نشرة “الإنسان والتطور”
الأحد: 12-10-2014
السنة الثامنة
العدد: 2599
الأساس فى الطب النفسى
الافتراضات الأساسية: الفصل الخامس:
ملف الوجدان واضطرابات العواطف (29)
عظة الموت تتسرب!!
استدرجنا ملف العواطف حتى وصلنا إلى أسس هامة تحد من غلوائنا فى تصورنا أننا نفهم بدرجة كافية ما هو عاطفة وما هو انفعال وما هو وجدان، لعل أهم هذه الأسس هى أن العواطف والانفعال هى وسيلة معرفية وليست مجرد ظاهرة تابعة أو مكملة وحين قبلنا هذه الحقيقة تفتحت أمامنا مناهل أخرى لمعرفة أكثر موضوعية وأقل أغترابا علينا أن نأخذها فى الاعتبار بدلا من المضى قُدُماً فى تصوراتنا الحالية حتى لو سميت علمية.
حين وصلنا الأسبوع الماضى إلى إشكالة “الوقتية” كعاطفة أساسية فى التركيب الحيوى الغائر، وليس فقط فى التركيب البشرى، كان علينا أن نتوقف كثيرا أمام المنهج من ناحية وأمام أحقية الوظائف الأوْلى بالبداية وإعادة النظر من ناحية أخرى.
من منطلق التفكير التطورى فإننا ننطلق من الأدنى للأرقى، ونحن إذا لم نُحِطْ علما بدرجة كافية بطبيعة وأبعاد ما هو أدنى وأبسط، فقد يفوتنا الكثير ونحن نتناول الأحدث والأكثر تعقيدا وأشكل تركيبا.
بالنسبة للمشكلة المعنية اليوم أشرت فى الأسبوع الماضى إلى احتمال أن أتناولها من منطلق “النقد الأدبى” حيث أننى كررت مرارا أننى تعرفت على الطبيعة البشرية من خلال ممارستى للنقد الأدبى، أكثر مما تعرفت عليها من خلال قراءاتى العلمية، وكانت ممارساتى المهنية تقربنى أكثر لمصدرى الأول (النقد الأدبى) ولا تبعدنى كثيرا (أو تبعدنى فى أحيانا) عن دوجما ووصاية المعلومات العلمية المغلقة.
كنا قد وصلنا فى التعرف على “ظاهرة العواطف” والوجدان إلى ضرورة البدء من عواطف الأطفال (عاطفة البهر) وأيضا انفعالات وتعبيرات الحيوان، فانتبهنا إلى أن الألفاظ أعجز عن أن تعبر بدرجة كافية عن العواطف وبالتالى وجب الاعتماد على نوع من الحدس والمشاركة الفينومينولوجية فى فحص هذه المراحل البادئة.
بالنسبة لظاهرة الوعى بحتم النهاية فقد تناولتها فى أعمالى النقدية التى سأعود إليها بالتفصيل، لكننى الآن لابد أن أقر أننى لم أكن أتصور أبدا أنها ظاهرة كامنة أو موجودة عند الحيوانات بهذا القدر ولا بهذه الأولوية، كيف لحيوان له وعيه البدائى (“عقله” بلغة دينيت) (1) أن يدرك ولو فى أعمق طبقات وجوده أنه سوف يعيش حتى وقت بذاته، ومع ذلك لم أرفض الفكرة بل إننى طورتها وسايرتها حتى أوصلتنى – الأسبوع الماضى – إلى احتمال ربطها بحركية السعى للإيمان ربطا بنظريتى الباكرة “عن الأسس البيولوجية للإيمان”.
أثناء مراجعتى لأعمالى النقدية وجدت فى نقدى لرواية باكرة هى “الأفيال” لفتحى غانم هامشا يشير بعضه إلى الاعتراف بهذه الظاهرة، وبديهى أننى كتبته منذ ثلاثين عاما ولم أكن منشغلا بمثل ما أنا منشغل به الآن، لكن يبدوا أن جذور المسألة كانت واردة، فيما جاء فيه عن “مقبرة الأفيال” الفاغرة فاهها لاستقبال جماعة الموتى هروبا من فزع الأنقراض، تزفهم ارهاصات النهايات”. (وهل إرهاصات النهاية إلا ما يشير إلى إشكالة الوقتية التى نتناولها الآن؟).
عدت إلى بقية أعمالى النقدية فوجدت أن أهم ما يمكن أن يمثل ما أريد الإشارة إليه هو النقد الذى كتبته مؤخرا عن “تشكيلات الخلود بين “ملحمة الحرافيش”، و”حـضرة المحترم” لنجيب محفوظ، فمن ناحية هو أحدث أعمالى النقدية، فقد ظهر كما هو مبين فى العدد السادس لدورية نجيب محفوظ: ديسمبر 2013 ، ومن ناحية ثانية فقد عرض لأهم محاولات إنكار الموت بضلال خلود زائف (الحرافيش) أو توظيف الوعى به لتدعيم أوهام اللا نهاية (حضرة المحترم)، وهذا ما أشرنا إليه الأسبوع الماضى فى أن أسلوب الإنكار هو أول ما يلجأ إليه ما نعرفه عن الكائن البشرى على الأقل، قررت أن يكون هذا العمل وحده كافيا وممثلا لإضافة النقد الأدبى فى فهم ظاهرة صعبة علينا وهذا غالبا ما سوف أبدأ به غداً وبعد ذلك.
