الاهرام 13 / 1 / 1979
من هو المجنون ومن هو العاقل
سؤال يجيب عليه أكبر حشد من الأطباء والعلماء المصريين والأجانب فى أول مؤتمر دولى للطب النفسى فى مصر
شهدت القاهرة جلسات أول مؤتمر دولى للطب النفسى بمصر والشرق الاوسط .. الذى نظمته الجمعية العالمية للطب النفسى بالاشتراك مع الجمعية المصرية للطب النفسى ووزارة الصحة .. واشترك فيه أكثر من 450 عالما وطبيبا نفسيا من أشهر العلماء والاطباء النفسيين والعالميين يمثلون 21 دولة اجنبية وعربية منها أمريكا وكندا وانجلترا وفرنسا والسويد والسعودية والكويت ومصر – قدموا للمؤتمر حصيلة 60 بحثا جديدا منها 20 بحثا لعلمائنا المصريين.
وقد افتتح المؤتمر السيد الدكتور ممدوح جبر وزير الصحة بالنيابة عن الرئيس محمد أنور السادات .. وقال سيادته فى حفل افتتاح المؤتمر : ان الصراع الاعظم الذى يواجهه الانسان عبر تاريخ تطوره هو صراعه بين ذاته وبين نتاج عقله, ولقد نجح الانسان فى الحفاظ على بقائه ضد كل ما هدد وجوده الا انه مازال يواصل السعى لمعرفة المزيد عن نفسه وعن وجوده وهدفه .. وبهذه المناسبة يهمنى أن أذكر ارتباط العلاج الجسمى والنفسى للانسان ارتباط النفسى والجسم فى البشر .. ومن هنا يأتى أهمية دور الطب النفسى المتزايد كأحد فنون العلاج واحد اعمدة الوقاية ضد ا يعترض الانسان فى معركة الحياة ..
اما الجلسات العلمية فقد ناقشت ستين بحثا ودراسة مختلفة تدور حول اسباب المرض النفسى .. والعلاجات طويلة المدى للامراض النفسية مثل العلاج بالعقاقير أو العلاج النفسى الجماعى .. وكذلك الطرق الجديدة للعلاج النفسى مثل العلاج الجراحى والعلاج عن طريق الحرمان من النوم! .. كما شملت الابحاث ايضا دراسات عن الانتحار والادمان كظواهر نفسية مرضية خطيرة فى المجتمعات المتحضرة .
وقد بدأت الجلسات العلمية للمؤتمر ببحث شيق للدكتور احمد عكاشة استاذ الطب النفسى بجامعة القاهرة اثبت فيه ان قدماء المصريين هم أول من شخصوا الامراض النفسية وقاموا بوصف شامل لها كما ثبت ذلك من خلال دراسته لــ 6 برديات خاصة برديات “كاهون” و “ابرش” التى توضح أن المصريين القدماء أرجعوا أعراض الاكتئاب واليأس والحزن واضطراب التفكير الى أسباب عضوية بينما لم يعرف الطب النفسى المعاصر الاسباب العضوية للمرض الفسى والعقلى الا منذ 50 سنة فقط .. كما ذكرت هذه البرديات أن “أمحتب” كان يعالج المرضى النفسيين بالاعشاب المهدئة والوسيقى ..
هذا عن علاج الامراض النفسية ايام قدماء المصريين أما عن طرق العلاج الحديثة فى الطب النفسى فقد ناقش المؤتمر هذه الطرق والتى تشمل العلاج النفسى الجماعى .. والعلاج الجراحى .. والعلاج بالليثيوم .. والعلاج من طريق الحرمان من النوم!!
العلاج النفسى الجماعي
والعلاج النفسى الجماعى هو من احدى الوسائل الحديثة للعلاج النفسى الطويل المدى .. والذى يعتمد على معالجة عدة أفراد سويا بواسطة معالج واحد او اكثر ..
