نشرت فى جريدة الأخبار
6/8/1980
من مكاسب السلام .. فتح الملفات
لعل من أهم مكاسب السلام هو ما سمح لنا به من فتح ملفات حساباتنا وحساباتهم، ونحن – المصريين الان – قادرون على ذلمك دون شعور بالنقص أو بالذنب، ودون أوهام بالغرور، أو تسكين بالغفلة، لأننا وعينا لعبة الحرب والسلام باقتدار، ونحن اذ نفعل ذلك فى زمن السلم لابد أن تمتد حساباتنا للبشر كافة بما لنا من تاريخ وما علينا من التزام، ولعل الفريق الآخر يقدر موقعنا هذا فيحسن الإستماع الينا من خلال مصلحتنا البشرية المشتركة.
ومن أول الملفات الواجب اعادج فحصها بدقة هو (أثر انشاد دولة اسرائيل على الفكر السياسى الدينى وعلى المسيرة الحضارية للإنسان بشكل أوسع) . وحسابات السلام تتخطى مناورات القط والفأر .
وصائد الفخر والخجاء، فالإسرائيليون بشر قبل أن يكونوا اسراذيليين أو حتى يهودا، وما يضير البشر لابد أن يضيرهم، اللهم الا اذا كانوا بشرا فوق البشر، فلهم حساب أقسى وأمر .
وإن كانت ثمة جريمة قد حيكت للبشرية بغباء منقطع النظير بإنشاء هذه الدولة، أو أن كان خطأ تاريخى قد جاد نتيجة نقص فى الخسابات، فالواجب، وقد أصبح الأمر واقعا، أن نعيد فحص الملف برمته تقليلا من المضاعفات وتعديلا للمسار، لا يوحى أوهام القاء الشعوب فى البحر، ولكن من وحى حرصنا جميعا على صواب مسار البشرية وترشيد خطاها الحضارية .
والملف الذى أدعو الى التدقيق فيه اليوم هو ملك للتاريخ، وحساب التاريخ عسير فهو كجزء من ارادة الله سبحانه وتعالى يمهل ولا يهمل ومن لا يصدق فليخبرنا عن كذبة حربية أو عنصرية أو علمية أو أيدولوجية استطاعت أن تفلت من قبضته مهما حققت من نجاحات زائفة، ومهما تأخر الحساب الختامى، على أن هذا اليقين بعدل التاريخ والطمأنينة الى حكمة ليس مبررا للتخلى عن مسئولية التعجيل بإحقاق الحق أملا فى تعديل المسار .
أخفى الجرائم .. جميعا!
فمنذ انشاد اسرائيل والتاريخ يسجل سلسلة من الأخطاء والجرائم قد آن الأوان للنظر فيها دون تأجيل ذلك أن مبررات التأجيل (وهى الحرب والإستعداد للحرب وازالة اثار الحرب . الخ)
قد زالت من واقع السلام الشجاع . وقائمة الإتهام تشمل سلسلة من الجرائم:
فهناك جريمة أخذ البرئ بذنب المسئ (الفلسطينى والعربى يدفع ثمن جريمة النازى)
وهناك جريمة قتل الفرد الأعزل والمسلح على السواء وطرده من أرض أجداده (بما فى ذلك قتل الأجنة فى الأرحام والتلاميذ فى المدارس) وهناك جريمة الاستيلاد على الأرض وإذابة شخصية شعب بأكمله .
وكل هذه الجرائم رغم بشاعتها المزعجة أهون من الجريمة الكبرى التى اردت التنبيه اليها فى حديثى هذا، رغم انها أخفى الجرائم جميعا، وأعنى على وجه التحديد جريمة (احياء التعصب الدينى والغاء العقل) .
فالأفراد الذين قتلوا سيولدون من جديد، والشعب الذى شدر لابد سيعود مادام يريد، واسترداد الأرض أهون من هذا وذاك، لكن هذا النموذج البشع الذى أصبح كأنه نموذج النجاح العصرى الفريد ذلك النموذج الذى قدمه قيام دولة اسرائيل على أساس دينى هو الخطر كل الخطر لا على الشرق الأوسط فحسب، بل على العالم أجمع بلا خيار .
تدعيم الولاء .. المزدوج
ولا ضرب لذلك مثلين محددين يوضحان هذا الخطر الذى صاحب قيام هذه الدولة بوجه خاص، قيم جديدة خطرة ظهرت وكأنها مفتاح النجاح .
