نشرت فى جريدة الأخبار
26/5/1980
من مكاسب السلام: الملف الثالث
حضارة.. وحضارة
أريد لنا.. وأردنا.. أريد بنا.. وأراد الله غير ذلك، وأمسكنا خيرا – على ما يبدو – بزمام أمورنا، ولكن الأمر لا ينبغى أن يقبصر على قصاذد الفخر لننشد مع ابن كلثوم: بأنا التاركون اذا سصطنا.. وأنا الآخذون اذا رضينا، لأن كل هذا الذى حدث ليس الا بداية، تتوقف نهايتها على مسارها الذى يتوقف بدوره على قدر استثمارنا لما نحن فيه وهو رائع وخطير معا، وهذا الإستثمار على جهود العمل والتعمير فحسب بل يمتد أصلا وأساسا الى مسئولية الوعى والتدبير حتما، وحتى هؤلاء التشككين فى جرعة ارادتنا الحرة يستطيعون من خلال العرق والوعى أن يسهموا فى انتهاز الفرصة بالبحث عن مواقع فكرية حديدة، وبذل عرق شريف جديد.
ونحن اذ نأمل زن يستمر العرق للتعمير حتى يوتى ثماره ويحسن توزيع ناتجه، لابد أن نسارع وفى نفس الوقت بتنمية الوعى للتدبير، والا.. وقد انهيت فحص الملف الثانى (المقال السابق) بالتساءل من المستوى الأعمق للصراع بيننا وبينهم فى مرحلة السلام، وقلت أنه صراع حضارة أمام حضارة أساسا وقبلا، فكيف كان ذلك ؟
أطرح رؤيتى:
ماذا تعنى اسرائيل وما تمثله:
(1) ان اسرائيل تمثل الحضارة الأوروبيةالمادية الحديثة (بالمعنى الأسطح للمادة) التى هى نتاج الوثنية الصناعية العملية بحلوها ومرها.
(2) ان الحضارة المذكورة ليست قاصرة على الحضارة الغربية الديمقراطية – وا يدور فى فلكها – بل هى هى الحضارة الإشتراكية السوفيتية – وما يدور فى فلكها – فهما ليست الا وجثين لعملة واحدة.
(3) ان الصراع الظاهرى بين وجهى هذه الحضارة قد قسمنا – هنا فى الداخل – بالتبعية والتقليد الى فريقين (يسميان يسارا ويمينا حسب تعليمات السادة) ونحن فى صراعنا مع بعضنا البعض (بديلا عن صراعنا معهم) قد قبلنا أن نطمس عقولنا بين طيات الزبد مستغرقين فى النقاش حول القشور بحيث لا يتخطس حديثنا وتفكيرنا بل ونبض وحداننا – المعايرة بامتلك مظاهر الحياة، أو الحقد عليها، أو البكاء على الحرمان منها، مع التوصية بتأجيل كل قضية – كل قضية فعلا حتى تتم الرفاهية الرخوة للجميع فى خدر شامل، ودمتم !
(4) ان هذه الحضارة لها أسماء مختلفة، ورغم أن الأسماء تبدو متناقضة للناظر المتعجل، الا أن الفاحص المدقق لابد وأن يدرك أنها هى هى، فهى الحضارة الغربية حينا والتكنولوجية حينا، والإشتراكية المادية، والوثنية الصليبية النهودية، وحتى الوجودية، الإنسانية، كلها رغم اختلاف التفاصيل والمنطلقات تتفق فى امرين: محدودية الأفق، وعنصرية النزعة (وخاصة فى مجالات التطبيق دون التنظير).
اذن فإن اسراذيل فى حقيقة الأمر هى الجرعة المركزة التى تمثل هذه الحضارة، وقديكون اإنشائها – رغم ما ترتب عليه من مصائب – فضل على البشرية لأنه فضح هذه الحضارة بطريقة لا تقبل المداراة وتكاد تفشل فى المناورة.