ويقول الدكتور محمد شعلان أستاذ الطب النفسى بالازهر وزبو العلاج النفسى الجماعى فى مصر .. أن هذه الوسيلة العلاجية الحديثة تتميز ببعض الصفات التى لا تتوفر فى العلاج النفسى الفردى .. فهى ليست مجرد وسيلة اقتصادية لممارسة العلاج بالجملة ولكن لها مزايا أن المجموعة تمثل أرب شكل للواقع الاجتماعى الطبيعى حيث يتعامل الفرد الواحد مع عدة أفراد فى فريق أو مجموعة .. فالعلاج النفسى الجماعى يوفر له الاطار الذى يتدرب فيه فى التعامل مع مجموعة من الناس .. وكذلك نجد أن الجماعة لها أثر تشجيعى على أفرادها .. فالفرد مثلا قد يخجل من البكاء أمام المعالج .. ولكنه اذا كان فى مجموعة ورأى فردا آخر يبكى أو رأى المجموعة تشجعه فى التعبير عن نفسه فى صدق وحرية, فالجماعة فى هذه الحالة تتحول الى عنصر ميسر للتعبير الانفعالى له .. كذلك فان الجماعة تعطى للفرد البعد الاجتماعى لحجم شكواه .. فهو يعانى من شكوى يعتقد أنها ضخمة أو فريدة من نوعها الى أن يلتقى مع افراد آخرين يعانون من آلام مشابهة فيرى شكواه فى حجمها الحقيقى وبدون مبالغة, كما نجد ان الجماعة تعطى للفرد مرآة عن نفسه فاذا كان يعانى من احساس بالنقص أو القصور فقد يكتشف من خلال الجماعة أنه محبوب وله مزايا عديدة .. والعكس صحيح فاذا كان يعانى من العمى النسبى لعيوبه كان يكون مغرورا .. فقد يكتشف أيضا من خلال تعامل الجماعة معه هذه العيوب .. ونظرا لتكوين الجماعة كوحدة متماسكة
د. حلمى غالي
يعاون بعضهم البعض فانه يستطيع من خلال هذه العلاقة الموجبة أن يتحمل قدرا من النقد أو الهجوم قد لا يتحمله قدرا من النقد أو الهجوم قد لا يتحمله فى أطار آخر, لذلك فأنه يتقبل مشاعره العدوانية اكثر من ذى قبل مما يعاونه على التخلص من كثير من المشاعر المكبوتة, فكثيرا ما يكون المرض النفسى ناتجا عن صراع داخلى بين رغبات متعارضة محرمة أهمها الرغبات العدوانية والرغبات الجنسية
د. رفعت محفوظ
.. فاذا ما اكتشف ان الجماعة تسمح له بالحديث عن تلك الرغبات وبالتعبير عن الانفعالات المصاحبة لها .. فان ذلك يعاونه على اخراجها فى الضوء وبالتالى التحكم فيها بطريقة واعية تعاونه على التكيف مع المجتمع.
قد يبدو من الصعب أن يتحدث الفرد عن اسراره الداخلية امام مجموعة . ولكن الذى يحدث انه حينما يسمع اردا آخر يتحدث عن اسراره فسرعان ما يتغلب على مخاوفه .. ويضيف د. شعلان ان العنصر الاساسى فى العلاج الجماعى ليس هو محتوى تلك الاسرار ولن الانفعال المصاحب له فمثلا قد تكون لدى زوجة رغبة مكبوتة فى العدوان على زوجها الذى تحبه .. هذا لا يعنى بالضرورة انها يجب لكى تعالج ان تتحدث مباشرة عن هذه الرغبة .. ولكنها قد تبدا بمجرد التعبير الانفعالى عن الغضب تجاه احد افراد المجموعة قد يمثل زوجها أو يتشابه معه – وربما لاسباب اخرى غير تلك التى تجعلها غاضبة عن زوجها – أن مجرد تعبير الغضب الذى تبديه قد يجعل تلك الرغبات العدوانية المكبوتة تظهر فى حيز الضوء مما ييسر لها القدرة على التحكم فيها .. وفى هذه الحالة فانها لن تخاف من الحديث عن تلك الرغبات امام المجموعة .. يلو ذلك مرحلة تتغلب فيها على خوفها من التعبير عن هذه المشاعر تجاه زوجها الحقيقى الامر الذى يعاونها على أن تنشأ معه علاقة صريحة وتقالية .. فتعبر عن غضبها منه وعدوانها تجاهه دون ان تخاف من فقدان حبه لها ..