أما القيمة الأولى فهى: تدعيم قيمة الولاء المزدوج:
– ان اسرائيل قد استنت هذه السنهواعتبرتها أساس وجودها ليس فقط فى مرحلة الإنشاء، وإنما استمر استعمال هذا المبدأ وكأنه هو الأصل، وتمادى الأمر الى درجة الإبتزاز عن طرقه، وبدأ للمشاهد العادى أنه مبدأ واجب اتباعه كلك ذى دين مخلص، ومادام وقد نجح كما تصوره وتتاجر به اسراذيل فلم لا ينجح عند الاخرين؟ وليس لأحد – قياسا – أن يلوم الأقليات فى كل مكان أن يكون ولاؤها للوطن بالقدر الذى يحقق مصالحهغ هى، ويكون ولاؤها لوطن آخر فيه أغلبية من دينها ومذهبها باعتباره (ولى زمرها) ولو فى الشدائد والكروب . (لا حظ علقة الغرام السرى بين بعض فئات لبنان وفرنسا مثلا).
– والأدهى من ذلك أن محترفى السياسةعلى الجانبين قد بدأوا يمسكون بأوراق اللعبة، يتبارزون بها فيما بينهم على حساب كل قيمة حضارية وخلقية، وأصبح التهييج والإثارة يدخلان من باب اختلاف المذاهب والملل، لا من صراع الأفكار والتنافس على الأنفع والأبقي، وهى ردة أبشع من ردة العصبية الجاهلية واللوم على من سنها، ومن عمل بها، ومن ساعد على انجاحها، والبادى أظلم (لاحظ اثارة شيعة العراق وسنيى ايران ومسلمى التحاد السوفيتي، وسنيى سوريا.. الخ ..الخ)
الغاء العقل لحساب النقل
والمثال الثانى الذى يحدد حجم الجريمة الكبرى التى تمت تنجاح اسرائيل المؤقت هو ما أصاب المسيرة الإنسانية من الغاد العقل لحساب النقل (أو ما يشاع أنه النقل) .
ذلك أن مجرد السماح لطرف من الأطراف بالحديث – مجردالحدين – عن تخطيط دولة على أساس نص يقول انه مقدس، وبالتالى هو واجب النتفيذ خشية الذهاب الى النار وبئس المصير .
أقول مجرد السماح بهذا المنطق بأى درجة وتحت أى ضغط، ومقابل أى رشوة، هو فتح الباب لكل صاحب دين أن يعلن ما يقدس، يفسره كما يشاء، ويحارب من أجله كما يستطيع (بما فى ذلك الأسلحة النووية) لا يلومه فى ذلك لائم، لأن كل حروب الدنيا المحدودة لا تساوى أن يعذب فى النار الى الأبد لمخالفته هذا النص حتى لو كان ذلك اعتمادا على قرارات مجموع الأمم .. أو ترجنحا لصالح كافة البشر، ورغم أن الخطر، والخطأ ظاهر للعيان الا اننا لم ننتبه اليه بالقدار الكافى ال بعد ثورة ايران العظيمة، ثم بداية الإختلافات المللية، والمناورات الدينية – المذهبية – الإقتصادية المختلطة !
أقول أن المجتمع الدولى لو سمح بأى شئ من هذا القبيل فهى الحروب الصليبية الساحقة فى لمح البصر بلا بديل، واذا لم يسمح فوجود اسرائيل ودعائم امتمرارها مهزوز من قاع القاع، مالم تغير بناؤها الأيديولوجى من أساسه وهذا ما يفرضه عليها السلام فرضا والحمد لله .
اشمعنى .. اسرائيل؟
واكتفى بهذا المثالين اللذين يمكن لقياس عليهما الى كل الأبعاد وأى محب للإنسان، مقدر لما حصل عليه من مكاسب، حريص على استمرار نوعه، فخور بموضوعية وعية، عليه أن يتأمل يتأمل الأمر بما يستأهل من خطر، فما يسمح به المجتمع الدولى وكل انسان فى كل شبر على هذه المعمورة بما فى ذلك داخل اسرائيل، هو مسئوليتنا جميعا، وهو قدرنا جميعا بعد أن اختفت المسافات، وما نرضاه اليوم لقلة من الناس تحت أى تبرير قد يبدو محدود الثر بقدر عدد هذه القلة، هو فى الحقيقة بالغ الأثر من حيث تشويه القيم البشرية، والتراجع عن المكاسب الحضارية .
