نشرة “الإنسان والتطور”
الأثنين: 2-2-2015
السنة الثامنة
العدد: 2712
ملف الوجدان واضطرابات العواطف (64)
ثانيا: الانفعالات العسرة: (27)
اضطرابات الوجدان (العواطف)
عُـسْـر الاضطرابات الوجدانية: كمِّيا (24)
من تناقض الوجدان إلى “تحمل الغموض” إلى الإبداع
بعدنا كثيرا عن اضطرابات الوجدان، الموضوع الأصلى، واستغرقنا فى محاولة البحث عن جذور كل اضطراب فى الحياة السوية، ومنذ نشأ عبر التطور، وقد آن الأوان نختم الملف بظاهرة أشرنا إليها مرارا دون تفصيل، وهى أبعد ما تكون عن ما يسمى “اضطراب الوجدان”، بل لعلها تقف على طرف النقيض من ذلك، وقد أشرنا إليها فى مواقع كثيرة فى النشرات السابقة، لكنها ما زالت تحتاج إلى نشرة مستقلة، وهذه الظاهرة هى “تحمل الغموض”.
حين تداخل الإدراك مع الوجدان مع الوعى أصبح من المتاح أن نلم بقدر أشمل بحركية الإبداع فى صبر أعمق وأصدق، وكيف لاحت لى فى علاقتها بتناقض الوجدان وتحمل الغموض.
إن المتابع لملف الإدراك من (نشرة 10-1-2012) إلى (نشرة 10-3-2013) ثم معظم فضيلة الدهشة وأخيرا ما وصلنا إليه فى ملف الوجدان لابد أن يصله أننا كنا نبحر فى محيط محاط بغمام كثيف، لكن بإصرار مثابر، حتى فوجئنا بهذا التحدى الصارخ فى تناول تناقض الوجدان كظاهرة عند الأسوياء، وكأصل لتحريك تحمل الغموض حتى جدل الإبداع.
لن أتطرق إلى حضور أهمية وجدوى وعطاء مبدأ اللا يقين Uncertainty الذى يسمى أحيانا “نظرية الريبة”، وقد ظهرت هذه النظرية (نظرية اللا يقين أو اللا تأكد) بعد أن صاغها هايزنبرج عام 1927، لكنها تطورت هائلا ورائعا فى النظريات الكموية الرياضية والطبيعية (1)، ثم ظهر تأثيرها فى مجال علم الوعى الكموى (2) وعلم النفس (3) الكموى بشكل شديد الإفادة بالغ الثورية قد نعود إليه ونحن نطرق أبواب الوعى فى سوائه واضطرابه.
وصف هايزنبرج أثار النتيجة الباهرة لمبدأ “عدم التأكد أو اللا يقين” بقوله: “إن عدم معرفتنا المستقبل لا يأتى من عدم معرفة الحاضر ولكن بسبب عجزنا عن معرفة الحاضر”
وحين يحتد اللا يقين بشكل جسيم يظهر فى أمراض نفسية متعددة بدءًا من القلق العام حتى يسيطر سيطرة هائلة فى اضطراب الوسواس القهرى الذى قد يصل به الأمر إلى درجة إعاقة ذهانية.
طبعا لن أدخل فى تفاصيل نظرية اللا يقين وإنما أردت أن أذكر أن هذه الظاهرة تبدأ من كونها حقيقة علمية أحدث ساعدتنا فى فهم الوعى (وبالذات من منطلق الوعى الكموى Quantum Consciousness) وأرى أنها يمكن أن تسهم فى استخلاص ما نحن بصدده الأن من قبول فكرة التناقض الوجدانى والغموض المعرفى الوجدانى كمنطلق إلى الجدل الحيوى التطورى الخلاق.
من أصعب الصعب على الشخص العادى أن يواجه موقفا غامضا لا يستطيع إزاءه المبادرة بالحسم، ومن أغمض مثل هذه المواقف: “تناقض الوجدان”، فإذا تعددت تجليات وجدانات كثيرة فى نفس وساد الوعى الأقرب للظاهر: ازداد الموقف إرباكا واحتد الغموض الذى لا يحله إلا اختزاله – دون قصد واع عادة – إلى أوضح أقرب معالم، أو استقطاب محتواه لفض الاشتباك بين مفرداته، وكلا السبيلين يبعدنا عن الأصل والحقيقة، المأمول، بل الطبيعى لو لم ينحرف بنا المسار أن يحرك فينا هذا الغموض قبول ابتداءً بيقين مخترق، فنقدم على تحديه، ونصبر عليه لعلنا نكتشف فيه ما كان قد غاب عنا فى البداية، فتتحرك فينا نتيجة لكل ذلك آليات تشكيل جديد من واقع تجمع اليقين مع الصبر مع الدهشة مع قبول التحدى،ورفض الاختزال والاستقطاب معا.
