نشرت فى مجلة سطور
عدد مارس 2004
نبذة: قراءة نقدية لفكرة “البطل” تاريخا وسيرة دوراً مع إشارة إلى مفهوم “الأسطورة الذاتية”، وأن كل فرد – دون استثناء – هو مشروع بطل بوعى أو بدون وعى، وأن فكرة البطل (والبطولة) ليست قاصرة على بعض المتميزيين والقادة وأن الإنسان الفرد يخلق ذاته باستمرار، لا يستلمها جاهزة، ولا يقرها ساكنة، وأن البطولة الحقيقية هى فى الحفاظ على زخم هذا الإيقاع المتجدد لتخليق الذات، ثم إنه بعد فتح آفاق المعرفة للجميع بكل الوسائل تراجعت الحاجة اللحوح لتخليق بطل بين الحين والحين نعتمد عليه وننساق وراءه.
من تقديس البطل إلى تخليق الذات
أى شخص عادى هو “مشروع بطل” منذ الولادة بقدر ما هو أسطورة واعدة قابلة للنماء والتطور. إننا بحسن استعمال أدواتنا الأحدث وبمواصلة استثمار تواصلنا الحر يمكن أن تكون فرص كل منا فى الاقتراب من أسطورته الذاتية أكبر وآمن ومن ثم فى إطلاقها إلى ما تعد به من تواصل وإبداع. إن صح ذلك فإن فيه ما يغنى عن صناعة الأبطال حتى نسقط عليهم ما عجزنا عن تحقيقه بأنفسنا لأنفسنا وللناس.
مسيرة التطور تعلمنا كيف أن وسائل الحياة تغير الأحياء الذين يصنعونها فيرتقون بها إلى ما تعد به فطرتهم ليتجاوزوها ثم يبدعون ما هو أقدر إلى ما هو أرقى فأرقى هذا إذا كان للنوع ألا ينقرض. إن ما أتيح للإنسان المعاصر من أدوات حديثة كادت تصبح امتدادا لتركيبه البيولوجى قد غيرت وتغير فى تشكيلات وعيه وطبيعة علاقاته ومنظومات قيمه. لا شيء يدوم إلا الحركة. علينا أن نواكبها بإعادة النظر نقدا ثم تصحيحا فانطلاقا.
لعل فى هذا ما يدعونا إلى مراجعة كل ما هو نحن أو ما نتصور أنه نحن بجهد لا يكل. إن تاريخ “البطل” و”البطولة” يمثل منظومة محورية عبر تاريخ الحياة البشرية برمتها يتجلى ذلك بوجه خاص فى الملاحم الكلاسيكية والشعبية على حد سواء كما يتجلى فى الأسطورة وفى واقع الحياة معا. إن المراجع لما آلت إليه قيمة ما يسمى البطولة قد يتبين احتمال قرب انتهاء عمرها الافتراضى ليحل محلها ما لا نعرف مما يعد بما يمكن.
نبدأ من التاريخ
ما هى حقيقة حكاية الأبطال الذين يحكى عنهم التاريخ هل وجدوا فعلا بهذا الحجم على تلك الصورة أم أننا نحن الذين صنعناهم للقيام بدور محدد يغطى حاجتنا إلى أن نتصور أن مثل هذا الشخص “التاريخي” إن لم يوجد بيننا الآن فقد وجد من قبل وبالتالى فلا مانع أن نحلم بأن نكونه أو على الأقل أن يكون بيننا مستقبلا السير الذاتية لمثل هؤلاء الأبطال هى أقرب إلى الملهاة أما السير التاريخية فهى لا تعدو أن تكون اجتهادات تقريبية مهما بلغت دقة التوثيق.
