نشرة “الإنسان والتطور”
الأحد: 1-3-2015
السنة الثامنة
العدد: 2739
الأساس فى الطب النفسى
الافتراضات الأساسية: الفصل الخامس:
ملف اضطرابات الإرادة (5)
اضطرابات الإرادة
(الاعتمال (؟) والاعتزام) (5)
من منظور الإيقاع الحيوى
الإرادة عملية متغيرة مع نبض الإيقاع
مقدمة:
أنهيت نشرة الأسبوع الماضى (الاثنين الماضى 23 فبراير) بما يلى:
……هكذا لاح لى أنه قد آن الأوان لتقديم ملامح موجزة جدا عن النظرية التطورية الإيقاعاية التى أود أن أغير اسمها إلى النظرية التطورية الإيقاعحيوية، وبرغم قبح وطول الكلمة المضغمة التى حضرتنى بكل هذه الغرابة، إلا أننى وجدت أن استعمالها ولو مؤقتا قد يكون مناسبا لكى أحدد بها أننى أقصد الإيقاع الحيوى طول الوقت،
وحين هممت بالوفاء بوعدى وجدت أننى قد أعرج إلى ما أجلته حتى الآن أكثر من ثلاثين عاما، وهو تقديم هذه النظرية النابعة من خبراتنا مضافا إليها ما بحثت فيه وقرأته طوال هذه المدة أثناء الاطلاع على كل ما يمكننى مما يدعم فروضى لعلها ترتقى فعلا إلى ما هو نظرية، لكن أخشى ما أخشاه – كالعادة- أن نجد أنفسنا فى موضوع شديد التشعب حتى يحتاج إلى كتاب بأكمله على حساب كتاب الأساس الذى أصبح عدة كتب دون قصد مسبق.
فليكن، مادام من يتابعونا هم قلة، ومن يتحملنا منهم هم أقل، فما هو المانع أن تسترجنى الكتابة اليومية كيفما تشاء، على أن تتم إعادة جمع وتبويب هذا المواد المترامية فى مرحلة لاحقة.
أما علاقة هذه النظرية بالإرادة فقد جاءت مفصلة فى نشرة الإثنين الماضى، فى صورة أسئلة أنتقى منها للتذكرة ما يلى:
- هل الكائنات قبل الإنسان تواجه أزمة ما يسمى “اتخاذ القرار” الإرادى؟
- وهل يمكن أن نحكم على إرادتها فردا فردا، مثلما نفعل مع الإنسان وخاصة إذا مرض؟!!؟ أم أن الكائنات قبل الإنسان تنتمى إلى إرادة جماعية ويحكمها وعى جمعى يصارع متسلحا ببرامج بقائية للحفاظ على النوع من خلال بقاء الفرد فى الجماعة مبرمجا بالطبيعة بفضل الله؟
- وهل هذه البرامج البقائية تعمل بإرادة هذه الكائنات أم بإرادة خالقها دونها.
- وما هى العلاقة بين الإرادة الفردية وإرادة الجماعة فيما قبل الإنسان؟
- أليس كل هذا جدير أن يجعلنانضع منظومة التطور فى المقام الأول ؟
من هنا وصلتنى الدعوة منى لأنتهزها فرصة لأبدأ بتقديم الملامح الأساسية لفكرى التطورى، عامة قبل أن نرجع إلى ما هية الاإرادة واضطراباتها (إذا رجعنا بالسلامة)
مراحل تطور فروض فكرى التطورى الذى يحدد معالم النظرية:
أولاً: غيرت اسم النظرية التى أقدمها من النظرية التطورية الإيقاعية إلى النظرية التطورية الإيقاعحيوية Evolutionary Biorhythmic Theory ، لأننى لاحظت أن بعض من سمع بالأسم قد استقبل كلمة إيقاع منفصلة عن الإيقاع الحيوى وهو ما أقصده تحديدا، وبرغم من طول الكلمة المضغمة وغرابتها مقارنة بسهولة الكلمة الانجليزية المقابلة،Biorhythm فإنى أفضلها مرحليا حتى أجد بديلا أكثر رشاقة ورقة.
ثانياً: صححت ترجمة نظرية الاستعادة بالعربية من أن “الأنتوجينا تكرر الفيلوجينا” إلى أن الأنتوجينا “تلخِّص الفيولوجينيا”، فهى أقرب إلى معنى recapitulation ومع ذلك فهذا مجرد عنوان، والتلخيص لا يعنى الإيجاز هنا، وإنما يعنى المرور بنفس كل الأطور ولكن فى وقت “موجز” جدا مع احتمال استكمال مسيرة النمو أو التطور، فالعملية ليست مجرد تكرار أو تلخيص وإنما هى دورة حيوية لابد أن تختلف نقطة نهايتها عن نقطة بدايتها وإلا انغلقت الدائرة ولم تعد إيقاعا.
