نشرة “الإنسان والتطور”
الأحد: 31-1-2016
السنة التاسعة
العدد: 3075
الأساس فى الطب النفسى
الافتراضات الأساسية الفصل السابع:
ملف الاضطرابات الجامعة ( 28 )
أنواع أخرى من الطبنفسى السلبى! (2)
مقدمة:
ما زلنا بصدد البحث عن ما أسميته “الطب النفسى السلبى”، وقد بدأت الفكرة بمحاولة الالمام بماهية “الطب النفسى الإيجابى” من التعرف على نقيضه، ولكن مع التمادى فى البحث والنظر اكتشفت أن ما يسمى الطب النفسى الإيجابى هو مثال خفى لنفس ما نقدمه عن “الطب النفسى السلبى”، فى حدود ما عرّفناه به، ربما لخطأ منـَّا فى التسمية، أو لخطأ فى التصنيف، فهذا الطب المسمى الايجابى – كما سوف نرى – هو أقرب إلى مواصفات الصحة النفسية كما يقدمها هذا الطب!! بمواصفات طوباوية، حيث تتركز مهمته فى الحفاظ على الصحة النفسية، بما يعتبر نوعا من الوقاية، لكنه ليس “طبا بمعنى الممارسة الفنية المهنية المسئولة” عن الأفراد المرضى فضلا عن المفهوم “الساكن” الذى يقدمه لماهية الصحة كما يقدمها هذا الطب .
واليوم دعونا نكمل أولا ما أسميناه بالطب النفسى السلبى، ومرة أخرى لا نعنى بذلك تصنيفا لأنواع طب لا تروق لنا، وإنما هى تذكرة حتى لا نـُسْتَدْرَجُ إلى سلبيات لا نقصدها.
(7) الطب النفسى التحفظى الذاتى:
وهو نوع الطب النفسى الذى تقوم فيه سلطات خارجة عن المهنة الطبية الأصلية (وأحيانا عن المسئولية الحقيقية) بالتدخل بين الطبيب والمريض فى فرض إجراءات تفاصيل مساعدة المريض، كما ينبغى، من وجهة نظر خارج الممارسة الطبية، وهو الطب الذى يمارَسُ غالبا فى البلاد التى تسمى متقدمة والتى تتدخل فيها سلطات غير طبية: قانونية أو تأمينية أو تجارية استثمارية أو ميثاقية شبه إنسانية، وهنا يصبح الهم الأول للطبيب هو حماية نفسه وتأمين إجراءاته من المساءلة، ثم يأتى فى المقام التالى علاج المريض، وهكذا يجد الطبيب نفسه يسير بخطوات لا يحكمها وعيه وإيمانه وعلمه ومعرفته وأمانته وبصيرته وخبرته فى المقام الأول، وإنما تحكمها العناية بملء الأوراق الرسمية وتسديد الخانات وتسجيل التحفظات، وبرغم ما يبدو فى ذلك من مظاهر تٌـعـَدُّ ضمن الحفاظ على حقوق المريض، وأن هذا يبدو مطلوبا من حيث المبدأ، إلا أنها كثيرا ما تقلب الطبيب إلى مُنفِّدٌ لمنظومة من خارجه أكثر من ممارسٍ لقدراته حسب إخلاصه لضميره وحسابه على ربه، واحترامه لأصول مهنته لصالح مريضه، وهذا – كما قلنا- ما يجرى غالبا فى البلاد المسماة بالمتقدمة، أما ما زال يجرى بعرفٍ طـَيـّب فى بعض البلاد التى توصف بأنها أقل تقدما (أو متخلفة) فإن الوعى العام والوعى المهنى والوعى الأخلاقى والوعى الإيمانى فى تجلياتها الإيجابية قد يسمح بتوثيق التواصل بين الطبيب والمريض عبر الوعى البينشخصى أو الوعى الجمعى أو الوعى الإيمانى بل كل ذلك معا، مما لا يمكن أن يوصف أو يسجل فى الأوراق، وهكذا تتوثق العلاقة الإيجابية الإبداعية بين الطبيب والمريض – بحذر شديد – لصالح الاثنين معا، دون أن يحول التحفظ الشخصى والحرص على سلامة الطبيب على حساب الإخلاص اللازم لمعونة مريضه بما يتفق مع علمه، ويؤكد إنسانيتهما ويرضى الله.
(8) الطب النفسى الاسترزاقى:
السعى للرزق ليس عيبا وليس ظاهرة سلبية، بل إنه من أهم علامات ما هو صحة وما هو شرف الوجود، فمن حق الطبيب النفسى أن يكسب من ممارسة مهنته، لكن إذا كان الكسب من ممارسة المهنة أمرا طبيعا،(1) فإن التنبية واجبٌ حتى لا تنقلب. المسألة ليصبح الكسب من المهنة هو المهمة الأولى والأخيرة للطبيب مقابل الخدمات التى يقدمها، إن حصل ذلك فلابد أن نعترف أنها ممارسة سلبية بكل معنى الكلمة، وإن كنت استبعدها بصفة عامة وأحذر من تعميمها لسبب بسيط: هو أن المكسب على المدى الطويل عادة يرتبط بالنجاح فى أداء المهمة وإتقان الحرفة، ونجاح الطبيب حتى يزيد مكسبه هو أن يشفى مرضاه، فى نفس الوقت الذى يحصل فيه على مقابل عمله وجهده.
