نشرة “الإنسان والتطور”
الأثنين: 24-2-2014
السنة السابعة
العدد: 2369
الأساس فى الطب النفسى
الافتراضات الأساسية
الفصل الثالث: ملف التفكير (8)
هل نحن نفكر أم نستحضر أفكارا؟؟؟!!!
العنوان ليس من عندى، وإنما هو تعقيب شديد الدلالة، شديد الثراء، أخرجنى من وحدتى بقدر ما طمأننى أننى أسير فى طريق معقول، وضرورى. عدد علامات الاستفهام ثم التعجب التى فى العنوان ليست من عندى، ولكنها من عند الزميل الجميل الشاعر الأستاذ القدير الدكتور صادق السامرائى، وضعها بعد تعقيبه الجامع هذا ، وهو المعنى الذى وصلنى بمجرد أن بدأت فى فتح ملف “التفكير”، وهذا المعنى هو الذى جعلنى أتوقف وأنا أطرق باب هذا الملف معتقدا أنه سوف يرحم من يتابعنا من الغوص فى محيط جديد بعد أن كدنا نتوه فى محيط الإدراك، المهم أنه قال قبل هذا الصاروخ العابر للحيرة: “..بودى ان نتحاور ونحلق عاليا في فضاءات النفس وما وراءها….لكنها آفاق في قلب آفاق وأكوان تلد اكوانا، ثم العبارة التى استعرتها عنوانا: ….هل نحن نفكر ام نستحضر أفكارا؟؟؟!!!
كذا يا عم صادق؟!! تتركنى دهرا ثم تأتى اليوم وتقول “بودى أن نتحاور ونحلق عاليا فى فضاء النفس وما وراءها” ؟ الا تذكر كيف أثريتنى، وأثريتنا، فى مداخلاتك فى ملف الإدراك، وهى التى طالت ذات مرة من صفحة 642 إلى صفحة 705 فى ملف نشرات الإدراك (نشرة 11/11/2012)، (نشرة 12/11/2012)، (نشرة 18/11/2012)، (نشرة 19/11/2012)، (نشرة 25/11/2012) وبعضها كان حوارا شعرا على شعر؟ هلا تفضلت يا أخى القريب جدا، البعيد غصبا، واطلعت عليها، أو على بعضها لتتذكر أننا بدأنا ما لم نتمه دون قصد من أينا على أية حال؟
أهلا يا أخى صادق، والشكر للإبن والصديق جمال التركى دائما أبدا
نعم، أنا لا أريد أن أكرر، فقد هممت أن أقتطف كل هذه الصفحات التى كانت بيننا فى ملف الإدراك، وأعيد نشرها الآن لأثبت أن الإدراك هو الأصل، وأن ما ذكرته أنت من أن كل ما نتصوره تفكيرا ليس إلا “استحضارا” للأفكار، فهل يا ترى هو استحضار للأفكار أم أنه ترجمة المتاح من فعل الإدراك إلى الممكن من أفكار؟ هذا ما أوقفنى وحيرنى منذ قبلت مقولة “لاكوف” أن التفكير، أغلب التفكير (95%) يجرى من وراء ظهورنا يا أخى.
لو أن الأمر كذلك، ولا أريد أن أبعد عن الطب النفسى والمعارف النفسية إلى غيرها، لكن ما باليد حيلة، لو أن الأمر كذلك، فمن الذى يدير العالم؟ ومن الذى ينتخب الرؤساء؟ ومن الذى يسخر الإعلام؟ ومن الذى يقتل الأبرياء؟ ومن الذى يزيف الحقائق؟ بل من الذى يملأ الأوراق ويضعها فى الصناديق، أو يغلفها كتبا؟ ومن الذى يكتب لك ولهم الآن؟ إذا كان كل
هذا يحدث ونحن نتصور أنه نتيجة إعمال فكرنا جدا جدا، وهو ليس إلا نتاج ما لا نعرف، فتنقض عليه الخمسة فى المائة التى فوق السطح وتدعى أنها صاحبة الفضل وماسكة الدفة، ما الحكاية بالضبط؟ لن أستعير فرويد وأعطى لما أسماه اللاشعور دور الفيل، وأعطى لما هو شعور دور الذبابة التى على ظهره، فما يجرى تحت هذا السطح ليس إلا اصل الحياة النفسية بكل وظائفها ما بطن منها لما يغذى ما ظهر.
شكل: يبين دورات النوم الإيقاعية التى يقوم فيها التفكير أثناء الحلم
بتحقيق التشكيل الممكن للمعلومات المتعتعة بترتيب أنجح.
لكن عندك، لقد حللتها لنا يا أخى حين قلت إننا إنما نستحضر التفكير، فهل يا ترى هذا التفكير الذى نستحضره، والذى تم من وراء ظهورنا، هو الأقدر على حفظ بقائنا ، واستمرار تطورنا، والرقى بحياتنا؟ ثم من الضامن ؟ وما هى المعايير؟ وكيف نتعهده.
