نشرت فى جريدة الوطن
12/4/2001
من المواطن الإنجليزى إلى الرئيس الأمريكى
فى خبر أذيع مؤخرا (11 إبريل 2001 فى الإذاعة البريطانية) اتهمت مسئولة بالجيش البريطانى المزارعين الإنجليز بحقن أبقارهم بفيروس الحمى القلاعية حتى يحصلوا على التعويض الذى قررته الحكومة البريطانية للمزارعين الذين تثبت إصابة أبقارهم بهذه الحمى، وأنا لا أشك أن الخبر صحيح، سواء تم على مستوى أفراد أم كان ظاهرة جماعية. وهو خبر جدير بالنظر والتأمل.
إن أخلاق الإنسان المعاصر تتغير بسرعة غير مسبوقة، وهى لا تتغير كلها إلى أسوأ على كل حال، فإن ثمة تغيرات إيجابية حدثت وتحدث بشكل مضطرد، لكن دعونا نقف بأمانة متأنية أمام هذا النذير الذى يدل عليه هذا الخبر بشكل أو بآخر.
هذا الفلاح الإنجليزى الذى يحقن أبقاره بفيروس هذه الحمى ليحصل على تعويض أكبر من ثمن أبقاره يعلم يقينا ما فى تصرفه هذا من مخالفات أخلاقية، لكنه بدافع ما يمكن أن يسمى الشطارة أو ما نسميه فى بلدنا “اللى ييجى منه أحسن منه”، لا يتورع عن فعل ذلك بما يترتب عليه من:
أولا: قتل حيوان برئ (لا ذبحه) للتخلص منه دون نفع للبشر
ثانيا: الإضرار بالثروة الحيوانية على مستوى الدولة كافة.
ثالثا: الإضرار بالحركة السياحية (وقد هبطت السياحة الخارجية فى بريطانيا بنسبة الثلث، بالإضافة إلى تراجع السياحة الداخلية فى عيد الفصح مثلا، هربا إلى الخارج من الوباء)
رابعا: الإضرار بميزانية الدولة التى رصدت هذه التعويضات، والتى كان يمكن أن تنفق على الصحة أو التعليم أو محاربة المخدرات أو منع تلوث البيئة…إلخ. إن تعريف الأخلاق، مهما بلغ الاختلاف حوله، يرتبط فى النهاية بأمرين: الأول: مدى وضع الآخر فى الحسبان بالنسبة لتصرف الفرد، والثانى: مدى الالتزام الشخصى (من خلال بصيرة ذاتية) بالإسهام فى النفع العام وتجنب الإيذاء العام، هذه بديهيات لا يكف الإنسان الغربى على إعطائنا الدرس تلو الدرس فى أبعادها وفضائل الالتزام بها. ولنا بدورنا أن نتسائل ما الذى جرى للناس الذين هم فوق (فى الشمال والشمال الغربى) حتى يتحولوا إلى مثل هذا الذى يدل عليه الخبر؟ هل هذا هو المواطن الإنجليزى الذى كان يضرب به المثل فى الالتزام بالمواعيد، والنظافة، ومراعاة شعور الغير، والتقيد بالنظام العام؟
فإذا انتقلنا من هذا المثل الذى قد يعتبر تصرفا شخصيا فرديا لا يمثل قاعدة نحتج بها، إلى تصرف رئيس أقدر وأغنى دولة فى العالم وهى الولايات المتحدة الأمريكية التى أصبحت أطول الدول ذراعا وأعلاها صوتا وأثقلها وصاية، إذا انتقلنا إلى تصرف رئيسها وهو يرفض التوقيع على معاهدة الإقلال من تصنيع ما يستعمل فيه غاز الرذاذات المتهم بمسئوليته عن اتساع ثقب الأوزون حول غلاف الكرة الأرضية، الأمر الذى يهدد الحياة برمتها على كوكب الأرض، فسوف نكتشف أنه لا يوجد فرق بين تصرف الفلاح الإنجليزى السابق الذكر، وتصرف الرئيس الأمريكى الجديد، ذلك أن الأخير صرح دون تردد، ودون خجل، تبريرا لهذا القرار، أن مصلحة أمريكا، ومصانع أمريكا، وشركات أمريكا لها الأولوية على مصلحة العالم أجمع، بل على مصلحة الحياة على الأرض، الأمر الذى دعا رئيس فرنسا إلى وصف هذا التصرف بأنه تصرف غير مسؤول.
إن النظر الأعمق لهذين المثالين يشير ببساطة إلى أن أخلاقا جديدة أخذت تفرض نفسها على مستوى الناس فردا فردا (المزارع الإنجليزى) وعلى مستوى الدولة مهما بلغت قدراتها وإدعاءات تحضرها (الرئيس الأمريكى). والخبران بينهما أقل من اسبوع.
لا أريد أن أقارن. بين أخلاقنا وأخلاقهم، فمن غير المناسب أن أنسى سلبياتنا الخلقية المشابهة والمختلفة، والتى لم نستودها جميعها منهم، بل إن أغلبها صنع محليا، وحديثا، بعد أن نسينا أبسط قواعد ديننا وقيمنا من أول “إزاحة الأذى عن الطريق” إلى “من غشنا فليس منا”. أريد فقط أن أنبه إلى التدهور الأخلاقى الذى راح يتمادى فى المجتمعات التى نعتبرها متقدمة وهى تكرر ليل نهار التلويح بوعود مجتمع الرفاهية، والحديث عن قيم حقوق الانسان، وإضطهاد الأقليات، والشفافية، وتلوث البيئة، كل هذه الشعارات والمزاعم لم تمنع فلاحا انجليزيا من الإضرار بميزانية بلده، وسمعته، وحركة السياحة فيه، وأيضا هذه المزاعم نفسها لم تمنع السيد دبليو بوش من الإضرار بالإنسانية جميعها، بل بالحياة كلها على كوكب الأرض، علما بأن أمريكا وحدها مسؤولة عن أكثر من 40 % من هذا التلوث المؤدى إلى زيادة ثقب الأوزون. أليس من المناسب أن نتذكر أن من أفسد شيئا فعليه إصلاحه، أو على الأقل عليه أن يكف عن التمادى فى إفساده، وهذا أضعف التمدين.
إن التغير السلبى فى القيم لا يمكن أن نعزوه إلى اختراع الحاسوب، أو انتشار الإنترنت مثلا. هذا اختزال واستسهال لا ينفعان، نحن فقط ننبه إلى هذا الارتباط، ربما غير المباشر، بين ما يزعمونه من تقدم حضارى مضطرد تحت عنوان التكنولوجيا الحديثة فى عالم يبدو أنه فى سبيله إلى التوحد، وبين النقلة السلبية المواكـبة فى مجال القيم.
إن الإحلال الذى أحل الأدوات الحديثة محل العلاقات الإنسانية الدافئة الحميمة على مستوى الأسرة، والصداقة، فالمجتمع الأوسع، قد أدى إلى التحوصل على الذات، وبالتالى إلى فتور أثر الضمير الذى يستمد قوته عندهم أساسا من تمثل المجتمع فى الوعى الفردى. وربما تأخرنا فى اللحاق بهم بعض الشئ لأن الضمير عندنا يتكون أساسا من خلال حمل الأمانة التى حملنا إياها ديننا، الأمرالذى لم يعد بنفس القوة والصلابة الواجبين.
إن علينا أن ننتبه ونحن نلهث وراءهم حتى لا نضيف إلى سلبياتنا الخاصة سلبيات مستوردة. يكفينا ما هو مصنوع محليا.