ثالثاً: إن هذه الدورة التى استغرقت فى حدود المعروف عنها ملايين السنين، ويوجزها نمو الإنسان فى تسعة أشهر ثم بضع عشرات من السنين، (متوسط عمر الكائن البشرى الآن)، تتكرر فى كل أزمة نمو فيها يسمى إعادة الولادة، ولعل أهم ولادات معروفة – دون أن يسميها صاحبها كذلك، هى أزمات النمو التى وصفها إريك إريكسون، فيما هو معروف باسم: أعمار للإنسان الثمانية (1) وهذه الأزمات تستغرق أياما وأسابيع وشهور فى طورها النشط، وفى تقديرى من واقع خبرتى وترجمتى لبعض الخبرات التاريخية وبعض الأساطير والحوايت الشعبية ستة أسابيع (أربعين يوما) ثم تكمل دورة الإيقاع ما بين الأزمة والأزمة باكتساب الخبرات ومعالجة المعلومات القابلة لإعادة التشكيل فى الأزمة التالية وهكذا، وقد اسميتُ هذه الاستعادة أو الإيجاز دورة الماكروجينى Macrogeny (2) وبالتالى يمكن القول قياسا إن الماكروجينى يلخص الأنتوجينيا وهو ما يشير إلى أن كل أزمة نمو هى إعادة ولادة، وتلخيص لكل تاريخ الفرد (والنوع أيضا).
رابعاً: إن أية دورة إيقاع حيوى مهما قصر زمنها بعد ذلك يسير على نفس المنهج،
خامسا: إذا بدأنا بإيقاع النوم يمكن اعتبار كل عشرين دقيقة من نوم الريم (النوم النقيضى = حركة العين السريعة REM Sleepمتكاملة مع دورة النوم العادى هى تلخيص لكل من الفيلوجينيا والأنتوجينا والماكروجينى، وقد فضلت ألا أطلق عليها اسما خاصة مكتفيا بأن تتذكر وظيفة النوم وكيف أنه إعادة تنميط Re-patterning للمعومات، وأن كفاءته أو فائدته مرتبطة بنجاح هذا الإيقاع فى أداء وظيفته التنظيمية التى هى أقرب إلى الإبداع الفسيولوجى الطبيعى، والتى تعتبر العملية الأساسية وراء المفهوم الأحدث فالأحدث من أن “المخ يعيد بناء نفسه” The Brain Re-builds Itself ياستمرار، وإن لم تتحدد أطوار دورات نبضه بوجه خاص.
سادسا: إذا كان نوم الريم يستغرق عشرين دقيقة كل تسعين دقيقة بانتظام خلال متوسط ساعات النوم الثمانى، فإن ما وصفه فرنر واستفاد منه سيلفانو أريتى حول إرهاصات الإبداع ، تحت اسم microgeny (3) هو فى تقديرى دورة إيقاع حيوى شديدة القصر، يمكن أن تستغرق دقائق أو ثوانى تتم فيها نقلة نوعية مفيقة تسمح بإعلان إعادة تغير كيفى لا يظهر إلا فيما بعد فى ناتج دورة إيقاع الإبداع هذه، وهذه النبضات الإبداعية لا ترصد طبعا، وإنما تستنتج من نتائج تراكمها الإيجابى فى شكل ناتج إبداع حسب نوع الرصيد من المعلومات: رموزا أو معادالات أو ألفاظ أو نظريات علمية أو أى إبداع من أى نوع كان وهو ما استعرت له مصطلح الميكروجينا.
سابعا: إنه إذا حيل بين انتظام اداء الإيقاع الحيوى الطبيعى وبين تحقيق وظيفته التشكيلية فالنمائية والتطورية لأى سبب تربوى أو اغترابى، أو انغلاقى فإن دورات الإبداع الحيوى (النبض) قد تنغلق فيتوقف النمو (الإبداع) ويتوقف التغير الكيفى ويتوقف الإبداع، وينغلق النبض إلى حركة دائرية مغلقة، (هو ما سيأتى ذكره فى بعض اضطرابات الشخصية من منطلق توقف النمو (أنظر بعد) .
ثامنا: إذا زادت نبضة الإيقاع الحيوى جسامة وحدة، أو انحرفت أطوراها أو أجهضت فى أحد أطوراها الباكرة إلى ما لا يمكن احتواؤه فى نبضات النمو والإبداع فإن مضاعفات ذلك تظهر فى صورة إعاقة أو معاناة جسيمة وهو ما يبرر تسميتها مرضا، وقد نحت لهذه النوبة المتجاوزة حدود النبض السوى لفظ السيكوباثولوجى Psychopathogeny، وهو يعنى نبضة مختلة ذات عائد سلبى، ولكنها تظل نبضة ودورية، وأعتقد ان هذا قد يفسر دورية كثير من الأمراض النفسية النوابية.