ان مثل هذه المواجهة فى الجماعات العلاجية اصبحت مفيدة لدرجة انها تمارس الان فى جماعات اخرى لغير الاغراض العلاجية تعرف – بــ “جماعات المواجهة” وهى شبيهة بالجلسات العلاجية .. ولكنها تؤدى وظيفة مختلفة وهى معاونة الافراد الاسوياء على النمو والتطور وممارسة الحياة بصدق وتلقائية أكثر.
جراحة بالمخ للمتخلفين عقليا وعن دور العلاج الجراحى فى الطب النفسى – تقدم الدكتور سيد الجندى رئيس قسم جراحة المخ حديثة تجرى للاطفال المتخلفين عقليا شديدى التهيج الذين يميلون الى التخريب للحد من نشاطهم الحركى الزائد عن الحد الطبيعي.
وهذه العملية وتسمى “الستريو تاكتيك” يستعمل فيها جهاز خاص ملتحق به ابرة رفيعة .. وبواسطة حسابات معينة يمكن الوصول بالابرة من خارج الجمجمة الى النقطة المسئولة عن التصرفات غير الارادية فى عمق المخ ومركز الاعصاب السمبتاوية .. وقد اجريت هذه العملية على ثمانية اطفال حتى الان .. واعطت نتائج مشجعة حيث تجول هؤلاء الاطفال الى اطفال هادئين يمكن التعايش معهم .. ولا تجرى هذه العملية الا فى الحالات التى يفشل فيها العلاج الدوائى فى تهدئة هؤلاء الاطفال.
كما ناقش المؤتمر موضوع “العلاج بالحرمان من النوم” كطريقة من أحدث طرق العلاج النفسى المتبعة الان .. وقد تقدم الدكتور رفعت محفوظ مدير دار المقطم للصحة النفسية ببحث لدراسة أجراها عن “العلاج بالحرمان من النوم” كجزء من خطة متكاملة فى وسط علاجى .. وطبق هذا النوع من العلاج على ستة مرضى اربعة منهم مرضى فصاميين وواحد مصاب بالوسواس القهرى والاخير مصاب بحالة فقد الشهية العصبي.
والعلاج بالحرمان من النوم لفترة تتراوح من 24 – 27 ساعة متواصلة يشغل فيها وقت المريض فى هذه الفترة بالاستذكار والمناقشة مع الطبيب المعالج وبعض الاعمال اليدوية أو بالجرى وأخذ حمامات ولعب الرياضة مع الطبيب المعالج .. ولابد أنيشترك الطبيب المعالج أو مساعده بالتناوب مع المريض فى قضاه هذه الفترة .. والغرض من هذا النوع من العلاج أن المريض بعد هذه الفترة من الحرمان من النوم يكون اكثر تجاوبا فى العلاج وذا رؤية اوضح لاعراض مرضه
علاج الشيزوفرانيا بالعقاقير
وعن علاج الامراض النفسية والعقلية بالعقاقير تقدم الدكتور عمر شاهين رئيس قسم الطب النفسى بقصر العينى ببحث عن نتائج استخدام عقار البرفينازين لمرضى الفصام ..
