ هل يقول لها عن مشروعه؟ هل تساعـِده؟ هل تضحك منه؟ إذا كان لأحد أن ينتبه إلى جنونه أو شطحه، ويقبله، فهو ثريا.
-3-
مدرسة البدرشين الإعدادية للبنات.
سخيف أن يذهب إليها هناك، هم يعرفون أنهما كانا متزوجين، وليس عيبا أن يذهب إليها فى المدرسة، هو لا يعرف عنوان بيتها الجديد، لم يسألها.
ما الذى حدث بالضبط؟ لماذا جاءت؟ ولماذا نامت عنده؟ ولماذا ذهبت؟ وماذا قالت؟ الذى حصل، سوف يذهب ويعرض فكرته، ماذا ستقول عنه؟ لقد عادت، باتت فى سريره، سريرهما، لم تطلب شيئا، هى لا تطلب شيئا، ولم تلوّح، هى لا تلوح، هل يذهب إليها الآن ليطلب زبائن لعمله الجديد الذى لم يبدأ بعد؟ طبعا لا، أى تلميذ هذا من البدرشين، يمكن أن يسمح والده أن يسلـِّمه لمدرس هاوٍ، قطاع خاص، يريد أن يعدِّل الكون عن طريق إحياء اللغة التى ينظم بها دماغ العيال ليفكروا بالأصول، مدرس ليست له علاقة بالامتحانات؟ ولا بالغش، أى شطح خائب؟ ومع ذلك سوف يذهب، وسوف يلقاها فى المدرسة، وسوف يعرض عليها فكرته، لن يعرضها بصفتها مدرسة لغة عربية، إن ما خطر بباله ليست له علاقة باللغة العربية، إنها شئ أشبه باللغة الأم قبل أن تتشكل فيما أضاعها..، اللغة الأم ليست لغة الأم سوف يعرض عليها الفكرة بصفتها ثريا، قارئة دماغه، ومالكة مفتاحه، إلا قليلا.
إنه حين قرر أن يضئ شمعة واحدة أمس بدلا من أن يطفئ 41، كان يعنى ما يفعل، شعر بقوة حقيقية تسمح له أن يفعل كل ما كان يتردد فى فعله، يذهب، ويعرض، ويـرفض، ويذهب ثانية، وهكذا، لن يهمد، ولن يرجع، ولن يكف لا عن السياسة، ولا عن الأمل، سوف يغيــر الكون من القاعدة هذه المرة، الشئ الذى يبدو بلا حل هو مسألة ثريا هذه، ليست ثريا نفسها ولكن” مسألة ثريا”، هو لا يعرف أبعاد المسألة بالتفصيل، لكنه متأكد أنها مسألة أبعد حلا عن أى تصور جاهز، إلا أن لها حلا حتما، لا يوجد “حل نهائى” قريب، واسألوا ياسر عرفات، حال الدنيا بأسرها تجسـد فى المسألة الفلسطينية، كلنا هى، قال له: “طيب والشيشان”، رد عليه:” الله يخيبك، كله مثل كله”.
حين اقترب من الشارع الذى تقع فيه المدرسة، وهى ليست فى وسط البلدة على أية حال، بحث عن الجُـمَـل التى أعدَّها ليشرح بها فكرته لثريا قبل أن يطلب مساعدتها، يقفز إليه السؤال إياه بلا مناسبة وبدلا من أن يكرره كما اعتاد أجاب عليه مباشرة، “نعم موجود”، ثم أضاف “يعنى، يقينا فى الأغلب”، هذا صباح لن يمر: “يقينا فى الأغلب”؟ !!! من أين يأتى اليقين إذا كان فى الأغلب؟ ثم ما هذه الــ “يعنى”؟
قال اسمه للبواب، وأنه جاء لمقابلة الأستاذة ثريا عبد السلام المشد، فبدا من ابتسامة البواب وترحيبه أنه يعرفه، ومع ذلك فضَّل جلال أن ينتظر على الأريكة بجوار الباب حتى يعطيها خبرا، سمع جرس الحصة فاستبشر، حتى لو كانت عندها حصة فقد انتهت، عاد البواب بسرعة وسمح له بالدخول إلى حجرة المدرسات، كانت بها مدرِّستان، زميلتاها، واحدة تذكـّر أنه رآها مرة من قبل، لعل اسمها خديجة مثلا، هى كذلك، هو الذى أسماها بمزاجه، بدينة قصيرة، تبدو أمًّـا منذ كانت فى السابعة، والأخرى سمراء فارعة محجبة، دمها خفيف (هو قرر ذلك)، انصرفتا فى سماح.
