نشرة “الإنسان والتطور”
الأثنين: 2-3-2015
السنة الثامنة
العدد: 2740
الأساس فى الطب النفسى
الافتراضات الأساسية: الفصل الخامس:
ملف اضطرابات الإرادة (6)
الخيال والمنهج والزمن والتطور
حين كنت ألقى محاضرة افتتاحية فى مؤتمر قسم الطب النفسى كلية الطب جامعة القاهرة طلبت من الحاضرين ألا يُعْمِلوا فكرهم فيما سوف أقوله، وأن يسمحوا لبعض خيالهم أن يتلقى بعض ما سوف أطرح عليهم، كل ذلك دون أن يتخلوا عن حقهم فى ترجمة ما يصلهم إلى سابق معارفهم ثم الحكم عليه، وأعتقد أننى لم أنجح – كالعادة- فى توصيل ما أريد .
حضرنى هذا الموقف حين استدرجتنى نشرة أمس إلى بدء الحديث عن النظرية التطورية الإيقاعحيوية، فرحت اليوم أراجع ما ورد أمس وأشفقت على المتلقى، واحترمت العزوف عن التعقيب والمناقشة، ولم يثننى أى من ذلك عن أن استمر.
لكننى راجعت نفسى وقلت أشرح بعض ما وصلنى عن مأزقى قبل أن أتمادى فى تقديم هذه النظرية .
أبدأ اليوم فى طرح فكرة عامة تتعلق بمساحة الزمن الذى تتحرك فيه هذه النظرية شديدة الاتساع، دائمة الإيقاع، حتى تصورت أنه يلزم لى، كما يلزم لمن أُخاطِب، أن ينشِّط وعيا ممتدا حتى يتلقاها، وعيا أرفض الآن أن اسميه خيالا، فدعونى أتصوره “إدراكا نابضا بلا حدود”.
أنا أبدأ من بلايين السنين منذ بدء الحياة لأنتهى “هنا والآن” فى مواجهة أجزاء الثوانى، كنت أخجل وأنا أشرح لزملائى وطلبتى عن أهمية ما يجرى فى الجزء من ثانية أثناء حركية جلسات العلاج الجمعى، وكانت المناقشات بعد جلسات هذا العلاج من الحضور فى الدائرة التدريبية الأوسع، كانت المناقشات توصل لهم أحيانا ما أعنيه بضرورة الاهتمام الحقيقى بما يمكن أن يجرى فى هذا الجزء من ألف من الثانية.
أنا آسف، وأكرر أسفى، لكن دعونا ننظر أولا فى هذه الأرقام:
□ عمر الكون 9- 20 بليون سنة
□ عمر الأرض 4-6 بليون سنة (أقدم تسجيل لصخورها 4 بليون سنة)
□ عمر الحياة على الأرض 1-2 بليون سنة
□ عمر الإنسان 600 ألف سنة !!!
□ علامات وإرهاصات نشأة اللغة منذ 100 ألف سنة
□ الأديان السماوية + 4000 سنة
□ عمر ما يسمّى العلوم الحديثة 200 سنة
□ عمر العلوم الأحدث 50 سنة
□ عمر العلوم الأحدث من الأحدث 20 سنة
هذه الأرقام تقريبية لكنها من مصادر علمية وتاريخية وهى بعض نتاج علوم كثيرة (من الجيولوجيا والباليونتولوجيا – أشكال الحياة فى العصور الجيولوجية السابقة- إلى التاريخ مروراً بالبيولوجيا ..إلخ)، أتصور أن خيالنا قاصر عن التعامل معها بما يسمح بامتزاجها بالوعى، فنسيج الثقافة الفردية فالعامة، ومع ذلك فأملى أن تقربنا مما أريد طرحه وليس العكس.
مسيرة الإنسان بفضل الله هى امتداد لمسيرة من قبله، هى التجمع للتفكك للتجمع فى واحدية متعددة التركيب متنامية متبعة برامج بقائية نمائية إبداعية إيقاعية باستمرار
تعالوا الآن نتصور أن هذا العدد من السنين يمكن أن يوجز ويستعاد فى 9 أشهر حمل، وثمانين سنة عمرا (على أحسن الفروض)، (الأنتوجينيا تلخص وتكرر الفيلوجينيا)
ثم نعود نتصور أن هذا العدد من ملايين السنين الذى تلخص فى عمر كل فرد بشرى يمكن أن يُلخّص فى عدد من الأشهر إلى بضع سنين فى أزمات النمو (أعمار الإنسان الثمانية) (1) (الماكروجينا تلخص وتكرر الأنتوجينيا) (2)
ثم نتصور أن هذه الدورة نفسها تحدث بشكل أو بآخر أثناء دورات النوم والتبادل بين النوم النقيضى نوم الريم REM والنوم العادى عشرون دقيقة كل تسعين دقيقة.
وأخيرا نتصور أن هذه الدورة هى هى يمكن أن تعاد بإيجاز مطلق فى ثوان أو بضع من الثانية فى انطلاقة عملية الإبداع (بمعناه الشامل) (الميكروجينا تلخص وتكرر الماكروجينيا)
أسف مرة أخرى!