أصبح من الضرورى أن ننتبه إلى حقيقة ما يصلنا حين نقرأ سيرة بطل ما (تحت أى مسمى وفى أى حقبة تاريخية) . مجرد أن نتدكر أن مثل هذا البطل كان إنسانا ينام ويصحو ويتكلم وينسى ويحلم ويلهو ويأكل ويخرج…. إلخ يمكن أن يجعل نظرتنا تختلف إليه وربما يتغير تقديرنا له. أنا لا أزعم بذلك أنه سوف يبدو اقل من حجمه بالضرورة وإنما أتصور أنه سوف يتمثل لنا بشكل مختلف. أميل فى هذه المداخلة التى لا يمكن أن تتجاوز إشارات محدودة إلى قضية بهذا الحجم أن أتجنب الاستشهاد بأسماء بذاتها حتى لا أستدرج إلى حوار توثيقى مع أو ضد أى اسم لبطل محدد تكفينى الدعوة لقراءة الروايات المختلفة حول أى من “اخناتون” أو “عمرو بن العاص” أو ” الإسكندر الأكبر” أو “نابليون” أو غيرهم نقرأهم “بما هم” ما أمكن ذلك وليس كما نحب أن نراهم أو كما زيفهم التاريخ لأغراض ليست كلها سيئة.
كثير من الأبطال كان لهم دورهم الإيجابى وإنجازاتهم الرائعة وقد نالوا عليها ما يستحقون وما لا يستحقون: شكرا وذكرى وتقديسا أحيانا لكن الأوان قد آن للنظر إلى الجانب الآخر من الحكاية.
مجالات التجليات:
عبر التاريخ وحتى الآن: لم يعدم الناس وسيلة لتخليق الأبطال ما وجدوا إلى ذلك سبيلا فإن لم يتمكنوا من ذلك على أرض الواقع فإنهم يصنعونهم صناعة فيما يمارسون من فنون مختلفة على مستويات متعددة: من أول الملاحم الشعبية حتى التصوير التشكيلى مرورا بفن الحكى طولا وعرضا. الأمثلة أشهر من أن يشار إليها تفصيلا (مثلا: الزناتى خليفة وأبو زيد الهلالى من أبطال الملاحم الشعبية). ثم إن الإبداع الحكائى قد تناول القضية من أبعاد أروع وربما أكثر مصداقية من توثيق التاريخ (راجع فتوات نجيب محفوظ عموما ثم خاصة فى ملحمة الحرافيش) ثم بدا مؤخرا أنه لم تعد هناك حاجة أصلا لأن يركز أى عمل إبداعى على بطل فرد أو يتمحور حول بطل بذاته.
ثمة منطقة أخرى بدت لى أكثر مقاومة للتنازل عن استعمال ما قدرت أنه بطولة ألا وهى منطقة التميز الفائق فى مجالات المهارات الرياضية خاصة والذهنية أحيانا. إن أكثر ما تستعمل فيه ألفاظ “البطولة” فى أيامنا هذه هى مجالات تبدو أقل قسوة وأهون خداعا وربما أكثر تحضرا وأقرب إمتاعا لكنها أبهت ظلا وأسطح خيالا. لا يمر يوم علينا حاليا إلا ونحن نسمع عن “بطولة” الدورى “وبطل” ألعاب القوى ثم “بطل” الشطرنج “وبطل” البريدج ثم بطولة المجموعات على المستوى الإقليمى حتى العالمي. ترى هل يعنى ذلك أننا أزحنا كلمة البطولة من مجالات استعمالاتها التاريخية الأصلية إلى مجالات يمكن أن تحتوى حاجة الناس إلى خلق أبطال المهارة والتنافس الذين يسيرون على الأرض من حولنا مثلنا
بطولات “مضروبة”:
إن من أهم أفضال ما يسمى الديمقراطية أنها حين طبقت بشكل جيد حدت من إلحاح ظهور ودوام دور ما يسمى “البطل” (الزائف عادة). أثبتت الديمقراطية الصحيحة أنها قادرة- إذا مورست بشكل جاد وعملي- على أن تلغى من قاموس البطولة صورتين متميزتين هما: صورة “الزعيم البطل- الأوحد” وكذلك صورة “الزعيم -البطل- الخالد ( وليس فقط خالد الذكر) أضف إلى ذلك أن ما يسمى “الشفافية” وهى إحدى آليات الديمقراطية راحت تلاحق هؤلاء الأبطال أولا بأول فتخفف أو تحول دون تقديسهم أو هى تسارع بتعريتهم بعد ذلك بقليل. ومن ثم تحول دون تمنطقهم أنواط البطولة بلا مؤهلات. هكذا لم تعد البطولة ترتبط بالسلطة تلقائيا.