قلت لك منذ قليل يا دكتور صادق دعنا نتوقف عن البحث عن إجابات لمثل هذه الأسئلة، ونركز فى موقعنا المتواضع فيما هو طب نفسى، وإدراك، وتفكير، بما تيسر لنا من كل ذلك، بصراحة خشيت إن أنا تماديت فى تعرية حقيقة التفكير، كما تماديت فى كشف محيط الإدراك أن أتوقف حالا عن الإكمال، وبالتالى يتوقف أملنا الذى ذكرته فى تعقيبك المختصر فى : ان نتحاور ونحلق عاليا في فضاءات النفس وما وراءها
ما دام الأمر كذلك، فدعنى أذكرك كيف أن الصعوبات التى حضرتنى أكبر حجما وألزم اقتحاما، دع جانبا أن العمليات النفسية تدور فى وحدات زمنية متناهية الصغر، ودعنا نركز اليوم على حركية دورانها فى إيقاع مستمر على كل المستويات، فكيف بالله عليك نواكبها؟ وهل فى مقدورنا أن نوقف إيقاعها لنفحصها أم أن علينا أن ندرس هذا الإيقاع أولا ؟
بلغ من إيمانى بجوهرية الإيقاع الحيوى أن جعلته القاسم المشترك الأعظم فى كل اقترابى من الظواهر النفسية فى الصحة والمرض، بل ومن ظواهر الحياة برمتها، وكانت البداية الفسيولوجية هى أسلم بداية وأصدق بداية حتى فى موضوع التفكير، فبدايتى فى موضوع التفكير هى من فسيولوجية النوم والحلم ، وكلمة فسيولوجى اصبحت عندى أرحب وأعمق وأقدر من كلمة “نفسى”، إذ يبدأ تعرفى على الإيقاع الحيوى، بعد دقات القلب المتظمة، ، من النظر فى إيقاع “النوم /الحلم/ اليقظة”، وحين وصلت إلى البحث فيما يسمى “الاضطراب الجوهرى للتفكير”، وعلاقته بالإبداع، فضلت أن تكون بدايتى هى من أطروحتى عن “الإيقاع الحيوى ونبض الإبداع” كما ذكرت سالفا دون تكرار، الذى يهمنى الآن هو الاعتراف باستحالة فحص حقيقة وأبعاد وطبيعة التفكير أثناء نشاط النوم الحالم (نوم الريم REM) ، وسامح الله فرويد الذى جعلنا نركز دون قصد منه على هذا الذى نحكيه على أنه الحلم، وما هو إلا ما قمنا بالتقاطه وتشكيله فى أجزاء من الثوانى قبيل اليقظة وأثناءها.
إذن، فنحن لا نجلس ونفكر جدا جدا، ثم نحل مشاكلنا بالتفكير المنظم والهادف والممنطق والموضوعى وكل هذه الأوصاف الرصينة، وإنما نحن كائنات تعيش فى إيقاع مع الكون وإيقاع مع تاريخها الإيقاعى الوجودى، وبالتالى فإن المعرفة المشتملة وليست الأفكار البراقة ولا الأيديولوجيات الثابتة، هى القادرة على تصحيح مسار المرض والانحراف وحمايتنا من الانقراض.
كنت قد وضعت فروضا لم تكتمل عن الإيقاع الحيوى لحالات الحياة البشرية الوجودية البيولوجية موجزها: أن الإنسان يعيش طول عمره فى دورات إيقاعية فسيولوجية نفسية وجودية لا تتوقف، وأنه طالما أدت برامج الإيقاع الحيوى دورها بكفاءة فإن التوازن الفردى فالهارمونى الجماعى الممتد فى الطبيعة إلى المطلق يسير فى اتجاهه الطبيعى.
ترتب على ذلك أنه أصبح لزاما علىّ حين أتعرض لأية وظيفة نفسية أن أصفها فى الأطوار الإيقاعية المتتابعة لأنها تختلف نوعا وكما فى كل طور عن الطور الآخر. وقد بدأ الفرض بأنى تصورت أن التبادل يتم بانتظام إيقاعى دائم بين حالات ثلات هى حالة العادية (وليس الحالة العادية) وحالة الجنون (وليس الجنون) وحالة الإبداع (وليس ناتج الإبداع) وحين عرضت بعض ملامح هذا الفرض فى بعض اللقاءات والندوات العلمية قابلتنى اعتراضات قوية وطيبة نتيجة للمقاومة المتوقعة لأن أغلبنا يرفض أن يمر بحالة الجنون حتى فى الحلم حتى لو ضمن الخروج، وكان منطلقى هو تطوير أطروحتى عن الإيقاع الحيوى والإبداع، وبصراحة أخشى أن أعرج إلى فروض الإيقاع الحيوى أولا حتى أتمكن من وصف التفكير فى كل حالة وهو مختلف عن الأخرى،
ربنا يستر.
دعنا نرى