أليس هذا هو الإبداع؟
لم يربط أحد بشكل كاف – فى حدود علمى – بين تناقض الوجدان وتحمل الغموض – لكن الكثيرين ربطوا بين تحمل الغموض وبين الإبداع، يعتبر تحمل الغموض – بالشرح الأخير فى الفقرة السابقة من علامات النضج وحافزات الإبداع، أما ما يقابل تحمل الغموض بما يوضحه بما هو عكسه فهو ما يسمى تجنب اللا يقين Uncertainty Avoidance حين لا نتحمل أية درجة من الغموض ولا نقبل إلا يقينا محددا واضح المعالم ولو كان زائفا.
من البديهى أن أيا منا يحتاج أن يتعامل مع أمور واضحة، ومعالم محددة ما أمكن ذلك، لكن إذا كان الواقع الظاهر ليس دائما جاهزا ليمدنا بمثل ذلك، ولا هو فى إمكانه، حتى لو اتضح إلى غاية ما يمكن، أن يحسم الأمر لصالح التحديد والوضوح لما نأمل أو نتصور، فلابد أن ثمة سبل للتعامل مع كل من الغموض المرتبط أشد الارتباط باللا يقين.
إن نجاح التربية والتعليم والتطبيب النفسى والعلاج يمكن أن يرتبط ارتباطا مباشر بالقدرة على استيعاب هذا الطيف الممتد من:
تعدد الوجدانات معا بما فى ذلك التناقض ==> الغموض ==> العجز عن تقبل اللايقين Incoherence of Uncertainty ==> الاختزال أو التفكك أو الإعاقة (وهذا هو المسار السلبى فهو المرض).
أو
تعدد الوجدانات (بما فى ذلك التناقض) ==> الغموض ==> تحمل الغموض ==> الإقدام ==> الانتظار ==> الدهشة ==> إعادة التشكيل ==> الجدل ==> الإبداع (4) (وهذا هو المسار الإيجابى الطبيعى)
فتصبح مهمة الطبيب والمعالج أن يحولوا المسار السلبى إلى المسار الإيجابى، بدلا من الاستسلام للنظريات التعليلية الخطية والتبريرية والتأويلية، أو النظريات الكيميائية التثبيطية الوثقائية
على أنى وجدت فى المتاح من التراث العلمى عشرات الاختبارات لقياس “تحمل الغموض”، لكنها ركزت على تحمل الغموض المعرفى، ولم تقنعنى أى منها.
كما رصدتُ اختبارات مقننة كثيرة جدا لقياس عدم تحمل اللا يقين”، ولم تضف إلىّ ما كنت أبحث عنه.
ما أريد أن أختم به نشرة اليوم هو الإشارة إلى أن ثم تدريبات وتوجيهات قد تساعد على تنمية “سمة” تحمل الغموض، وهى وظيفة أفضل أن اعتبرها وجدانية أكثر منها معرفية، مع أن الوجدان هنا معرفى أساسا، ومن ذلك:
بعض وسائل تنمية تحمل الغموض:
1 – احترام الجهل وهذا ما حرصت فى قراءتى للنفرى حتى أسميه الجهل المعرفى.
2- الحفاظ على القدرة على الانبهار دون فهم.
3- تأجيل التخلص من حركية الدهشة ودفعها مهما أثارات من قلق وحيرة.
4- القبول بمبدأ “تعدد مستويات الوعى”، وتداخل عملها معا مع الاحتفاظ بمحصلة هى التى تظهر لنا سلوكيا معا.
5- القدرة على التأجيل ( تعليق الحكم).
6- الحرص على الاستزاده من المعلومات المكملة والمتجاورة والمتضادة والمتعارضة مع الانطباع الغامض الأول.
7- ترجيح التفكير الفرضى الاستنتاجى بتفريخ فروض قادرة على مواجهة الغموض غير الحريصة على سرعة حله.