مؤخرا حلت ألاعيب الإعلام الأحدث عبر الفضاء محل الملاحم الشعبية كما حلت القنابل الذكية محل الفروسية كذلك حلت الشعارات البراقة محل الإغاثة والشهامة والإجارة. ترتب على ذلك أن ظهرت بطولات براقة زائفة ولو لفترة قصيرة لكنها سرعان ما تتعرى أمام خبطات الواقع فضلا عن ملاحقة الوعى الشعبى (من خلال الشفافية). لا يمكن لمثل كلينتون خاصة بعد حكاية الست مونيكا بتفاصيلها أن يستحق لقب البطولة مهما بلغت جاذبيته الجنسية أو احتد ذكاؤه أوخف ظلـــه، كما لا يمكن لمثل دبليو بوش أن يصبح بطلا وهو بهذا الغباء الذى ملأت أخباره صحف العالم بتعليقاتها ورسومها الكاريكاتيريه بما حال ويحول دون أن يعتلى كرسى البطولة الذى يحلم به، مهما بلغ عدد ضحاياه فى أفغانستان أو العراق أو فلسطين وحتى إذا نجح أحد هؤلاء الأبطال أن يفلت من قبضة الفضائح والشفافية والنقد الملاحق، فإن تحديد مدة جلوسه على كرسيه بفترة محدودة فى البلاد المتحضرة سرعان ما سينزله عن عرشه المزعوم برقة دستورية وإلا لما سمعنا عن رؤساء سابقين فى بلد مثل أمريكا يزرعون الفول السودانى أو يعملون كمقدمى برامج تليفزيونية أو يسترزقون من كتابة مذكراتهم بعد رحيلهم.
الأمر يختلف فى البلاد المتخلفة مثلنا، فما أن يعتلى أى عابر سبيل كرسى السلطة حتى تظهر عبقريته التى كانت كامنة فى الظل ثم تتلاحق معجزاته، ويحتد حدسه ويتفرد حضوره الذى ليس كمثله شيي، ومع ذلك فالوعى الشعبى يلاحقه بالنكات والنقد حتى لا يتمتع طويلا بصورته المصنوعة، اللهم إلا إذا قضى فى لحظة باكرة تناسب هشاشته ومع ذلك فقد ينصب بطلا تاريخيا تكملة للحلم الذى كان يمثله.
لماذا احتاج ـ و يحتاج ـ الناس إلى تصنيع الأبطال؟
آن الآوان أن نعرج قليلا إلى جذور حاجة الناس إلى خلق أبطال أكثر من التركيز على حاجة البطل أن يكون كذلك، سوف أكتفى فى هذا الصدد بثلاث مداخلات لتفسير حاجتنا إلى تخليق البطل
1) الحاجة إلى الاعتماد
الكائن البشرى لا يكون كذلك إلا فى حضور وعيه فى مواجهة وعى “آخر” من نفس نوعه على أرض واقعهما معا.. يستتبع ذلك ما يمكن أن يسمى حق الاعتمادية (المتبادلة فى النهاية). نحن عادة لا نعترف بهذا الحق ظاهرا وتماما حين يتمادى فريق منا فى الأخذ والتبعية دون العطاء والمسئولية بالتبادل، ومع إقرار حقيقة الاختلافات الفردية فإن الناتج الموضوعى هو أن أى جماعة من الناس سوف تفرز قائدا لها تعتمد عليه، ولو فى مجال بذاته، ولو لفترة معينة. .يتخلق القائد أو الرئيس بطلا بعد ذلك حين يتسع مجال تأثيره، وتتعدد مجالات نفوذه، وتطول مدة الاعتماد عليه.