فى نفس الوقت عثرت على عناصر كنت كتبتها استعدادا لمناقشة الظاهرة بوجه عام ففضلت أن أبدأ بها كما يلى:
كيف يواجه الإنسان حتم النهاية؟
“الوقتية” تعنى الوعى بحتم النهاية، يواجهها الحيوان بطريقة لا نعرف عنها شيئا ولا هو يدركها فى ظاهر وعيه غالبا، لكن ما هى تنوعيات المواجهة البشرية لنفس الظاهرة؟
فيما يلى ما وجدت من عناصر للإجابات المحتملة:
أولاً: المواجهة المباشرة (بعد فقد عزيز مثلا):
1) تهميش الموضوع كله ما أمكن ذلك
2) التذكرة المناسباتية
3) النسيان الجاهز بأسرع ما يمكن، ما أمكن ذلك (أنظر الملحق)
4) اختزال الرحيل بتخصيصه للراحل دون تعميم (لستُ أنا)
5) الترحم والدعاء فى المناسبات
6) رعاية ما ترك، أو من ترك، نيابة عنه
ثانيا: آليات الإنكار وما بعده:
1) الإنكار الكامل برغم الكلام عنها (النهاية) أحيانا أو كثيرا.
2) التمادى فى الاغتراب كلما اقتربت الحقيقة خفْية من الوعى الظاهر.
3) زيادة جرعة التدين الخائف المتجمد
4) زيادة جرعة عدم الأمان بما يستبع ذلك من جمع أموال أو تكديس ممتلكات ورعب تأمينى متزايد.
5) زيادة استعمال السلطة والقسوة والهجوم أحيانا
6) زيادة الاستغراق فى اللذات ما سمحت الصحة والتكلفة بذلك.
7) الانغماس فى المخدرات
8) الانسحاب للاستعداد دون انسحاب حقيقى
9) إغلاق دائرة الزمن بالسير فى المحل والدوائر المغلقة فى نفس المستوى
10) الجنون (يقتل الزمن ويغرقنا فى “هنا الآن” سلبيا)
ثالثا: الإقرار والإذعان والاستعداد، وقد ياخذ أى من الأشكال التالية:
1- التدين الحقيقى والاقتراب من الله استعدادا للقاءه
2- الامتداد فى الأولاد ( اللىِّ خلِّف ما مَتْش)
3- الامتداد فى الناس والوعى الجمعى
4- الامتداد فى الإبداع (لترك ما ينتفع به من إضافة أو تنوير)
5- الكدح إلى التوازن مع مستويات الوعى المتصاعدة إلى وجه الحق تعالى
6- الرضا بالعدم الطبيعى لمن انفصل عن الوعى الجمعى والكونى
الملحق
طلب منى بعض الأصدقاء نشر القصيدة التى اقتطفت منها نهاية نشرة الأثنين الماضى، ووجدته طلبا معقولا، بل إننى عنونت النشرة كلها بعنوان “عظة الموت تتسرب”.
عظة الموت تتسرب
وأزعم أنَّ القناعَ القديمََ تساقطَ حتَّى استبان المدارُ، يبشّرُ بالمسْتحيلِ:
إِذَنْ؟
وتسرى المهارُبََ تْنحَتُ درباَ خفيَّا بجوْف الأملْْ، فأخْشىَ افْتضاحََ الكمائنَ نسف الجسور، وإغراقَ مَرْكبِِ عَوْدَتَنا صَاغرينَ، فَأُمْسكُها، تَتسَحّبُ بين الشُّقُُوقَ، وحَوْلَ الأَصَابع، تَمْحُو التَّضَاريِسَ بين ثَنَاياَ الكلامِ، تُخَدّر موضعَِ لدْغََ الحَقَائقْ، تَسْحَقُ وَعْىَ الزُّهَورِ، ولحَنَ السَّناِبلِ.
مَنْ؟
لماذا الدوائرُ رنُّ الطِنَّينِ، حَفيفُ المذنّبِِ، يجرى ، بنفسِ المسارِ لنفس المصير،
بلاَ مستَـقَرْ؟
لماذا نبيُع الْهُنَا الآن بخساً بما قد يلوح، وليس يلوحُُ، فنجَتُّر دَوْما فُتَاتَ الزَّمْن؟
لماذا الوُلوُجُ؟ الخُروجُ؟ الدُّوار؟ لماذا اللِّماذا؟؟
فَمَاذَا؟
….وأخْجَلُ أَنْ تستبينَ الأمورُ فُأُضْبَطُ فى حُضْنِها الغانية.
فأزعم أنّى انتبهتٌٌ، استعدتُ، استبقتُ، استبنتُ،..
(إلى آخره!!)
ويرقُصُ رقّاصُها فى عنادٍ، فتنبشُ لحْدَ الفقيدِ العزيزِ، ُتُسَرّب منه خيوطَ الكَفَنْ.
أخبِّئها فى قوافي المراثى لأُغْمِدَ سَيْفَ دُنُـوّ الأجَلْ.
فياليته ظلَّ طىَّ المحالِ،
وياليتَها أخطأتها النبالُ،
وياليتني أستطيبُ العَمَى.
10/5/1986
[1] – دانييل دينيت: 1996 “أنواع العقول، نحو محاولة فهم الوعى”
Daniel C. Dennet 1996 “Kinds of Minds Towards Understanding of Consciousness”
الكتاب المترجم صادر عن “المكتبة الأكاديمية” القاهرة 2003