نشرت فى جريدة الأخبار
25/3/1992
من مفكرتى الرمضانية .. الشيخ سيد وجورباتشوف
فى ذلك اليوم ملأنى الرعب خوفا على الشيخ سيد .
كان يوم الوقفة الكبيرة، ونحن نصومه بفتوى من أمهاتنا انه من يصوم أول يوم ونصف الشهر وآخر يوم فكأنه صام الشهر كله .
نعم خفت على الشيخ سيد، عم الشيخ سيد، دكانه صغير جدا، لكن موقعه متميز، وهو بلحيته البيضاء وجسمه النحيف يجلس بين الناس فى تواضع لا يقارن باللمة التى تتجمع عند دكان العراقى المنافس على الناصية الأخرى .
كان يبيعنا الكراملة، والنعناع، وأكياس اللب الصغيرة، يمكن أن يشكك احيانا دون دفتر حتى للأطفال أمثالنا، وحين نزوغ من أقراننا نضع مشترياتنا فى حجرنا ونضع ذيلنا فى اسناننا حقيقة لا مجازا، رغم تنبيه امهاتنا الا نفعل فمن يضمن أن كنا نلبس شيئا تحت الجلباب أم لا !؟
كان صباح يوم الوقفة عير عصرها : فى العصر يكون الصعود الى الأسطح، ومعنا العيدان الحديد (الخاصة بتقليت الوقود فى الفرن) والملاعق ندق بها على العيدان ونحن ندعو : يابركة رمضان حطى فى كل مكان، يابركة ربنا حطى عندنا، أما فى الصباح فإننا نستغرق فى الإعداد للعيد والإطمئنان على الجلباب المخطط ذى الحفيف المعلن لجدته .
ومنذ ذلك الحين وزنا أتعجب من أن التهيؤ للفرحة وانتظارها هو أحسن من الغرحة نفسها، وكنا نغنى معا: بكره العيد ونعيد، وندبح أبوك الشيخ سيد، فى ذلك اليوم انتبهت فجأة الى مانقول، مع اننى كنت اردده هو منذ عامين دون هذا الوعى المرعب، لماذا يذتحون أبى الشيخ سيد ؟ وكيف يتركوننا لاحتكار العراقى الذى لايشكك ولا يبتسم، ويبلغ أهلنا أولا بزول على أى طلب كذا أو كذا ؟
ما الذى القى فى وعيى فجأة ان كلمات اغنيتنا هى حكم جاد جاهز للتنفيذ ؟ ما الذى قلبها غما هكذا فحرمنى فرحة الإعداد للعيد وفرحج صوم يوم يغنى عن صوم شهر حسب فتوى أمى ؟
نسيت الجوع والعطش ولم يبق الا خوفى على الشيخ سيد الذى يثق فينا، ، فيمنحنا الديون الميسرة مع أطول فترة سماح من وراء اهلنا ولا يشكونا لهم ابدا .
ولم أنم يومها، واختفت فرحة انتظار العيد، وكان أول مافعلته فى صباح العيد أن ذهبت زبحث عن الشيخ سيد وهل ذبحوه فعلا أم أنه مازال حيا يفتح دكانه، ومع أنه فتح دكانه فعلا فإن الخوف لم يفارقنى تماما خشية أن يكون التنفيذ قد تأجل للعام القادم .. فالذى يليه . فالذى يليه، من يدرى متى يصبح التهديد تنفيذا ؟
وحين كتبت عن هذه الذكرى فى الأهرام منذ حوالى عشرين عاما، افهمنى استاذ صديقى زميل ان هذه الأغنية لا تقال الا فى عيد الأضحي، وان الضحية، واننى – كعادتى – أخطأت الفهم صغيرا والتفسير كبيرا، وخجلت من جهلى لمدة ثلاثين عاما وعجبت اننى مازلت خائفا على ابويا الشيخ سيد حتى بعد موته !
وحين ذبحوا جورباتشوف فى عيد الديمقراطية تذكرت ابونا الشيخ سيد فدمعت عيناى عليهما معا.
رحمهما الله رحمة واسعة .