تاسعا: وهكذا يمكن ترتيب توازى نبضات الإيقاع الحيوى المتصاعدة على الوجه التالى:
Ontogeny recapitulates Phylogeny
الأنتوجينيا تلخص الفيلوجينا
Microgeny recapitulates Ontogeny
الماكروجينيا تلخص الفيلوجينيا
Microgeny recapitulates Macrogeny
الميكروجينى تلخص الماكروجينيا
أما السيكوباثوجينا Psychopathogeny (4) فهى النبضة الفاشلة أو المنحرفة أو الجسيمة، وهى أو آثارها تمثل الإمراضية لمعظم الأمراض النفسية كما ذكرنا.
عاشرا: كما أن دورة الإيقاع الحيوى للقلب لها أطوار نمائية متتالية من أول طور الامتلاء السريع فالامتلاء المتباطئ حتى طور الدفع الأقصى طول الوقت طول الحياة، كذلك فإن الإيقاع الحيوى للمخ (الدماغ) له دوراته لكنها ليست بالتتالى المنظم مثل دورات القلب الأقرب إلى أن تكون ديناميكية كمية.
حادى عشر: لا أحد يعرف حتى الآن كيف يعيد المخ ترتيب نفسه مع كل دورة إيقاع حيوى، لكن الأبحاث تجرى على قدم وساق، فبعد أن أصبحت نظرية بل حقيقة أن المخ يعيد بناء نفسه أقرب إلى المسلمة، لم يتمكن العلم حتى الآن إلا من رصد نتائج هذا التنظيم مع كل دورة بدءًا من دورات النوم حتى دورات الإبداع ولم أعثر على المرور بدورات النمو أو الامتداد إلى دورات الكون (الليل والنهار والنور والظلام ودورات الفلك).
ثانى عشر: يتوقف ترتيب الأمراض الناتجة من فشل أو انحراف أو إجهاض الإيقاع الحيوى للدماغ على ما إذا كان الناتج هو مظاهر تجاوُز حدة النبضة لحدود السواء حتى تفكيك النظام القائم مع العجز عن إعادة التنميط، أو كان الناتج هو مظاهر إعاقة أداء النبض الحيوى للوظيفة التنظيمية والإيقاعية لإعادة التشكيل المستمر.
ثالث عشر: فى آخر تطور لفكرى فى مسألة الإبداع وصلت إلى أن مراحل نبض الإيقاع الحيوى تشمل خمس أحوال (نشرة 30 -11-2010 “تصحيح الفرض الأساسى وتحديد المعالم”) ولكنها لا تحدث بالترتيب كما فى حالة مراحل نبض القلب، وإنما ترتبط دوراتها المستمرة بظروف عادية، تلك الظروف التى تسمح بانطلاقها وتتبادل وتتشكل مع المراحل الأخرى حسب الفرص المتاحة إبداعا أو مرضا أو علاجا، أما فى حالة المرض فإن النبض يستمر لكن بنظام مختل وناتج فاشل.
إذن فنحن فى إيقاع حيوى مستمر فى الصحو والنوم، فى الصحة والمرض.
وبعد
ما هى علاقة كل ذلك بالإرادة التى نحن بصدد النظر فى طبيعتها لنتعرف على سوائها، ومن ثم على أشكال اضطرابها؟
هذا ما سوف نعود إليه بدءا من الغد.
[1] -Eight ages of man
[2] – بحثت عن أصل كلمة macrogeny بالإنجليزية، ولم أجد أنها تتناسب مع ما خطر لى بالعربية، ولم أجد كلمة بديلة، فخطر لى أن أتراجع ، وأن أبدا بالعربية، وأن أسمى التلخيص والاستعادة التى تحدث فى أزمات النمو الفردى اسما غريبا مثل اسم النظرية، وهو “نموّجينى” إشارة إلى أنها تعنى تكرار التطور الفردى الذى هو تلكرار وتلخيص للطور الحيوى فى أزمات النمو المتتالية ، ثم رجعت عن ذلك مكتفيا بهذا الاسم الغريب للنظرية نفسها الذى أتوقع أن يكون مجالا للتفكير ضمن احتمالات الرفض، وقررت أن استمر فى اسعمال الكلمة المعربة “ماكروجينى” للغرض الذى حددته أنا وليس تناسبا مع الأصل الإنجليزى، ثم حين يأتى طور الترجمة إلى الإنجليزية!!!، ربما يقبلون أن أنحت لهم كلمة Growthegeny لتفيد ما أريد !!! عذرا
[3] – على عكس كلمة ماكروجينى، وجدت أصلا مناسبا فى الإنجليزية لهذه الكلمة:
Microgeny is used as an umbrella term to describe the symptoms which lead up to a specific behaviour or mental process. MICROGENY: “The steps which are the precursor to a behaviour reaction are the microgeny.”
[4] – أنظر كتابى: دراسة فى علم السيكوباثولوجى الفصل الخامس “الاكتئاب”