2) إسقاط الأسطورة الذاتية
لكل منا أسطورته الذاتية وهى منظومة تكونت وتتكون من التاريخ الشخصى ممتدا فى النوع، وهى منظومة غائرة غامضة وإن كانت راسخة متمادية مبدعة أبدا (أنظر بعد). هذه المنظومة تقترب من الوعى وتبعد عنه بقدر نشاط عملية النمو الفردى وسلامة خطواتها، إلا أن معظمنا فى غالب الأحوال يتعامل معها بالحيل المناسبة مرحلة تلو الأخرى بحسب زخم إيقاع مسيرة نموه، ودفع نبض حركية إبداع ذاته، من تلك الحيل التى نلجأ إليها حين نفشل فى التعامل مع أسطورتنا الذاتية أن نسقطها خارجنا على بعض من يمكن أن يمثلها أو يرمز لها ليس فقط بما هو وإنما أيضا بما نتصوره فيه، فينشأ البطل.
3) وهم الخلود
من بين ما يدعونا إلى تخليق البطل واتباعه إلحاح داخلى (وخارجي) بأننا كيانات باقية، أو لابد أن تظل باقية. نحن نعجز عن تحقيق ذلك فى واقعنا الشخصى (وحتى فى مخيلتنا) من هنا يصبح البطل مسقطا مناسبا ليس فقط لأسطورتنا الذاتية، وإنما لخلودنا الملوح مع استحالته فينا حالا .البطل من هذا المنطلق يقوم باللازم حيا وميتا) تذكر أن أبطال التاريخ يوصفون عادة بالخلود، وإن كانت الصياغة قد تلتوى لنستعمل تعبير “خالد الذكر” بدلا من “الخالد”)
التعرية:
تعرت صورة البطل تاريخا حين اكتشفنا أكثر وأكثر أن البطولة فى عدد غير قليل من الحالات تقيم بعدد القتلى (الذين يقتلهم البطل)، أو عدد النساء اللائى يسبيهن (أو يتزوجهم،)، البطل، أو عدد (وحجم) المفاجآت التى يـبهــر بها البطل تابعيه، أو مساحة الأراضى التى يغتصبها البطل (أو يغير عليها)، أو عدد الأكاذيب التى يروجها البطل (أو يروجونها عنه)، أو عدد الحيل التى يحذقها البطل، أو عدد البلهاء الذين ينخدعون فى البطل، أو عدد الوعود المؤجلة التى يلوح بها البطل، أو كل ذلك أو غير ذلك.
على الجانب الآخر انكشف البطل المعاصر حين عجز عن القيام بإشباع تلك الاحتياجات المسئولة عن تصنيعه وتقديسه والحفاظ عليه، أضف إلى ذلك حقيقة أنه لم تعد مرحلة الإنسان الحالية تسمح بتفريخ أبطال قادرين على استيعاب حاجتنا إليهم بالصورة التى تحققت عبر التاريخ وسجلت أساسا فى الملاحم والاساطير.
.. شعارات ومهارب
لما وصل الأمر إلى هذا التعرى والموضعة قفزت إلى السطح عدة محاولات :بعضها أقرب إلى الهرب، وبعضها يلوح كبديل، وبعضها يعد بحل ما: أول هذه المهارب كان الإنكار المباشر الذى عادة ما يعلن من جانب البطل نفسه فى صورة شعار يطلقه البطل وهو يعلن (فى زهو متواضع!!) أنه ” ليس بطلا ولا حاجة !!” يريد أن يقنعنا أنه مثله مثل عامة الناس جدا، فيبدو ذلك أقرب إلى النكتة، خاصة حين يصدقه الناس أو يزعمون ذلك،. كذلك كثيرا ما تعلو الأصوات زاعقة (خصوصا لإخفاء الهزائم !!) أن “الشعب هو البطل” ليتم الإخفاء بالتجريد والتمويه.لا أحد يعرف شخصا اسمه “الشعب” لينصبه بطلا يعتمد عليه، ولا الشعب نفسه “عنده فكرة”.
كذلك نلاحظ كيف يتصاعد الحديث بين الحين والحين (مثل هذا المقال ) أنه لم تعد بنا حاجة إلى البطل أصلا، ذلك لأن “الفرد العادي” هو الجدير بلقب البطل دون منازع !!فيتحقق بذلك نفس الخداع والتمويه.