(9) الطب النفسى التَّرْجَمى:
هذا النوع هو الذى بدأت بنقده فى مقدمة هذه السلسلة وذكرت بعض تفاصيل ذلك فى (نشرة: 1-11-2015)، تلخيصا لمقال افتتاحى فى مؤتمر الاسكندرية عن الطب النفسى الترجمى.(2)
ونعود هنا فنذكّر أن هذا الطب الترجمى إنما يركز على ممارسة الطب النفسى بتطبيق معطيات نتائج المعمل على المريض أولا بأول (بالعافية!!!) وأكتفى هنا بإيجاز بعض معالم نقده كما قدمتها فى ذلك المؤتمر.
فالطب النفسى التَّرْجَمى هو العملية التى تنقل الاكتشافات العلمية مما “قبل الممارسة الإكلينيكية” Pre- Clinical إلى التطبيق الإكلينيكى بهدف تحسين محكات الصحة، وبالتالى الإقلال من المرض ومعدلات الوفاة وقد سبق لى نقده بالتفصيل، بادئا بالتنبيه على الحذر من فرط الثقة بكل معطيات المؤسسات العلمية التى تمارس العلم المؤسسى باهظ التكلفة، ومحاولة تعرية استعمال العلم لأغراض تجارية تسمى بأسماء علمية، ثم بالتأكيد على أهمية وتاريخية الممارسة الطبية عموما والطبنفسية خصوصا وأنها “من الممارسة إلى البحث العلمى وليست من البحث العلمى إلى الممارسة الإكلينيكية، ثم كيف أن الممارسة الإكلينيكية هى بحث علمى كامل طول الوقت، قد تحتاج دعما من العلماء الشرفاء حين تقترح عليهم فروضا قابلة للاختبار بأدواتهم، جنبا إلى جنب مع متابعات الممارسة بداهة.
وأخيراً: فإنى أنهيت نقدى بالتذكرة بماهية الطب عامة “كُفَنّ” من أول قول أبو قراط: “العمر قصير والفن طويل”(3)، وحتى فكرة “نقد النص البشرى” (نشرة 21-7-2015) (نشرة 5-7-2015).
وقد خُلُصت من كل ذلك إلى أن هذا المسمى “الطب التَّرْجَمى”: هو ضد تاريخ الطب كله، وضد تاريخ الطب النفسى خاصة، ولا يدعمه العلم المعرفى العصبى، ولا المدى الذى وصلته البيولوجيا النفسية والعصبية، ولاإسهامات العلوم الكموية (الكوانتية)(4) وكيف أن المخ يعيد بناء نفسه، طول الوقت، وأخيراً فإن دور الوعى البينشخصى والوعى الجمعى فى العلاج هو أبعد عن البحث العلمى فى المعمل إن لم يكن ضده.
(10) الطب النفسى التهدئتى:(5)
وهو المفهوم الشائع عند أغلب الناس (بما فى ذلك المرضى وأهاليهم) حيث يغلب على ظنهم، بل اعتقادهم، أن مهمة الطب النفسى هى “الترييح”، وأنه: “من المفروض يا دكتور إنك تريحنى”، وأنا عادة ما أحتج على مبدأ أن يعلمنى المريض أو أهله ما هو المفروض وما هو ليس مفروضا، ثم أعذرهم وأداعبهم أو أنبههم بلا مداعبة، أن يعيدوا قراءة اللافتة على الباب أو على العمارة فإذا كان المكتوب عليها الدكتور الفلانى “المريّحَاتى” فأنا تحت أمرهم، أمّا إذا كان المكتوب هو: “الدكتور فلان” فقط، فمهمة الطبيب هو أن يعالج المرضى بالطريقة التى تعلمها ومارسها وجربها وأعانت مرضاه طوال هذه السنين، بما فى ذلك احتمال ألم التغير والنمو، كمرحلة على طريق التعافى والصحة،
وتبدأ علاقة إيجابية أكثر جدوى وأنفع لكلينا.
