نبذة: الخوف على انقراض الجنس البشرى قراءة أخرى لحقيقة ما تفعله شركات الأدوية لترويج علم زائف لحساب المكسب المادى على حساب الحقيقة والصحة والتطور.
الاهرام: 23-9-2002
منظار الحـرفة، وأحداث العالم !!
لا أعرف كيف يقرأ الشخص العادى جدا أحداث العالم، لا أظن أن الحرفى أو المهندس المدنى أو الموظف عبد الروتين يمكن أن يتخلص من منظار عمله أو مهنته وهو يقرأ هذه الأحداث. أتذكر كيف كان ماسح الأحذية (لعل اسمه ‘سام’) يصنف شخصيات نزلاء ‘الخان’ حسب أحذيتهم ، وهو جالس على عتبة الفندق الذى كان ينزل فيه’ مستر بكويك’ أثناء حملته الانتخابية (فى رواية ‘مستر بكويك’ لشالز دكينز -وهى الرواية التى كانت مقررة علينا فى التوجيهية سنة 50/49). أضبط نفسى متلبسا بمثل ذلك وأنا أفسر التبريرات التى يقدمها الساسة المتجبرون الطغاة : لضرب العراق أو إبادة الفلسطينيين أو التخلص من المخالـفين عامة، بنفس الطريقة التى أفسر بها الأبحاث شبه العلمية، التى تختزل معنى المرض إلى ما هو فى صالح شركات الدواء.
يجرنى مثل ذلك إلى الانتباه إلى ما يمر به العالم من مأزق حقيقي، مأزق تبلغ خطورته أنه يهدد بانقراض الجنس البشري، ليس لأنه أصعب من كل ما مر على البشرية عبر التاريخ، ولكن لأن أدوات الدمار الشامل (وليس فقط أسلحة الدمار الشامل) أصبحت فى متناول من لم يرتق بوعيه إلى مسئوليته عن جنسه جميعا. الخطأ البشرى الآن، سواء من العلماء، أو رجال السياسة، أو رجال المال، أو حتى رجال الدين، يمكن أن يضرب فى أضعاف مضاعفة مقارنة بأخطاء الماضي، وذلك حسب سرعة انتشاره، وقوة فرضه. (الأمر الذى يتناسب طرديا مع كفاءة آلاته، وسيطرة السلطة وراءه). يترتب على ذلك أن تصحيحا محتملا قد يفوت أوانه إذا لم يتم الانتباه إليه قبل حدوثه.
هذا الخطر له تجلياته فى كل المجالات دون استثناء، من أول مؤسسة رعاة البقر الصقورية البوشوية ومـن وراءها من رجال المال والأصولية الجديدة، حتى الهندسة الوراثية، مرورا بالطب التقليدى عامة، والطب النفسى خاصة.
لست – بصفة عامة- من أنصار ما يسمى الطب النفسى السياسي، ومع ذلك فكثيرا ما أضبط نفسى متلبسا وأنا أقرأ الإغارة على عقول الأطباء النفسيين بأبحاث شبه علمية، بنفس الطريقة التى أقرأ بها الإغارة على عقول زعماء العالم، وناسه، بوثائق وبيانات لا مصداقية لها، ولا دليل عليها. كذلك وأنا أقارن تبرير استعمال الأدوية الأحدث البالغ ثمنها مئات أضعاف الأدوية الناجعة الحالية، بالتخويف المبالغ فيه من أعراضها الجانبية، أقارن ذلك بتضخيم خطر عدو حقيقى أو وهمي،تبريرا لتخزين السلاح، شرط عدم استعماله، إلا بإذن منهم، لا يصدر أبدا.
حين كنت فى فرنسا (1969/1968) كانت توجهات الطب النفسى تنقسم إلى ثلاث حركات مختلفة متكاملة معا، طب نفس القارة الأوربية الغربية (عدا بلاد الشمال وإنجلترا)، والطب النفسى الأنجلوساكسونى (إنجلترا وأمريكا) ثم الطب النفسى الاسكندنافي، وكان الفرنسيون يفخرون بأنهم، مع الألمان خاصة، يتبنون فهما مختلفا للمرض النفسي، حتى أن الاكتئاب غير النموذجى كان يصنف ضمن الفصام، وليس ضمن الاكتئاب. الأمر الذى لم ينتبه إلى مثله مؤخرا إلا التقسيم العالمى العاشر حيث صنف مثل هذا النوع كأحد مآلات الفصام، لكن هذا التقسيم الفرنسى لم ير النور رسميا على نطاق واسع أبدا، حيث سرعان ما أغار عليه التقسيم الأمريكى الثالث، فالرابع، لينتهى الأمر إلى إعلان أن ثلث العالم مصاب بالاكتئاب، حتى يبدو أن الحل هو فى التوصية بإضافة مضادات الاكتئاب لمياه الشرب، بدلا من توفير الخبز والحرية، وتأكيد العلاقة بالطبيعة.
الحصيلة النهائية هى ‘عولمة’ طريقة التفكير فى حقيقة المرض النفسي، باعتباره خطأ كيميائيا دون النظر إلى غائيته ‘كمعني’، أو على أنه ‘احتمال ثورة مجهضة’، أو ‘مشروع احتجاج فاشل’،هذا الاختزال والميكنة والتفتيت هو لصالح شركات الدواء أساسا دون العلم والصحة، تماما مثلما اعتبر ساسة أمريكا أحداث 11 سبتمبر نتيجة لجنون فئة إرهابية، دون النظر إلى رمزية أهداف الإغارة، كممثل الاقتصاد المفتـرى :مركز التجارة العالمي، وممثل القوى العسكرية الغاشمة :البنتاجون. فاستعملوا الحادث وما تلاه من تداعيات لصالح شركات البترول والسلاح، لا أكثر.
إن الزعم بتوحيد اللغة العلمية لسهولة التواصل- فى التشخيص والعلاج فى الطب النفسي- هو حق يراد به باطل، تماما مثل الزعم بتوحيد نظم التجارة، والبرمجة، والتواصل الموصى عليه على مستوى الإعلام والسياسة والاقتصاد العالمي.
برغم كل ذلك فإنه قد عاودنى أمل فى فرصة إسهامنا من موقعناالمتواضع فى تصحيح المسار والاحتفاظ بطرق أخرى فى التفكير والحياة، تحرك هذا الأمل بمناسبة تولى الأخ أ.د. أحمد عكاشة رئاسة للجمعية العالمية للطب النفسي. إن هذا الانتخاب ليس رشوة لنا، بقدر ما هو فرصة نثبت فيه أن عندنا ما نضيفه، ولن يتحقق ذلك إلا بأن يكون عندنا- فعلا- ما نضيفه.
ثم إن انتخاب الإبن طارق أحمد عكاشة ممثلا إقليميا لنفس الجمعية يحرك احتمال أن يصلح شبابنا ما فشلنا نحن فى الوقوف دون فساد عقولنا به.
إن التهنئة بهذا الإنجاز ليست مطلوبة لذاتها، بقدر ما هو مطلوب أن نتحمل مسئوليته، لعل وعسي، ليس فقط فى الطب النفسي، ولكن فى كل المجالات.