فإذا انتقلنا إلى علاقة هذا كله بتصور أن المحيط من حولنا يجرى به يوازى هذا الإيقاع الشخصى، وهو يمتد من الوعى الشخصى إلى الوعى الجمعى إلى الوعى الجماعى إلى الوعى الوطنى إلى الوعى البشرى إلى وعى الوجود كله فى نبضات إيقاعية حيوية طول الوقت، فهل يمكن أن نبنى فروضا عملية تطبيقية على مثل هذه المعلومات المتحدية؟
ليس هذا فحسب، بل إننى حين نمى إلى علمى فشل 999 من كل ألٍف من الأحياء فى معارك البقاء، وأن كل ما تبقى هو واحد فى الألف (من بينهم الإنسان والضفادع والنمل والجراد…الخ) حين نمى إلى علمى ذلك رُعبت من احتمال فشل البشر الذى بدت علاقته مؤخرا، أكثر عرضه للانقراض من أجداده، لما بلغه من التشرذم وتخثر الوعى العام، والتقاتل داخل نفس النوع حتى الإبادة، وقد عزوت هذا الفشل السابق، والممكن حالا إلى العجز عن مواصلة استعمال برامج البقاء المرتبطة بالإيقاع الحيوى بكفاءة مناسبة.
وحين رحت أمارس العلاج الجمعى منذ حوالى نصف قرن (44 سنة) حتى الآن، جعلت ألاحظ تلك التغيرات المتناهية الصغر، وأنبه إلى ذرات حركية الوعى العابرة وهى تتراكم خلال عام العلاج المتفق عليه، وأشير إلى هذه النقلات فى وحدات الزمن متناهية الصغر (ثوانى أو أقل) ورحت أشير إليها فى المناقشات بعد جلسة العلاج الجمعى مع دائرة الحضور الأوسع من المتدربين، وأعزو التغير إليها دون تردد، آملا فى تراكمات إيجابية تحقق نتيجة العلاج فأتامل فيه.
هذا بالنسبة للبعد الطولى الذى لو صحّت فروضه فعلينا أن نتصور أن الإنسان وهو على قمة التاريخ الحيوى مازال يحتوى كل المراحل السابقة التى يمكن أن تكون ماثلة كمستوى ما من مستويات الوعى فينا حتى الآن، وبالتالى فإن الإنسان يحتوى (فى دماغه وجسده وكله وليس فى ذاكرته المخية والظاهرة) كل تنظيمات تاريخ الحياة، وهذا يحتاج منا خيالا أرحب حيث يتطلب أن نتصور أن قطاعا مستعرضا فينا “هنا والآن” يمكن أن يعلن وجود كل هذا التاريخ، والذى لا ينظمه إلا النبض الحيوى المستمر (حتى بعد الموت: انظر نشرة 29-9-2014).
أشعر أن المسألة زادت صعوبة، ولا أريد أن أكرر أننى وبعض مرضاى، وبعض زملاتى الأصغر والأطفال وبعض العجائز ونفر من الأميين الطيبين يعيشون كل ذلك ليل نهار، دون حاجة بعضهم للقراءة والكتابة أصلا.
وهذا يعنى أننا نتعامل مع عدد بلا حصر من مستويات الوعى، وحالات العقل، وتجليات الذات، وبرامج البقاء وهى تنبض فى كل ما هو نحن باستمرار.
هل وصلتُ إلى ما يستوجب الانهاء والاعتذار؟
نعم
وإليكم ما تنتظرونه.
أنا آسف للمرة الأخيرة
لا أظن أن أحدا ممن لم تتح له فرصة معايشة هذه الخبرات يمكن أن يصدق بعض ذلك، لكننى أشهد أن العاملين فى مجال علم الوعى، وعلم النيوروبيولوجيا والعلوم الكوانتية الطبيعية، والعلوم الكوانتية النفسية والطب نفسية قد وصلوا إلى ما يدعم هذه الخبرات التى أفرزت هذه الفروض بشكل أو بآخر.
لابد أن أعلن أننى مازلت أعانى من العجز عن مجرد تخيلى كل هذه المساحة من الزمن أو تمثل تناهى ما يلخص من دورات بدءاً من ملايين السنين إلى أجزاء الثانية، لكن دعونى أعترف أن هذا يحضر لى فى الممارسة العلاجية، وبالذات فى العلاج الجمعى وعلاج الوسط، وأحيانا لمحات فى بعض العبادات، كما أتصور أنه يمكن أن يحضر مع كل من لم يتشوه وعيه بما حشر فيه من رموز وتجريد واغتراب وانفصال عن دوائر الوعى بالطول والعرض.
أنهى هذه النشرة بالرغم منى معلنا:
أولا: اقتناعى أكثر فأكثر بعجزى عن الاستمرار فى تقديم النظرية الايقاعية الحيوية بهذه الطريقة، لكننى سوف أحاول.
ثانيا: أعلن اعتذارى الأخير للقارئ الطيب الذى رفضنى جملة وتفصيلاً
أما من وصله أى احتمال تصديق، فهو مسئول عن ذلك.
[1] – إريك إريكسون
[2] – أنظر نشرة الأمس:(اضطرابات الإرادة (5) “من منظور الإيقاع الحيوى الإرادة عملية متغيرة مع نبض الإيقاع”)