8- السماح لقدارات الوجدان المعرفية، وقدرات الإدراك الشاملة غير المختنقة فى الحواس المعروفة، بالإسهام فى التعرف والتشكيل.
9- احتمال تناقض الوجدان بدرجاته المحتملة الذى يمكن أن يصاحب أيا من هذه الخطوات.
10- الاستعداد لاختبار الفروض المبدئية على أى مستوى ( فكرى أو عملى) بمناهج مرنة ومتعددة.
11- الاستعداد للبداية من جديد مع تحقيق أو فشل أيا من الفروض المطروحة.
12- القبول المتجدد لفروض أكثر إحاطة وأكمل تشكيلا من الفرض الأول.
طريق الإيمان وتحمل الغموض (مجرد أمثلة)
وددت لو طرحت هذا الموضوع جانبا خوفا من أن أستدرج إلى ما أفضل أن أتجنبه مرحليا، وأيضا رفضا لفكرة التفسير العلمى للنص الآلهى وما هو فى مقامه، لكننى خجلت من أن يكون ذلك هربا من المسئولية، فقررت أن أعرض نقاطاً عامة من واقع دينى الذى أعرفه، مع العلم أننى أعتقد أنها موجودة فى كل دين سليم بلغة أخرى، لناس آخرين.
أولاً: لم أجد غموضا متحديا رائعا أبلغ ولا أعمق ولا أنفع مما وجدته فى مواقف النفرى حتى الآن من (نشرة 20-10-2008) إلى (نشرة 31-1-2015) (721 صفحة من القطع الكبير A4 يمكن الرجوع لها فى الموقع) لعلها مناسبة طيبة أن أعترف أن مواصلتى قراءته والاجتهاد فى استلهامه طوال هذه السنوات كان من أهم ما ساعدنى على التدريب على تحمل الغموض (5).
ثانياً: لم أجد جهلا محيرا وغامضا أكثر من الجهل الذى دافع عنه النفرى حتى تركنا فى حيرة محورية فعلا حين ينفى الأضداد مثلا وهو ينصحنا أن الجهل ليس ضد العلم، وأن العلم ليس ضده الجهل” ثم يطلب منا أو نطلب نحن من أنفسنا أن نتحمل ذلك ونواصل الكشف والاستلهام.
ثالثاً: إن ما لحق بمعظم الأديان (أو على الأقل ما أعرفه عن دينى) من التقزيم والاختزال والتأويل غير المبدع هو راجع – فى رأيى – إلى عدم تحمل الغموض ومن الإسراع فى الحسم بالتفسيرات اللفظية المعجمية، والتعليلية، والتأويلية، والسببية والتراثية المغلقة.
رابعاً: لا أعرف دعوة إلى تحمل الغموض بمسئولية أكثر من الدعوة للإيمان بالغيب التى تصلنى باعتبارها دعوة إلى تحمل الغموض طريقا إلى الإبداع واضطراد الكشف إلى غيب جديد، فجديد، فجديد إلى وجه الله.
[1] – Quantum Physics & Quantum Mathe matics
[2] – Quantum Consciousness
[3] – Quantum Psychology
[4] – من أجمل ما وصف الحفز إلى تقبل الغموض رباعية صلاح جاهين التى يقول فيها:
وقفت بين شطين على قنطرة
الصدق فين والكذب فين يا ترى
محتار حاموت الحوت طلع لى وقال
هوّا الكلام يتقاس بالمسطرة!!
[5] – مثلا:
وقال لى من لم يستقرّ فى الجهل لم يستقرّ فى العلم.
وقال لى الجهل وراء المواقف فمن وقف فيه أدرك علوم المواقف
موقف وراء المواقف
وقال لى إذا قصدت إلى الباب فاطرح السوى من ورائك
فإذا بلغت إليه فالق السكينة من ورائه وادخل إلى
لا بعلم فتجهل ولا بجهل فتخرج
موقف السكينة
وقال لى إذا علمت علما لا ضدّ له وجهلت جهلا لا ضدّ له
فلست من الأرض ولا من السماء.
موقف بين يديه
إن شئتَ قرأتَ ما استلهمته من كل هذا الغموض فأرجع إلى الرابط (مواقف النـفـّرى بين التفسير والاستلهام).