نشرت فى جريدة الأخبار
25/8/1977
من الخبز .. الى الحرية
ومن الجنس .. الى الإيمان
تحدثت فى المقال السابق على هذه الصفحة عن الإنفتاح الفكرى وكيف أنه الحل لتوجيه شبابنا (بل وكبارنا) فى هذه المرحلة الهامة من تطورنا
وتحدث كثيرون غيرى – هنا وهناك – ساخطين على السخافات التى تقدمها اجهزة الإعلام وأدوات الثقافة .. مثل المسرحيات الفكاهية وغيرها، ونصح آخرون بإغلاق دور اللهو والتفاهة الى آخر هذه النغمة الحماسية الخطابية … وكان فى منع كل هذا ما يطمئن الجميع الى علو الهمة .. وإزالة الغمة .. عن قلب الأمة، وإن كنت أتفق معهم فى انى أرى فى هذه الظاهرات عبثا وسخفا ولغوا وسطحية وإسفافا .. فانى أختلف معهم أن يكون الإلغاء هو الحل ..، بل زن هذا كله يثير التحدى والمواجهة .
فليس من الطبيعى لشعب واع يحمل كل هذا التاريخ الحضارى والقدرات البشرية أن تشوه فكره هذه التفاهات .. حتى لتعدها مسئولة عن خوائه أو تشنجه أو تعصبه ..، بل أن يقتى فى الناس وفى مصر وفى الخير لاحدودلها .. لو عرفنا الطريق الى الطبيعة البشرية وسلكنا السبيل الى تنمية ايجابياتها باسلوب علمى عصرى.
ولمن يشك فى هذا أن يتذكر حقيقة تاريخية أساسية وهى زن التهريج الرخيص والانحلال كانا دائما نتيجة للتدهور والتخلف لا سببا له .
وليسمح لى أيضا أن اذكره أنه حتى وقتنا هذا نرى مثلا تدل على أن الخير يدفع الشر فى جو من الهواء الفكرى الطلق .
فى حين أن الشر لا يستشرى أبدا فى الظلام.
ولنتذكر أن باريس عاصمة النور ومركز الحضارة الى عهد قريب مليئة بالتافه من مثل هذه الأمور الغثة، حتى ليصل الأمر الى بدعة امتهان الجسم التشرى بما يسمى استعراض الاستربتيز، ومع هذا .. فإن ذلك لم يؤثر فى قليل أو كثير على مسيرتها الحضارية ولا على فنها الخلاق ولا علمها المتطور .. فالتافه للتافهين .. والعمق لمن يكرم انسانيته حقا وصدقا .
وعلى النقيض من ذلك فإن البلاد التى منعت ظاهريا سثل هذه الأمور لم تخل بيوتها ومجالسها الخاصة مما تعرف وما لا تعرف ..
الزبد . . وماينفع الناس
إذن .. فهى معركة تحد، لاتنتهى بالهرب أو بالإنغلاق، وأنما تبدأ بالتحدى والعمل الخلاق، وبالتالى فإن المطلوب ليس مجرد الصباح والتشنج والدعوة الى شجب هذا وإغلاق ذاك، أو القاء اللوم على هؤلاء والسخط على اولذك، وانما المطلوب هو البحث عن جذور الخير داخلنا، ودراسة طبيعته، وتهيئة ظروف نموه وتحدى كل ماعدا ذلك به .. وبديهى أن هذه التفاهات التى نلقى اللوم عليها هى من الزبد الذى سيذهب جفاء .. فلنبحث اذن عما ينفع الناس .
انما يعيش الفكر وينتشر اذا وافق الطبيعة عامة: مسيرتها ومصيرها، ووافق الطبيعة البشرية خاصة .. تركيبها وتطورها، وانما ينجح التطبيق اذا احترم واقع اللحظة فى مرحلة تطور الإنسان الفرد، وتطور الفرد، وتطور المجتمع الأوسع فى آن.
فنجاح فكرة ما وانتشارها فى وقت ما .. هو من أول دلائل صحتها (النسبية على الأقل) .. وحاجة الناس اليها .. أما ترجمتها الى تطبيق يومى فهو دليل ذكاء الدعاة اليهاومدى ارتباطهم بحقيقتها وواقعهم ..، أما امتمرارها وتطورها فهو دليل اصالتها وحيويتها معا،
وقد عاش الفكر الإسلامى وانتشر – بصفته جماع الأديان جميعا وخاتمها – لأنه فكر الفطرة السليمة فلما ابتعد به أهله عن الفطرة تعثر أو كاد، كما فشلت تطبيقات النظريات الشمولية هنا أو هناك .. لما صارت حالمة متعجلة .. ومناورة ايضا .