وقد اجريت تلك الدراسة على 34 مريضا وتبين منها ان 38% منهم لحسنوا تحسنا كبيرا جدا و 18% منهم تحسنوا تحسنا طيبا, أما الباقى فتتفاوت درجات تحسنهم الى درجات أقل من ذلك .. وقد لوحظ ان تأثير العقار يكون افضل فى حالة وجود أعراض ايجابية لمرضى الفصام ومرضى الفصام “الشيزوفرانيا” .. هو مرض عقلى أساسا يبدأ فى أولى مراحل الشباب .. وأن كان قد يحدث فى بعض الاطفال .. وتبدا أعراض المرض بتدهور تدريجى فى شخصية المريض وفى طريقة تعامله مع المجتمع نتيجة لاضطرابات التفكير والوجدان .. فيبعد عن الواقع ويعيش فى عالم من صنعه .. والهدف من علاجه اعادته الى الواقع ثانيا .. وجدير بالذكر أن حوالى 25% من نزلاء المستشفيات العقلية من مرضى الفصام .. وان كان الاتجاه الحديث فى الطب النفسى الان كما يؤكد د. شاهين هو اطلاق هؤلاء المرضى خارج أسوار تلك المستشفيات. فأى مريض فصام لايمكن تفريقه من الشخص العادى .. الا فى بعض المواقف الصغيرة التى يتصور فيها نفسه أنه نابليون مثلا! أو أن هناك عصابة ما لترصد تحركاته وتريد أن تفتك به! ومثل هؤلاء المرضى لا خطر أبدا عليهم من أنفسهم بل أنه توجد حالات كثيرة لمرضى نفسيين يكون سلوكهم مضطربا أكثر من المريض الفصامى “العقلي” او فى معيشتهم وسط المجتمع, ولكن هناك فقط فئة قليلة من مرضى الفصام تكيفهم مع البيئة وصل الى حد لا يحتمل هؤلاء فقط هم الذين يجب ادخالهم مستشفيات الامراض العقلية وعلى كل حال فان علاج المرض العقلى أصبح الان أكثر سرعة من المرض النفسى .. فاذا ما اكتشف المرض العقلى فى المرحلة المبكرة فان علاجه لا يستغرق أكثر من 2 – 3 أسابيع بينما قد يطول علاج المريض النفسى لعدة سنين
الاتجاه الجديد الان:
اطلاق حرية المرضى العقليين
وحول نفس موضوع عدم حجز المرضى العقليين داخل الاسوار .. تحدث الدكتور حلمى غالى مدير مستشفى الصحة النفسية بالخانكة .. واوضح فى بحثه الى اى مدى يسمح للمريض العقلى أن يعيش وسط المجتمع .. ويقول د. غالى أن الاتجاه الجديد الان فى الطب النفسى اعتبار المريض العقلى انسانا عاديا ومن حقه الا يحسجن داخل أسوار المستشفي.. من الاخذ فى الاعتبار أن هناك بعض حالات يلزم حجزها فى المستشفى .. وهى الحالات التى لها تصرفات خطرة ضد المجتمع أو ضد المريض نفسه.. لذا يجب وضع قانون دولى للامراض العقلية يحدد بدقة نوعية وخطوره المريض العقلى الذى يجب حجزه .. حتى يحدث توازن بين حرية الانسان وحرية المجتمع .. فلا يتعدى أحدهما على الاخر .. فمثلا فى بعض البلاد طغى حق المجتمع على حق الفرد .. واسيء استعمال الطب العقلى فى هذا المجال .. واتخذ من مستشفيات الامراض العقلية منفى لغير المرغوب فيهم .. والعكس قد يحدث فمثلا هناك بلاد تطرفت فى اعطاء حرية الفرد على حساب حق المجتمع .. مما قد يودى الى كوارث .. مثل كارثة الانتحار الجماعى لجماعة “معبد الشعب” .. فقد ثبت أن “جيم جونز” رئيس تلك الجماعة مريض عقلى خطير ومع ذلك اطلق سراحه .. فلتج عن ذلك كارثة راح ضحيتها كثر من 900 شخص.
فالمرض العقلى فى حد ذاته لا يكفى ان يكون مبررا لوضع المريض فى المستشفى .. ولكن الجحز يجب ان يكون مبنيا على مدى خطورة هذا الانسان على المجتمع او على نفسه, فاذا كانت شأن حالة المريض ان تفقده ارادته .. فيحجز هذا المريض فى المستشفى الى أن يتم علاجه ويطلق سراحه .. وحجز المريض فى هذه الحالة لايكون تعديا عليحريته .. أنما حماية له أولا ولعائلته ثانيا .. فبفحص 196 مريضا عقليا من الذين اركبوا جرائم قتل .. وبدراسة صلة القرابة بين المريض والمجنى عليه .. ثبت ان 09 – مريضا منهم قتل شخصا أو أكثر يمت لهم بصلة قرابة من الدرجة الاولى “أى الاب أو الام الزوجة” اى حوالى 50% منهم .. وان 26 مريض آخر قتلوا أقارب لهم وان 44 مريضا فقط قتلوا اغرابا كم اثبتت تلك الدراسة ايضا ان مرضى الفصام هم اعلى نسبة فى الامراض العقلية التى يرتكب اصحابها جرائم .