نشرة “الإنسان والتطور”
الأحد: 8-2-2015
السنة الثامنة
العدد: 2718
ملف الوجدان واضطرابات العواطف (65)
ثانيا: الانفعالات العسرة: (28)
اضطرابات الوجدان (العواطف)
عُـسْـر الاضطرابات الوجدانية: كمِّيا (25)
الزملاء الأفاضل:
عذرا، أجلت النشرة التى كانت سوف تنزل اليوم إكمالا
للنشرتين السابقتين، وفضلت أن أستطلع رأيكم فى نشرة
أحدث، لما فيها من معلومات إكلنيكية قد تحتاج لرأيكم:
اضطرابات الوجدان (تابع؟)
ثالثا: تعرية الانفعالات البدائية:
استهلال:
وددت لو أننى هربت من هذا العنوان الذى جاء فى الطبعة (المسودة) الأولى بعد أن وصلنا سويا إلى أن ما يسمى بالانفعالات البدائية هى نافعة تطوريا، فهى التى حفظت بقاء الأنواع عبر تاريخ الحياة، لكننى حين نظرت فى تفاصيل ما جاء تحت العنوان وجدت أنه لا بد من تناوله، لان المقصود منه هو: تعرية الانفعالات البدائية منفصلة عن ما جاء بعدها تطوريا فنظمها وأ؛اطها دون أن ينكرها، وهى تنفصل هكذا إذا حلت محل ما هو أرقى وأنفع وأبقى فى مرحلة الإنسان الحالية، وهذا هو ما جاء فى المقدمة السابقة هكذا:
مقدمة:
تعتبر العاطفة أكثر نضجا كلما كان مداها أكثر اتساعا بمعنى أنها تكون مرتبطة إيجابيا بالوظائف النفسية الأخرى، وينبغى أن نلاحظ أن مجرد ظهور الانفعالات البدائية أو الطفلية ليس فى ذاته علامة مرضية، وإنما يصبح ذلك كذلك حين تظهر هذه الانفعالات البدائية بديلا عن الانفعالات الناضجة، وأيضا حين تكون غير متناسبة مع الموقف الجارى.
وفيما يلى بعض الأمثلة:
1-الاحتدام:
ويعنى الغضب الانفجارى الطاغى الذى يكاد لا يوقفه أى ردع أو تعقل أو تفكير منظم، ويمكن ملاحظته فى الشخصية المسماة “الشخصية العاصفية” Stormy Personalityوأحيانا عند بعض المرضى البارنويين (سواء كانو فصاميين أم لا),وفى الهياج الكاتاتونى يكون الاحتدام انفجاريا حركيا اندفاعيا أعمى.
والاحتدام أقرب إلى الانقضاض النارى العمى المفترس، منه إلى الغيظ أو الحنق أو الغضب، وهى الانفعالات الأقل بدائية وأكثر إنسانية.
وقد تعجبت لاستعمالى كلمة “الاحتدام” من قديم هكذا، وكنت قد نسيت أننى أوردتها بهذا النص، مع أننى حين رجعت إليها الآن وجدتها أكثر قدرة على وصف هذا الغضب الانفجارى المشتعل، المقابل لكمةrage، مع تفوق اللغة العربية كما سنرى حالا:
احتدمَتِ النَّارُ ونحوُها : اشتدّت ، التهبت
اِحْتَدَمَتِ القِدْرُ : اِشْتَدَّ فورانُ غلَيَانِهَا
احتدم صدرُه غيظًا : اشتعل ،
اِحْتَدَمَ النَّهَارُ : اِشْتَدَّ حَرُّهُ ا
احْتَدَمَ الرَّجُلُ مِنْ سُوءِ الْمُعَامَلَةِ : اِشْتَعَلَ غَيْظاً
احْتَدَمَ الدَّمُ : اِشْتَدَّتْ حُمْرَتُهُ حَتَّى يَسْودَّ
فنلاحظ كيف أنها نار، شديدة الاشتعال، تنقض بلا مقدمات، وإن كنت تعجبت من التعبير الأخير كيف أن الدم حين يحتدم يصير اسودا، ولكن هذا وارد فى بعض الأمراض التى لن أذكرها)
2- الرعب المتجمد Frozen dread:
حين يشتد الرعب لدرجة قصوى، استجابة لخطر معلن أو مُتصوّر، قد تصل درجة إشلاله إلى حالة من الجمود الحركى الثابت، ويكون ذلك مصاحَبا عادة بنظرة ثابتة أو متذبذبة في “محلّها”،
مما يشير إلى مدى الترويع الذى يحيط بالوعى المتجمد هكذا. وقد أرجعوا بعض ذلك إلى أنه فى بعض حالات الذهان يكون اللاشعور عاريا بحيث يصبح بلا دفاعات، ومن ثم يستقبل المؤثرات من الداخل ومن الخارج باعتبارها خطرا محيقا لا قدرة للمريض على تجنبه أو ردّه، وهذا التجمد بالذات هو من أكبر ما يمكن أن يفسَّر به السبات الكاتاتوني
ومن ناحية التطور، فإن هذا التجمد يعتبر برنامجا وقائيا حيث أنه يخفى وجود الفريسة أمام مطاردها حين تتجمد بجوار حجر فتصبح هى والحجر سواء من ناحية الحركة،
وبعض الزواحف تستطيع أن تغير لونها ليقارب لون الحجارة الملتصقة بها فيزداد التمويه وتتم النجاة عادة.