(11) الطب النفسى المستورد:
(أ) وهو يعنى ممارسة الطب النفسى بقيم “سابقة التجهيز”، مستوردة من ثقافة غير ثقافتنا لأهداف لا تتفق كثيرا مع طبيعة قيمنا، من أول الحرص على الحرية المزعومة, حتى خدعة المواثيق “المكتوبة” “جامعة” “مانعة” لما هى حقوق الإنسان المُـحْـتَكَرَة، دون النظر إلى الفروق الثقافية ولا إلى اختلافاتنا عنهم فى حقيقة وموضوعية امتداد دوائر الوعى: من الوعى الشخصى إلى الوعى البينشخصى إلى الوعى الجمعى إلى الوعى الجماعى إلى الوعى المطلق إلى الغيب، إليه، كل هذا بالنسبة لثقافتنا هى حقائق يومية موضوعية تسهم بفاعلية فى الشفاء، وحين تقتصر ممارستنا على تقزيم وجود الإنسان لينتهى عند هامة رأسه، مرجحا مما فيها غلبة عقله الطاغى الظاهر: فنحن نتجاوز بذلك حقائق موضوعية، وننسلخ بعيدا عن ثقافتنا.
(ب) وهناك نوع آخر من هذا الطب المستورد: وذلك حين نواصل استيراد الأحدث فالأحداث من نتائج الأبحاث المقارنة المعملية بالذات لتطبيقها دون اختبار هادف فى واقع ثقافتنا بما يترتب عليه الإسراع فى قبول واستعمال عقاقير أحدث، فأحدث باهظة الثمن جدا (جدا)، لا تتفق مع الوضع الاقتصادى للغالبية العظمى من مرضانا، ونفضّلها تحت زعم شجب العقاقير الأنجع والأرخص بالمبالغة فى تصخيم ما يسمى آثارها الجانبية، حينئذ يصبح الاستيراد ليس قاصرا على استيراد الافكار ونسخ ثقافة من خارجنا، وإنما يمتد إلى استيراد مزاعم شبه علمية لصالح مؤسسات استثمارية سلطوية.(6)
(12) الطب النفسى المثالى (بما يشمل “الإيجابى” و”التطورى”)
من حيث المبدأ أذكِّر أننا نمارس مهنتنا مع بشر يسيرون على أرض الواقع، وأن أية أحلام مثالية براقة هى مشروعة ومأمولة، لكن علينا ألا نفرض ما نرجوه – وغالبا عجزنا عن تحقيقه لأنفسنا – على مرضانا حُبًّا فيهم وأملا فى مستقبلهم “الطبُّ أصدقُ أنباًء من الكُتُبِ”.
هذا وقد وصلتنى هذه الروح مما يسمى الطب النفسى الإيجابى، كما لا أبرىء نفسى فأعترف أننى شطحت باكرا فى تمنياتى فى إرهاصات نظريتى التطورية أن يكون فيما أمارسه إصلاح للعالم …الخ.
أشرت وألمحت فى مقدمة هذه الحلقة إلى احتمال تقديم ما يسمى “الطب النفسى الإيجابى” باعتباره سلبيا من منطلق أنه يقوم تسكين معنى الصحة النفسية والبعد عن الممارسة الإكلينيكية الواقعية الفردية، ثم إننى أتقدم خطوة الآن بالنقد الذاتى باعتبار ما يسمى الطب النفسى التطورى مثاليا أيضا، خاصة فى بداية تنظيرى فيه كما ذكرت، وبالتالى فهو سلبى، بما فى ذلك نظريتى المسماة “النظرية التطورية الإيقاعحيوية”، حيث تبدو مثالية لولا التحفظات فى تطبيقاتها والشروط اللازمة لممارسة إمكاناتها على أرض الواقع الإكلينيكى، الأمر الذى حاولت تصحيحه فيما بعد.
إنه لكى يعتبر كل من الطب النفسى الإيجابى رغم اسمه والطب النفسى التطورى برغم انتمائى إليه ليسا من الطب النفسى السلبى الطوبائى، فعلى كل منهما أن يقدم تفاصيل عملية تطبيقه فى الممارسة الإكلينيكية قبل التعميم على أى مجال آخر.
وهذا ما حاولت تطويره فى نشرات متتابعة عن مستويات الصحة النفسية وهى نشرات:(نشرة 26-10-2010) و(نشرة 2-11-2010) و(نشرة 23-11-2010) و(نشرة 24-11-2010) و(نشرة 30-11-2010) و(نشرة 1-12-2010).
فى محاولة أن أربط بين النظرية التطورية الإيقاعحيوية، وبين واقع التطور الفردى والاختلافات الفردية، وأيضا اختلافات الثقافات وخاصة فيما يتعلق بالتطبيق.
[1] – بل ويساعد وأحيانا المريض أن يمارس العلاقة بجدية واقعية حين يدفع مقابل الخدمة، فيضطر أن يكون أكثر تعاونا وحرصا على الوقت وعلى التقدم نحو الشفاء.
[2] – المؤتمر بتاريخ 30/10/2014 المحاضرة بعنوان: (العلم المعرفى العصبى والنيوروبيولوجيا البينشخصية – من الممارسة إلى العلم (وليس العكس).
[3] – Life is short, art is ling
[4] – Quantum Sciences
[5] – التطمينى/الترييحى/ التسكينى
[6] – وهذا بعض ما يروج له الطب النفسى الترجمى.