ومن ذلك أيضا تلك الإعلانات (الشعارات) التى تختصر آلام حياتنا بكل مشاكلها إلى زعم وثقانى سحرى يلوحون به أنه الحل، مثل أن “الإسلام هو الحل” أو “التنوير هو الحل” أو “الديمقراطية هى الحل” أو “العلم هو الحل” أو “المعلومات هى الحل” هذه الكلمات السحرية أصبحت تقوم مقام البطل إذ نسقط عليها-أيضا-ما نعجز عن تحقيقه على مسار تطورنا الذاتي.
بدائل أحد أيضا: بعد أن انكشف دور البطل بهذه الصورة التى تكاد تعلن انتهاء (أو قرب انتهاء) عمره الافتراضي، ومع عجز الشعارات والمهارب والحيل عن طمس حاجتنا إلى تصنيع أبطال ينوبون عنا فى تحقيق أسطورتنا الذاتية، ظهرت بدائل جديدة لاتدعى البطولة بشكل مباشر، لكنها تقوم بدورها المعدل إذ نتوجها بتاج البطولة باستعمال الجديد من الألعاب والحيل الأحدث. من ذلك أن نختلق بطلا آليا أو تقنيا أو حتى رمزيا فى صورة تقديس ما يسمى المعلومات، أو الروبوتات الأحدث فالأحدث.
وبعد هذه المهارب جميعا تبدو وكأنها نقلة نوعية تحاول أن تعلن الاستغناء عن تخليق البطل خارجنا، وأن الدور الذى كان يمكن أن يؤديه البطل قد انتهى باعتبار أن الإنسان المعاصر قادر على أن يسير أموره دون بطل أو بطولة. هذا غير صحيح طالما أننا لم نهيئ له بعد فرص اعتمادية أخري، وخلود آخر، ومسار أخر لتخليق أسطورته الذاتية (أنظر بعد)
من الجلى أن عمر هذه البدائل قصير لأن أى وهم مصنوع أو مجرد، مهما بلغت دقته أوحذقت مهارته أو لوح بوعوده، لا يمكن أن يكون بديلا مناسبا لتخليق أسطورتنا الذاتية التى تكونت عبر ملايين السنين من الحوار والتفاعل والجدل الذى مارسته الأحياء طول الوقت مع المحيط والكون بكل مستوياته، ثم توجهه الإنسان بوعيه وعقله وإبداعه.
تحقيق الذات أم تخليقها إبداعا ممتدا؟
اقترن زعمنا بانتهاء دور البطل بحلمنا ومحاولتنا أيضا أن نؤكد ما يسمى “تحقيق الذات”. شاع هذا المفهوم كأنه غاية المراد نتيجة للإعلاء من قيمة “الحرية الفردية” على مستوى الوعى والسلوك الظاهري، فكانت النتيجة هى تعميق الاختلافات الفردية بشكل مستعرض، على حساب إبداع ما هو ذات تتخلق باستمرار مع ذات وذوات أخرى فأخري: إبداعا وتطورا.
إن التركيز على ترسيخ الحدود الفردية تأكيدا لتحقيق الذات يكاد يفترض أن لكل منا ذاتا قائمة، ما عليه إلا أن يؤكدها ليحدد معالمها أكثر فأكثر من خلال ممارسة حقوق مكتوبة. غلب هذا الاتجاه خاصة بعد الحرب العالمية الثانية وحتى السبعينيات تقريبا حين بدأت المراجعات تتمادى (مع أنها لم تكن جديدة تماما) بدءا من كارل جوستاف يونج وصولا إلى سيلفانو أريتى ثم امتدادا إلى مدارس عبر الشخصية فى علم النفس والطب النفس فإتضح أن ما يسمى تحقيق الذات ليس إلا مرحلة متواضعة مؤقتة على مسار أطول وأعمق يؤكد حيوية الجدل الحيوى والنبض الحيوى . ثم راح يتأكد أكثر فأكثر أن الذات لا تتحقق إلا لتمتد، ولا تتحدد معالمها إلا لتعيد النظر فى هذه الحدود وتلك المعالم دورة نمائية بعد دورة، وإبداعا نابضا بعد إبداع ،انطلاقا من “مشروع وجود” كل منا وهو ما أطلقت عليه اسما استعرته من “جوزيف كامبل” وهو “الاسطورة الذاتية”.