فالتحدى المطروح هو النجاح والإنتشار .. والقدرة على التطبيق .. والإستمرار، والحل اذن ليس فى الصياح وتمتع الخطيب برنين صوته، وليس بإطلاق لهيب السخط على الاخرين لنعفى انفسنا من رؤية داخلنا وبالتالى من الجهاد الأكبر .. الذى هو المسيرة نحو التكامل الإيمانى .
طريق الدعاة:
وهذا التحدى المطروح هو قضية كل فرد منا ليكون داعيا الى ما ينادى به .. مسئولا عنه .. مصرا عليه والدعاة على مختلف مللهم يعرفون الطريق الى الناس من خلال استعمال (وأحيانا إستغلال) حاجاتهم ودوافعهم .
فهم يحددون دافعا ملحا محروما لم هم يحاولون زن يكشفوا عنه غطاءه ثم يذهبون يثيرونه، ثم يلوحون بآمال تحقيقه .. ومن خلال ذلك يزرعون ما شاءوا من أفكار .
وقد اسئ استغلال هذا الأسلوب فى فترات نكسات الإنسانية وتعطل مسيرتها: فقد أسماء هتلر استغلال الدافع الى التفوق، وأساء فرويد (ربما بحسن نية) استغلال دافع الجنس وكبته، وأساء بعض الماديين المتعجلين استغلال غريزة الجوع والحاجة الى الأمان، وأساءت بعض الإتجاهات الرهبانية والمتعصبة لستغلال الدافع الى النمو والسمو والإيمان .
وخلاصة القول: أن أى فريق يركز على دافع من دوافع الإنسان دون الدوافع الأخرى هو فريق ضال أو مضلل بغض النظر عن نيته، فكثير من المطائب الكبرى تحدث بحسن نية والعياذ بالله .
وبالتالى .. فإن التحدى الحضارى الآن هو: كيف نحقق حاجات الإنسان كلها فى أمانة وصبر وبترتيب تصاعدى علمى يحترم تاريخ الرنسان الهرمى .. دون استغلال حاجة على حساب أخرى؟
غريزة السمو والإيمان
وعلم النفس الإنسانى (وهو أحدث رؤية لتركيت النفس) يقول بأن التكوين البشرى فيه دوافع متصاعدة .. تبدأ بالحاجات الفسيولوجية (الجوع والعطش والجنس .. الخ) وتنتهى بالدوافع الإرتقائية (التكامل والإيمان والتناغم مع الكون الأعظم) .
وبهذه الرؤية لم يعد الإيمان فى نظر العلم هربا وتخديرا، ولم تعد الحضارة والفن تساميا وكبتا للغرائز الدنيا كالجنس .. بل أن الإنسان قادر على السمو (لا التسامى: بطبعه وغريزته)، وبالتالى فإن كل من حرم هذا الررتعاء هو انسان مبتور ومشوه، وقد نبتت هذه المقوله عند العلميين بحق حتى أصبح الإلحاد تشويها للكيان الإنسانى .. اذ يجعله كجذع شجرةغليظ بلا فروع ولا أوراق ولا ثمار .. بل أصبح التشنج الإلحادى أدعى للضحك والسخرية به بعد أن كان الملحد يملك وحده- من خلال علم ناقص – أن يتخذ موقف الإستعلاء والسخرية من الهارب فى فى مظاهر الدين، أو حتى من المؤمن فى سعيه الى التكامل .
من كل ذلك أعود فأكرر أن من يريد التجاح فى تأكيد معانى الإنسانية، عليه أن يعرف الطبيعة البشرية وتطورها، وأن نحترم طبعاتها وتصاعد دوافعها من الحاجة للخير الى الحاجة للحرية، ومن غريزة الجنس الى غريزة الإيمان والتكامل .
ولا أحسب أن الإسلام الحنيف قد قصد الى غير هذا فى اصوله، النقيه حين أكد أئمته على قتل الفقر لوكان رجلا .. ثم احترم دوافع الجيم حتى كرم الجنس المعلن الشريف (الزواج) وندد بالرهبانية.. هم رسم صورة الإنسان الذى كرمه ربه لتصبح نفسه مطمئنه راضية مرضية .