قرأ ما يدور بخلد خديجة: “الصلح خير”، ليكن، خيرا، اللهم اجعله خيرا، كل واحد يفكر بطيبته كما يشاء، ربنا طيب، يحب الطيبين، فكر فى نفسه: هل هو “طيب”؟ طيب يعنى ماذا؟ يعنى مغلوب على أمره؟ شعب مصر شعب طيب، ”جاتنا خيبة” !، أنا لست متأكدا من شئ، لم يبق إلاى وثريا.
ـ خير يا جلال؟ .
ـ خير إن شاء الله.
ـ أهلا بك.
ـ جئت أعتذر عما حدث بالأمس.
ـ وماذا حدث بالأمس؟ يا شيخ !! كل سنة وأنت طيب.
ـ هل أنا طيب صحيح يا ثريا؟ .
ـ طبعا، هل تشك فى ذلك؟ .
ـ طبعا.
ـ معكِ حق، هل تريد أى شئ آخر؟ .
ـ لا أبدا، أذكرينى بين الحين والحين.
ـ ما هذا؟ ماذا تقول؟ أنت تعرف، كيف تقول ذلك؟ .
ـ وتزوَّجى واحدا أطيب منى.
ـ أوامرك.
ـ آسف، بلـِّغى سلامى إلى خديجة زميلتك التى خرجت الآن، أليس هذا هو اسمها؟ .
ـ مازلت أنت هو أنت يا جلال، لا فائدة.
ـ بل إن الفائدة دائما بين أيدينا ونحن الذين لا نمد لها يدنا.
ـ ستظل طول عمرك تحلم يا جلال.
ـ سوف أبدأ من جديد.
ـ أنت لا تكفّ عن البدايات.
ـ البداية هذه المرة مختلفة.
ـ كل بداياتك كانت مختلفة.
ـ سوف ترين، هذه المرة شئ آخر.
ـ أنا أراكَ دائما كما تريدنى أن أراك، وهذه مصيبة فى حد ذاتها.
راح يدَّعى أنه لا يفهم، وأن عينيها تخترقان من يقترب منها حتى تـُرعبه، وأنه لا يوجد من يتحمل ذلك، وقال لنفسه: إن هذا هو الذى هرب منه تماما، على الرغم من أنه فى أشد الحاجة إليه، وقال لها إنها هكذا ستعيش طول عمرها وحيدة تتفرج.
ـ أنت مالك؟ .
ـ أريد لكِ الخير.
ـ خلِّ عنك.
ـ تحتاجين من يقف بجوارك، هذا يستلزم أن تغمضى عينيك، ولو قليلا.
ـ ربنا موجود.
ـ صحيح!؟ .
ـ غصبا عنك.
قرر ألا يفتح موضوعا لا يُغلق أبدا، فانحرف بالحديث فجأة:
ـ متى عاد؟ .
- من؟.
- محمود، أخوك؟.
ـ…. عاد يضرب كفًّا على كف وهو يحكى عن أطفال المسلمين، وعن أطفال الصرب أيضا، تصور؟ يقول إنه تغير مرغما، ذهب وهو يتصور أنه لكى تكون مسلما، أو ابن مسلم لابد أن تكون أسمر البشرة، فاغر الفم، ذابل العينين، متكلا على ما تتصور أنه الله فى بـلـه، وحين ذهب لم يصدق أنهم مسلمون، وحين تأكد، لم يصدق أنهم خواجات، دخل بيوتهم، وحمل أطفالهم، ورأى بعضهم يصلى فى المنزل، وشيوخهم يصلون فى المسجد…، ثم إنه، ماذا أقول، ثم إنه لم يكره كل الصرب، تصور.
ـ ماذا؟ .
ـ أقول ما حدث.
ـ وبعد؟ .
ـ أحب أطفال الصرب مثلما أحب أطفال المسلمين؟
ـ محمود؟!!؟ .
ـ محمود. عاد ينصحنى أن أفتح أبوابى كلها، وكأنـَّه كان معنا حين أغلقناها.
ـ نحن لم نغلق شيئا، هى كانت مغلقة خلقة، من الناحيتين.
ـ ليس تماما. والله زمان، لم نـَتُبْ بعد عن هذا الكلام الذى يترجع مثل الصدى.
ـ كل شئ جائز.
ـ دمك ثقيل. ما علينا، أهلا بك، هل الأمر عاجل إلى هذه الدرجة؟.
ـ أنت مازلتِ يا ثريا كما أنت، لا فائدة.