ولابد أن أعلن من موقع مصرى متواضع يهمه كل انسان من أول مواصنيه حتى آخر العالم (بما فى ذلك الإسرائيليون البشر أن ارتضوا القانون العام)، أعلن المخاطر والمحاذير التى تتراءى لى نتيجة التهاون فى السماح بأى نكسة للقيم الإنسانية، ارضاء لفئة محدودة، أو رفعا لظلم متصور، اذ أن أخشى ما أخشاه أنن تكون بعض المضاعفا التى تحيط بنا، وتهدد بالزيادة، نابعة كلهامن هذه النكسة التى علامتها الأولى (قيام اسرائيل)، والظن بنجاح القيمة التى استندت اليها . ومن هذه المخاطر الملوحة:
1- ان تتضخم الأحلام أمام الأقيات الدينية والمذهبية فى كل وطن، تحت أوهام الإضطهاد أو غرور التميز، فتطمع كل منها بقطعة أرض، ودويلة (اشمعنى اسرائيل) فينهار المجتمع الدولى .
2- ان يستسهل أصحاب الغرض من ساسة ومناورين أن يدخلوا الى الناس من المدخل الدينى، ليحققوا ما يتصورونه استراتيجية خفية .. وقد وضح هذا الاستسهال مؤخرا على الجانبين، وحجة الساسة المناورين فى ذلك ان هذا طريق ناجح لا محاله (بأمارة اسرائيل)، وفى هذا ما فيه من احتقار للعقل البشرى من ناحية وتشويه للأديان من ناحية اخرى وليس أدل على ذلك من أن يكون نفس الدين له الوان مختلفة، ومنطلقات مختلفة حسب موقعه من خط العرض (أو طريقة العرض) فالإسلام مثلا هو دين اليسار اللبنانى، واليمين الأفغانى، وشيعة الخومينى، وسنيى الصدام وعلوى الأسد، وسنيى الإخوان .. أما الإسلام الفطرة الحضارة التطور الإنسان؟
3- أن يصبح مبدأ الإبتزاز بالتجمعات الطائفية والمللية خطرا على مبدأ الديمقراطية ذات نفسه إذ يرتهن نجاح أى مرشح بمدى نجاحه فى رشوة أوخداع أفراد ملة بذاتها، لا بمدى ما يقدمه من أفكار منيرة، أو خطط مصلحة وثابة، وترتدالديمقراطية الى علاقات قبلية، بل وعلاقات صليبية متخلفة و .. و .. (اشمعنى كارتر) !
4- ان تصبح الدعوة السرية (أو العلنية) بين أصحاب كل دين أو فئة أو مذهب هى التكاثر بالعدد والتباهى بالكثرة، لأن توسيع القبيلة أهم من تنظيم الأسرة، ونحن مالنا مادمنا نشيل بعضنا البعض، (والجنة الخاصة) ستسعنا وزيادة، ولا حول ولا قوة الا بالله العلى العظيم .
وبعد:
فقد أكون مبالغا قليلا أوكثيرا فى مخاوفى، أو متعسفا فى تفسيراتى، الا أن حر ص المصرى بتاريخه والتزامه، على قيم البشر وهو مثل حرصه على سلامة أرضه مما قد يغفر لى بعض ما أكون قد بالغت فيه .
كما أنى خشيت على دعوة الإنسان فى كل انحاء الأرض وهو يتوب الى رشده باحثا عن جذوره الإيمانية بعد فشل الحلول المادية المغرورة، خشيت على هذه الدعوة الحضارية البناءة أن تمتصها تلك الصيحات القبلية قصيرة النظر .
وأخيرا فانى امتبعدت اصلا أن تكون هذه الأزمة العابرة التى لاحت فى افق هذا الوطن السمح أخيرا .. امتبعدت أن تكون نتاج مثل هذا التفكير الأصغر، أو التقمص الأغبى، اذ اننا شعب لايستطيع زن يتخلى عن مسئولياته الحضارية قدرا وتشريفا معا .
وبديهى أن حديثى هذا هو لصالح اسرائيل الواقع الملتزم بالإنسان، ولكنه تماما ضد اسرائيل الحلم .. الجسم الغريب الشوكة فى جسم البشرية، وعليهم أن يختاروا: أما القانون العام والعودة الى كل الناس، وأما التميز واحتكار أموال الأرض وجنات السماء، اذن فقد فضت على نفسها بكل حسابات التاريخ اللهم الا اذا انقرض الجنس البشرى قبل ذلك !!
هذه نتائج الفحص المبدئى للملف الأول، وهو مدين بشدة ومازالت المستندات غير كافية .