الخلاصة:
إن البطل يتخلق ويتنامى ثم يقدس ليخلد، بقدر عجزنا عن تخليق أنفسنا، بإبداع مفتوح النهاية، انطلاقا من أسطورتنا الذاتية، وكلما زادت فرص تخليق أسطورتنا لنكونها فى جدل متنام (بالإبداع والتصوف والإيمان واستمرار النمو الذاتي) تراجعت حاجتنا إلى تخليق أسطورة البطل خارجنا إسقاطا فتقديسا.
مسار النمو من الأسطورة الذاتية إلى إبداع الذات المتجدد
لا يمكن فى حدود هذه المقدمة إلا أن نكتفى بالإشارة إلى الخطوط العريضة لتلك الفروض التى نرجو من خلالها أن نفسر تراجع دور البطل من ناحية، مع زيادة فرص الإبداع لتخليق ذواتنا باستمرار من ناحية أخري:
أولا: يحمل كل منا تاريخ الحياة برمتها منذ ملايين السنين
ثانيا: تتوج هذا التاريخ بتطور الإنسان نوعا واعيا له عقل، ووعي، وحرية (بدرجة ما)
ثالثا: استوعب الإبداع المحكى والمسجل فى الأسطورة التاريخيه بشكل خاص، بعض معالم هذا التاريخ الذى ظهر فى شكل الملاحم والعقائد وغيرها
رابعا: تطورت الأساطير بالذات بما احتوت من زخم البطولات لتعلن بعض هذا التاريخ خارجنا وعلينا أن نتعامل معها كمرحلة لا أكثر حتى لا تحل محل حركية وإبداع أسطورتنا الذاتيه حالا.
خامسا: ظل كل واحد-برغم ذلك وبسببه-يحمل أسطورته الذاتية كامنة وواعدة، ثم متخلقة فى جدل دائم مع الواقع ونبض الكون
سادسا: زادت أدوات المعرفة وفرص الإبداع وتقنيات التواصل حتى صار الإنسان أقدر على مواصلة تخليق أسطورته المتنامية أبدا
سابعا: نتيجة لذلك تراجعت حاجة الانسان لتخليق أبطال خارجه يسقط عليهم ما عجز عن تحقيقه بنفسه كيانا متطورا ناميا متصوفا مؤمنا مبدعا جميلا
خاتمة:
وأنا أنهى المقال تذكرت ما أستلهمته يوما من أحد أصدقائى (المجانين) أثبته فى كتابى “حكمة المجانين” قائلا “لسنا فى حاجة إلى دين جديد لكننا فى حاجة إلى ملايين الأنبياء” كان ذلك سنة 1979 أستطيع أن أعدل الرقم الأن إلى “بلايين الأنبياء” هذا بعض ما استنتجه أيضا محمد اقبال تفسيرت لختم النبوه بمحمد عليه الصلاة والسلام.
****
بعض المراجع:
– جوزيف كامبل (سلطان الأسطورة) المشروع القومى للترجمة ترجمة بدر الديب- المجلس الأعلى للثقافة – 2002
– دانييل دنيش (تطور العقول) ترجمة مصطفى فهمى المكتبة الاكاديمية 2003
– يحيى الرخاوى (جدلية الجنون والإبداع) فصول 1986
– يحيى الرخاوى (الايقاع الحيوى ونبض الإبداع) فصول 1985
– يحيى الرخاوى (حكمة المجانين) القاهرة – 1979
– Anthony Storr: “Jung” Wm. Collins Sons & Co. Ltd، 1974
- Silvano Arietiy “Creativity” The Majc Synthesis Library of Congress Cataloging in Publication Data 1976