البديل.. والتعمية:
وحتى لو أدرك أى منا هذه المخاطر، فإنه قد يجد البديل جاهزا مستوردا من عندهم أيضا، فقد ظهر عندهم فريق من بائعى العرائس والدمى الحديثة على استعداد لأن يستبدل بما لا نريد من حضارتهم المادية الأسطح تماثيل أخرى كالتعاويذ: بهيجة المنظر براقة الألوان (مثل تاجر الروبابكيا الذى يبيع سميحة بالزجاجات)، وهم يعرضون علينا اذا كانت حضاراتهم لا تعجبنا بديلين (من عندنا حسب تصورهم) يضمنون بهما استمرار غفلتنا:
الأول: ما أسموه سحر الشرق الذى صاغوه كما تصوروه، ثم غلفوه فى أغلفة تناسب لغة العصر من أمثال قصص أدريس شاه (كان اسمها حكايات جحا أو نصر الدين قبل أن يعاد تغليفها) وذلك فى محاولة الإعلاء من شأن المجاذيب والترويج للتقويم التكنولوجى الطيف، فإذا سلبت عقولنا اللعبة اطمأنوا الى ماهم فيه، والى استمرارنا فيما نحن فيه.
والثانى: ماأسموه العودة الى الدين، والدين كما يتصورونه فيصورونه لنا يعنى التركيز على الطقوس والإستغراق فى التفاصيل واحياء التعصب والتميز المللى، والإستعمال السياسى من الظاهر فى الأزمات والإنتخابات، مغفلين عمدا أو جهلا معنى الدين الحضارى كموقف غائى وفعل يومى والتزام داخلى فى كل دقيقة وثانية من عمر كل انسان طول الوقت.
اللهاث.. أو العودة:
ولمزيد من الإيضاح فان الإختيارات التى طرحوها أمامنا – وربما قبلو السلام على أساسها – تتلخص فى اختيارين أساسيين:
أما اللهاث وراءهم فيما سبقونا فيه، بنفس عقليتهم ولغتهم، وحتى لو كان الفشل قد أدركهم، فعلينا أن نكرر فشلهم مع الغرق الهائل فى الموقع وسعة الخطوة ونظل ننتظر الوحى أن ينزل عليهم لننفذ ما نؤمر به، وهذا ما يتدو قيما يردده العامة والأطفال (لا أقصد المعنى الحرفى للعامة: جموعا ولا للأطفال: سنا) قائلين: لماذا نجحوا هم وفشلنا نحن ؟ (وكأنهم نجحوا وكأننا فشلنا)، أو كيف ننجح مثلهم؟ (لاحظ كلمة مثلهم).
- وأما العودة (لاحظ كلمة العودة) الى سحر الشرق( ياحلاوة) أو ظاهر الدين!
صعوبة هذا الحديث:
ولابد أن أعلن قبل أن استطرد أنى بما سبق قد ضربت أغلب البدائل بلا بديل، وبالتالى فلابد أن يبدو الحديث صعبا لأنهم عودونا أن نقرأ السهل لنعمل السهل ونرتاح، وأى حديث خارج الحدود التى رسموها لنا أنما هو دلالة على أنك غير فاهم أو غير مفهوم، فلكى يفهمك الناس الآن (كما أريد لنا، حماية لهم) لابد أن تتكلم عن الإشتراكية أو الحرمان أو الرفاهية أو الجوع أو التموين أو الجنة أو الحرام، كل هذا مسموح به وواضح أمره ومصفق له من بعض الفرق على أى من الجانبين، أما غير ذلك فهو الغموض، ذلك أن الإستقطاب المصرح به لنا ه أن يكون أحدنا أما يساريا أو يمينيا، أما رجعيا أو تقدميا، أم ا اشتراكيا أو رأسماليا، أما مسلما أو مسيحيا، مع أن كل هذه الإستقطابات التى صاغوها لنا لا تمثل الا صورة واحدة لحضارة واحدة هى التى حبسونا داخلها حماية لهم كما قلت حتى يجدوا البديل فنتبعهم، أو لا يجدوه فنتبعهم أيصا، ولا حول ولا قوة الا بالله العلى العظيم.