غيرت ثريا الحديث فهى تعلم أنه لن ينتهى، وأنه إذا انتهى لن يوصّل إلى شئ، راحت تستفسر منه: هل قرر أن يقبل السفر إلى الخليج أخيرا؟ وهل هو يريد رأيها؟ مع أن رأيها لن يقدم ولن يؤخر، وأن الذى فى مخه فى مخه، وحين لم يجب أية إجابة نافعة إلا تأكيده القاطع أنه لن يترك مصر حتى لو شحذ من كل بيت لقمة، قرر فجأة ألا يفتح الموضوع الذى جاء من أجله، وأن عليه أن ينصرف لأن الوقت طال وهما وحدهما فى حجرة المدرسين، وعاد يواصل ادّعاءه أنه إنما جاء للاعتذار لا أكثر.
ـ لا عليك، يتصورون أنك تعرض مشروعا للصلح.
ـ قلت لك إننا شعب طيب.
ـ إننا شعب جبان.
-4-
ميراث فريد – صف طويل من الكرّاسات ذات الـ 64 صفحة، مليئة بالكلام السام، ما ذنبى أنا إن كنت ابن غريب الأناضولى، وما ذنبى أننى لم أر أبى إلا من كراسات بالِيَة كلها إنكار وسب ونفى؟ كتابة مجسمة، كتابة مثل مشتل شوك يسقى من مياه الصرف، هل توجد حروف شائكة بكل هذه القسوة، أشعر بها تخزق عينى، أشعر بلذع الصبار فى حلقى، أشم رائحتها النتنة وأنا أقرأها، لماذا قرأت منها ما قرأت، مازال تأثيرها نافذا يتجدد، لم أتبين إلا مؤخرا أن هذه الكراريس هى أبى الذى ولدت من ظهره، لم أحدثكِ عما وصلنى منها يا ثريا ولا عنه، ومن أين لى أن أحدثك عنه؟ أنت تعرفينه أكثر منى، كان جاركم، يخيل إلى أننى لم أره أبدا، كنت فى الثالثة؟ لست أدرى؟ لا أذكر.
ـ خزَّنتُها بعيدا عنى فى صندوق قديم، أرجع إليها أحيانا وأنا كاره غضبان، لا أستطيع أن أحرقها، ولا أستطيع أن أقرأ منها كل مرة سوى صفحة أو بعض صفحة، هى تصدك أولا بأول، تصدُّك قبل أن تمزقها.
ـ كان يمكن أن تخرج منها بشئ.
ـ خرجت من بعضها، بما تيسر، وكان كافيا لتعاسة خمسين معى.
هى لم تسأله، وهو لم يخبرها كيف كانت حروفها كالشظايا الملتهبة، لكلماتها مرارة رخوة تثير الغثيان بقدر ما تدعوك للمنازلة، لمَ كل هذه القسوة؟، الكراسة الوحيدة المختلفة التى احتفظتُ بها خارج الصندوق كانت تلك التى سجل فيها علاقته بأمى، وهى هى التى سجـَّل فيها موت صديقة له اسمها صفية، على ما أذكر، كان يعتقد أنها انتحرت، فى هذه الكراسة، كدت ألمحُ محاولات تراجعه، لكن أبدا، مات أو اختفى أو انتحر، لست متأكدا، لا أعرف متى مات، إن كان قد مات، هل كانت أمى تحبه؟ لا أعلم، كانت لا تردّ على أسئلتى عنه إلا بالدعاء له – ولنا- بالمغفرة، زوج أمى، عم سليمان، هو أبى الحقيقى، هو أكثر من أبى، هو غير أبى، لابد أن هناك لفظا أرقى وأجمل من هذا اللفظ “أبى” بعد أن شوهه غريب الأناضولى، عم سليمان هذا هو الذى كان دائما يمنعنى أن أتمادى فى السخط عليه، أو السخط عامة، كان يدعو لأبى بالرحمة، كان رائعا هذا الرجل، أبدا أنا لم أستوعب كل ما كانه عمى سليمان.
……………..
ونستكمل الأسبوع القادم
[1] – يحيى الرخاوى: رواية “ملحمة الرحيل والعوْد” الجزء الثالث من ثلاثية: “المشى على الصراط” (الطبعة الأولى 2007 الهيئة العامة للكتاب للثقافة)، و(الطبعة الثانية 2018 منشورات جمعية الطب النفسى التطورى) والكتاب متاح فى مكتبة الأنجلو المصرية وفى منفذ مستشفى دار المقطم للصحة النفسية شارع 10، وفى مركز الرخاوى للأبحاث 24 شارع 18 من شارع 9 مدينة المقطم، وبموقع المؤلف www.rakhawy.net