الأسلوب العصرى
وعلى ذلك فواجبنا الأول هو دراسة كيف نوصل هذه الحقائق العلمية الإيمانية الى الناس بعد أن عجزت الأساليب القديمة – أو كادت – من ذلك.
ولنتذكر فى هذا المقام ماذهبت اليه بعض الجماعات شبه العلمية التى أدركت عجز الأسلوب القديم عن اشباع غريزة الإيمان فى الناس، فلبست ثوبا علميا، وانتحلت اسما عصريا (التأمل التجاوزى TM)
ونصبت لها عميدا لجامعة عصرية فى سويسرا للبحث العلمى (هو نبى عندى اسمه المهاويشى)
ثم ذهبت تنشر أفكارها فى أنحاء العالم مستخدمة الأسلوب العلمى بالتليفزيون الملون لعرض رسام المخ ونتائج أبحاثها العلمية!!!
ورغم أنى لا أوافق على هذا التحايل الطويل .. الا أنى أريد زن نتعلم منه لغة العصر فى تقديم ما هو حق.
ملحوظة: انتشرت هذه الحركة فى مجتمعنا انتشارا ملحوظا، وقدسبق أن حذرت منها من سنوات .. ولكنها مازالت تمتد الى مجموعات جديدة حتى سمعت أخيرا دعابة لها بطريق غير مباشر فى البرنامج الأوروبى فى اذاعتنا الرسمية .. لذلك لزم التنويه
أقول أن ديننا اولى بنا لو احسنا فهم جوهره.. وتقدير بساطته وأصالته كامتجابة مباشرة لغريزة أصيلة فى تكويننا.
الإعتراف بصدق وصراحة
وبعد كل هذا .. فإنى أدعو الى أن تنقلب انة الدعوة الى الدين والفضيلة والإيمان، خاصة للشباب، فلا نكتفى بالبدء بالتنزيل والتفسير فالتأويل، ولكن علينا أن ننطلق أيضا وزساسا الى الإعتراف بصدق وصراحة أن كل ما تصلح به قطرة الإنسان النقية هو من صلب ديننا – ولعل هذا ما كان نعنيه مولانا فضيلة الشيخ الشعراوى حين دعا الى نوع من الفن يخدم زهداف الدين بطريق غير مباشر .
ودعونا نتذكر أن من عرف نفسه (كاملة) فقد عرف الله .
ودعونا نأمل أن يتفق المختلفون (سياسيا وعقائديا) على أدق قدر من الضرورة التى تصلح به هذه الأمة.
لكل نفس ما كسبت
ثم ليذهب التافهون بعد ذلك لكل ماهو تافه، فلن ينقصنا هذا شيئا، ولا داعى للخوف من طنين الذباب حول القمامة .. ولنذكر أن اختفاء الذباب أو طنينه لن يثير التحل (الشغالة) لأفراز الشهد تلقائيا ..، وليدفع هؤلاد التافهون ثمن تفاهتهم فى الدنيا: شقاء وغباء حس وتشويها واغترابا .. وحسابهم فى الآخرة على الله . وليكن موقعنا منهم هو أخذ حق الكادح والمحروم من أموالهم أضعافا مضاعفة .. ولسوف يلفظهم التطور البناء لامحالة.
ثم ليتعصب من شاء من الماديين الميكانيكيين خوفا من التكامل ما شاء لهم قصورهم أن يفعلوا. فهم فى نهاية الأمر دافعو لمن اجهاضهم لإنسانيتهم .. لأنهم للأسف – قد حرموا أنفسهم من الحريةالحقيقية التى لاتتم الا باستمرار النمو من الداخل لتشرق فى الخارج.. الا اذا تداركوا – ومنذ البداية – ضرورة الحرص على استكمال المسيرة نحو التكامل الإيمانى ..
بالمواجهة لا المنع
وأخيرا فليتخذ أهل الحق – جعلنا الله منهم – هؤلاء واولئك ايجابيا: بالمواجهه وليس بالمنع، بمخاطبة الطبيعة البشرية وليس بالنصائح المستعلية.. بالقدوة والعمل والعدل وليس بإحتكار القول وإعادة الألفاظ ذات الرنين – .. فإذا نجحنا كنا أهلا للحضارة والإيمان، وإذا فشلنا – لا قدر الله – فلنسارع تمراجعة أنفسنا خشية أن نكون مجرد واجهه للحق أو من جمعية المنتفعين به .. ليس الا .. بل نقذف بالحق على الباطل فيدفعه فإذا هو زاهق، وعلى الله قصد السبيل ومنها جائر .