3- الانفعالات الاعتمادية الطفلية:
وهذه تشير إلى نكوص واضح فى الانفعالات ليس إلى البهجة الطفلية السهلة المنطلقة بقدر ما هى انفعالات تغلب عليها الاستسهال، واللامسئولية، والاعتمادية المطلقة التى تصل أحيانا إلى الالتصاق اللزج فيزيقيا، وما يجعل مثل هذه الانفعالات مرضية هو دوامها وممارستها مع كل من يقترب من المريض تقريبا، وطبعا عدم تناسبها مع سن المريض ثم ظهورها فى غير موقعها المناسب، وأحيانا، فى البداية خاصة قبل أن تصبح عادة، إذا ما تعرض المريض لضغط مناسب تختفى هذه الانفعالات ويحل محلها إما التبلد أو الاكتئاب، وأحيانا ما تسمى هذه العواطف الطفلية الاعتمادية “الانفعالات النكوصية الرضيعية”
4- انفعالات الحسد:
لست متأكدا إن كان يعد انفعالا بدائيا أم لا ، وقد خطر لى أن أتراجع الآن مع أن عندى ما يستحق الإدلاء به فى هذه المسالة، ثم إننى سبق أن أعلنت احترامى لتشارلز داروين حين لم يرصد “تناقض العواطف” أو الوجدان عند الحيوانات، كذلك فهو لم يرصد، ولا أظن أن أحدا يمكن أن يرصد هذا الانفعال عند الحيوانات، فهل يا ترى هو أحد الطفرات السلبية التى أصب بها البشر فمزجت الغضب والغيظ العدوان والرغبة فى الإيذاء معا لتوجهه طاقة وعى انفعالية نحو الأقوى والأكثر تميزا وكأنها ردة إلى صراع البقاء بشكل أو بآخر، فتصدر هذه الطاقة من الوعى الشخصى الذى عجز عن أن يلتحم بالوعى البينشخصى إلى الوعى الجمعى ؟ ربما .
المعتاد أن تفسر هذه الظاهرة فى مثل مجتمعاتنا بارتباطها بالقابلية للاستهواء عند من يشك أنه محل حسد، أو بأية تفسيرات شعبية أو أسطورية، إلا أنني لا حظت بشكل أكثر من المصادفة أنه مع بداية الذهان قد يسترجع بعض المرضى بعض القدرات البدائية التى تشير إلى انطلاق قوة ما ، من العين عادة، أو من أى موقع وجدانى بدائى، قوة لها القدرة على إيذاء الآخرين عن بعد،
من خلال تكرار هذه الملاحظات: وضعت فرضا يقول إن هذا يمكن أن يكون ناتجا من تعرية انفعال بدائى يمكنه أن يتدخل فى هارمونية التوازن عند الشخص المتفوق، بمعنى أنه تميزا يمثل خطر قياسا على تنافس البقاء الأصلى، وكأن تاريخ التطور يعيد نفس الصراع الذيى يثيره تفوق المحسود على الحاسد،
وفى خبرتى لاحظت شكاوى خفيفة من مثل ذلك، مرتبطة أحيانا بالشعور بالعلاقة بقوى الشر (الشيطان مثلا)، ، كما لا حظت أن مثل هذه الشكوى وهذا الأثر يختفى مع إعطاء المريض المهدئآت العظييمة أو جلسات تنظيم الإيقاع التى تعيد تنظيم المخ فتُخضع هذه القوة البدائية لقيادة القوى (مستوى الوعى) الأرقى والأكثر قدرة على التواصل البين- شخصى والجمعى.