وأنا لاأملك فلسفة بديلة زو مقومات حضارة جاهزة ولكنى من موقع مواطن عادى (لا يتعلق الأمر بمجال تخصصه) أقول رأيى اجتهادا لاأكثر ولا أقل.
حضارة.. وحضارة:
ولا أمل فى هذه العجالة، أن أعرض البديل الحضارى الواجب الوعى به وتنميته وطرحه متحدنا مستنفرا، ولكنى فى نفس الوقت لا أعفى نفسى من وضع رؤوس مواضيع لعلها تحفز الفكير فيما ينبغى، وتفتح الآفاق لما يليق. فحضارة نموذح اسرائيل تضع الإنسان الفرد سيدا للكون بلا امتداد (لاحظ أن البعد الممتد لفئة محتكرة اياه ليس امتدادا بالضرورة)، كما تضع الرفاهية هما دوافع استمرارها، والفن غاية انجازها والمساواة زعم ديمقراطيتها، أما الحضارة البديلة التى قد يصلح لها مرحليا اسم الحضارج الإيمانية الكونية فهى تضع الإنسان حلقة وسطى فى نظام كونى أشمل، كماتضع استمرار التطور (لا الرفاهية) هدفا لها، والسعى الى التوازن التصعيدى (لا مجرد الإرواد) رافعها الأساسى والإبداع الخالقى لكل نواحى الحياة (لا الفن البديل) فخر النجازها، والعدل الواعى (لازعم المساواة) فضيلتها الكبرى.
ولا بد من تقريب المألة الى أقرب نموذج عملى ممكن الأدراك، والنموذج الذى يطرح نفسه على من موقع وطنى ودينى هو الصورج المشرقة لحضارة الإسلام (لا المسلمين الأواخر بعد أن شوهوا وتشوهوا خدعوا فانخدعوا، وذلك باعتبار الإسلام ختم الرسالات، وقمة نضجها من حيث دعوته لنقاء الفطرة وحتم التوحيد وقبول ا لتناقض سعيا للولاف واكرام الإنسان حاملا أمانة وعية، وهذا النموذج ليس دعوة لأن نحتكر دين بذاته مقومات حضارة البشرية الجددة، وانما هو تذكرة بكل دين فى فجر نبضه، وهو يشمل حتما كل الرسالات السماوية قبل أن تشوه، والثورات الإنسانية الساذرة فى نفس الإتجاه بنفس عمق الفوعى، فحضارة الإسلام بشكلها لنقى هى أمل يقبع فى وجدان كل مسلم (وغيرمسلم متى ما وعى عمق ما تقصد وأقصد)
وأخيرا فأنا لا أبغى من هذا الحديث أن اصور الصراع بيننا وبينهم فى صياغة عصبية دينية قبلية محدودة، ولكنى اطرحها قضية تحد فكرى حضارى: بين فكر مادى منهك متصدع (تمثله اسرائيل حتى لو لبس صورة هذا الدين المحدود) وبين فكر توحيدى منسجم ممتد نحو الخلود والشمول مستثمرا كل مكاسب الإنسانية عبر تاريخها مركزا على الصور النقية التى لم تلحقها التشويه.
وبعـد:
فإنى أعتقد أن هذا الحديث والتفكير فيه هو من صلب عملنا اليومى، ونحن اذا لم ننتبه الى هذه الملهاه المؤجلة الى مالا نهاية ونرفضها، فإننا نكون قد فرطنا فى الفرصة الحقيقية التى أتاحها لنا السلام وفرضها علينا الدين كل دين حق لم يشوه – وأوجبها تاريخنا الحضارى ومسئوليتنا نحو تكريم الإنسان كادحا الى ربه كدحا فملاقيه.