حالة (أجدنى مضطرا لحكيها إيضاحا):
جاءنى طالب فى كلية الزراعة فى السنة الرابعة، مهذب رقيق متردد، وقال لى فى حياء شديد أنه يعانى من أنه – بغير قصد- يحسد الآخرين، فحاولت أن أصححه وأنا أتأكد من شكواه قائلا لعله يعانى من أن الآخرين هم الذين يحسدونه (وهى شكوى معتادة فى ثقافتنا ضمن أفكار أو ضلالات الاضطهاد)، لكنه أكد لى شكواه، وأعادها بوضوح ، وكيف أنه اخذ يخشى أن تنطلق منه هذه الطاقة الشريرة فتؤذى بعض من يحب، وحكى لى عدة حوادث بسيطة تؤكد كلامه، فحاولت أن أنبهه إلى قانون الصدفة، وإذا به يغضب لعدم تصديقى له، قزاد فى الإيضاح بحكى مثل محدد كالتالى :
أنا لم أعتد الصلاة فى المسجد، لكن حين اعترتنى هذه الحالة قررت أن اصلى المغرب فى المسجد وأستغفر الله داعيا أن يطرد عنى هذا الشر، وفعلا ذهبت اصلى تائبا متبتلا، وكان الإمام جميل الصوت خاشع النبرة، وإذا بوسواس يقفز لى أثناء الصلاة وهو يعدد مكاسب هذا الإمام، فهو يصلى كل الأوقات بالمسجد، ويحظى باحترام وتقدير المأمومين، وفى نفس الوقت يقبض مرتبا من وزارة الأوقاف على ذلك، (لم اقاطعهُ فراح يكمل) ، وأثناء عودتى للمنزل شعرت بذنب هائل على ما خطر لى أثناء الصلاة ، وقررت أن اذهب لصلاة العشاء استغفارا جديدا ودعاء خالصا، وحين ذهبت لم أجد الإمام يؤمنا فى المسجد ، وشغلت عليه ، وحين سألت عنه أخبرونى أنه أثناء عودته بعد صلاة المغرب، تعثر، ووقع، وكسرت ساقه.
انتهت حكاية الشاب فصدقته، ورجعت إلى فروضى ضاربا عرض الحائط بحسابات الصدفة، وأعطيته ما تيسر من النيورولتبات الجسمية على اعتبار أنها تعمل انتقائيا على المخ البدائى، وأن ما يعانى منه هو إرهاصات بداية نشاط مستوى قديم من مستويات وعيه (أمخاخه).
وحين عاد إلىّ فى الاستشارة بعد أسبوعين عاد وقد ذهبت عنه الشكوى تماما، عاد وهو متعجب شاكر طيب، فشكرته بدورى وطلبت منه أن يستمر على العقاقير لمدة ستة أسابيع (وهى المدة التى اعتدت ان أبدأ بها وخاصة مع الذهان المبتدئ)، وعاد بعد الستة أسابيع وهو سليم معافى وعاود ممارسته حياته كالمعتاد، وأنقصنا العقاقير بالتدريج ولم أره بعد ذلك:
تعقيبات لازمة:
أولا : على الطبيب أن يصدق مريضه مهما خالف ما يقوله ما يعرفه الطبيب ويحفظه
ثانيا: كثيرا ما ترددتُ أن أحكى هذه الحالة لأحد، حتى للزملاء خشية سوء التأويل
ثالثا: هذه الحالة مرت علىّ منذ أكثر من عشرين عاما ولم أر غيرها مثلها، وما زلت حذرا من التعميم لكننى ما زلت متمسكا بفرضى الذى جعلنى أبحث عن درجات أخف من ذلك فى بدايات الذهان النشطة، وأن أحترم أكثر هذه العقاقير (النيورولبتات الجسيمة) لقدرتها الانتقائية على تثبيط مخ قديم بالذات دون الأمخاخ الأحدث
رابعا: قربتنى هذه الحالة، والحالات الأخف من احترام نشاطات مستويات الوعى فى التواصل بين الناس لتكوين الوعى البينشخص، فالوعى الجمعى ، فالوعى الجماعى، إلى الوعى الكونى وأنها نشاطات غير منحبسة داخل الدماغ أو الجسد وإنما هى ممتدة إلى محيطه بطريقة لا نعلمها، وهذا يتفق مع ما أشرنا إليه من فروض ونظريا شدريك مثلا عن “العقل الممتد”
خامسا: جاءنى فرض مكمل – دون أية محاولة لتفسير النص الإلهى بالعلم – أن الوقاية من حركة هذه الطاقة القادرة على إفساد هارمونية الوعى الصحى عند الأخرين الأكثر حظا وتميزا، حتى هو باللجوء إلى الالتحام بوعى أوسع وأشمل والتناغم معه حتى تتضاءل أمامه قوى الشر النشاز المنطلقة ضد هارمونية الوعى الجمعى وما فوقه، وشبهت ذلك بعازف خرج عن دوره نشازا وسط فرقة من عشرة عازفين مثلا، وتعذر إخراجه من الفرقة مع أن نشازه قادر على إفساد اللحن، وتصورت أن المايسترو قد زاد عدد العازفين الملتزمين إلى خمسين مثلا، بهدف أن يطغى عزفهم المتسق على هذا النشاز المنفرد، وبهذا القياس تصورت أن فعل اللجوء إلى الله نستعيد به من شر “حاسد إذا حسد”، هو توجه نحو الالتحام بالوعى المطلق إلى وجهه تعالى، فيكون بمثابة الالتجاء إلى وعى اشمل فأشمل يضيع فيه تأثير هذا النشاز الفردى المنطلق للإيذاء، حين يتناغم الوعى الفردى المستهدف خالصا مخلصا بوعى أشمل إلى وجه الله.
أنا آسف، لكننى قررت ألا أحبس ما أصبحت أقرب إليه بعد غوصى – مؤخرا- أكثر فأكثر فى محيط الإدراك وإسهامات الوجدان وتصعيد مستويات الوعى هيراركيا.