نشرة “الإنسان والتطور”
الأحد: 23-2-2014
السنة السابعة
العدد: 2368
الأساس فى الطب النفسى
الافتراضات الأساسية
الفصل الثالث: ملف التفكير (7)
المعرفة الهشة Amorphous Cognition 2
(مدخل إلى الاضطراب الجوهرى للتفكير)
مراجعات:
المراجعة الأولى:
يبدو أنه لا مفر من أن أبدا بشرح بعض جوانب عملية التفكير الإبداعى قبل أن أعرض مدخلى إلى الاضطراب الجوهرى للتفكير، وهو العرض الأساسى فى الفصام بوجه خاص، وهذا ضد ما لاح لى فى بداية الأمر، حين تصورت أننى سأبدأ بالأعراض أولا، لكننى وجدت أن المدخل مما هو عادى، بل وإبداعى، له ميزات خاصة، منها:
أولا: هو مدخل لرؤية الجنون (والفصام كمثال) كمشروع إبداع فاشل أو مجهض، وذلك أصل فى تفكيرى وممارستى وتنظيرى، وله وظيفة أخلاقية وعلاجية إيجابية خاصة للأصغر من المتدربين.
ثانيا: إن ذلك قد يعطينا فرصة لدراسة عملية التفكير الأبعد عن المتناول، بعد أن عرفنا أنها تحدث تحت سطح الوعى المتاح للدراسة، ولا نعرف عنها إلا نتاجها عادة.
ثالثا: إن هذا قد يسمح لنا بالإشارة – كلما سنحت الفرصة – إلى إبداع الشخص العادى (فى الحلم أساسا) كما أن فيه ما قد يوضح كيف أن الشخص العادى هو دائما أبدا معرض للتفكك حتى المرض الشديد (الجنون)، وأنه لكى يظل عاديا (جدا) قد يضطر إلى إجهاض حركية عمليات تفكيره، أو على الأقل إلى إزاحتها بالإفراط فى استعمال ميكانزمات دفاعية مستبعِدَة، أو مجمِّدة.
رابعا: يصبح بعد ذلك الاضطراب المعرفى فى الجنون ممثلا فى الاضطراب الجوهرى للتفكير هو إعلان عن التوقف عند مرحلة مبتسرة من عملية التفكير، مرحلة متخثرة ومتفسخة ومتحركة فى المحل (الأعراض الإيجابية) أو مشلولة خامدة (الأعراض السلبية)
المراجعة الثانية:
من هذا المنطلق سوف نضطر إلى العروج إلى طبيعة الإيقاع الحيوي سواء فى توالى مراحل التفكير إيجابيا من التلقى إلى التنشيط إلى التشكيل، أو فى تناوب “حالات الوجود” (انظر بعد) برمتها وما يصاحبها من تغير فى نوعية التفكير مثله مثل الوظائف النفسية الأخرى.
المراجعة الثالثة:
يبدو أنه لابد من التعرف على الأبجدية الأساسية التى يمكن أن تمكننا من متابعة الفروض والتنظير، ومن ثم التطبيقات المحتملة فى الممارسة الإكلينيكية، وذلك انطلاقا من “المعرفة الهشة” مرورا بـ “المَكَد” (1) (المُدرك الكـُّلى الداخلى) حتى الولاف الجدلى المتخلق….إلخ
استهلال:
ما جاءنى (2) من تساؤلات وتعليقات واستيضاحات حول “المعرفة الهشة” يشير إلى رغبة أكيدة فى شرح هذا المصطلح إذ يبدو أن الأمثلة التى وردت فى النشرة السابقة لشهادات بعض المبدعين، لم تكن كافية، وقد وجدت أننى لكى أفعل ذلك فقد أضطر للرجوع إلى الكثير مما ورد فى ملف الإدراك، وأيضا إلى ما ورد فى أطروحة “جدلية الجنون والإبداع”، وإلى درجة أقل إلى أطروحة “الإيقاع الحيوى ونبض الإبداع”. وقد أعلنت من البداية أننى سوف أتجنب ذلك ما أمكننى.
لكى نفهم أصل الاضطراب الجوهرى فى التفكير، ونحن نحترم مرضانا، علينا أن نتعامل مع ما يتصف به ما نسميه اضطرابا هو مرحلة من مراحل التفكير التجهيزى أو الكامن أو الإعدادى نمر بها جميعا، وتكون نشطة وقريبة من الوعى عند بعض المبدعين كما رأينا، لكنها هى هى تقريبا ما تجرى أثناء النوم الحالم (نوم الريم) (3) (ومن يريد المزيد عليه أن يرجع إلى أصل الأطروحة)
وقد ذكرت فى عنوان وبداية النشرة السابقة (الإثنين) أن 80 % من عملية التفكير تتم لا شعوريا، وبالرجوع إلى لاكوف Lakoff (4) وجدت أنه اعتبرها تصل إلى 95 %، وهو يقصد تحديدا أنها تتم تحت مستوى الدراية الواعية cognitive awareness وتجرى بشكل سريع جدا بحيث لا يمكن التركيز عليها لمعرفة حقيقة طبيعتها.
ولعل وليام جيمس فى كتابه من مجلدين عن مبادئ علم النفسThe Principles of Psychology سنة 1890 قد أشار إلى مثل ذلك مع أن لاكوف لم يضعه فى اعتباره معترفا بفضله.
المعرفة الهشة بين الاضطراب الجوهرى للتفكير والإبداع
أبجدية ضرورية وظواهر أساسية للتعرف على “المعرفة الهشة”:
يقول سيلفانو أريتى إن الجانب الأهم فى العملية الإبداعية هو ضغط المعرفة التى أسماها: المعرفة الهشة Amorphous Cognition، وربما يستحسن تسميتها المعرفة “الضبابية (المدغمة)” وهذه المعرفة – من منظورنا – دورية إيقاعية من حيث المبدأ وهى تضغط لكى تظهر، أو تضغط على أمل أن تظهر، من خلال، أو بالتبادل، مع غيرها من أنواع ومراحل المعرفة الأخرى.
ثم إنه ليس من طبيعة هذه المعرفة الضبابية المدغمة أن تظهر بنفسها، فهى نوع من المعرفة، يتمثل فى الداخل بلا تفسير مباشر له من الخارج فى شكل فكرة، أو صورة، أو لفظ، أو مفهوم. وهى تتكون أساسا مما أسميناه “المكد” الذى علينا أن نشرحه من خلال فكر أريتى فيما يلى:
المكد هو تنظيم كلى أولى لخبرة سابقة: من المدركات، ومن آثار الذاكرة، وصور الأشياء، والحركات، فهو خبرة كلية لا يمكن تقسيمها إلى أجزاء، أو إحلالها فى ألفاظ (كما هى)، فهو (المكد) كلٌّ مدغم من: فكر، وتهيؤ، وانفعال، وحفز، وفعل، ومن ثم فهو فى شوق دائم إلى أن يظهر بصورة أو بأخرى، قد يكون المكد هو لغة الحلم غير المحكى (الأقرب إلى الحلم بالقوة)، وذلك خاصة فـى حالة الأحلام الشمولية المصورة العصية على الاسترجاع، وقد يجد المكد طريقه إلى التأثير فى التشكل فى حلم محكى على مختلف المستويات، وقد يعجز الحلم عن احتواء حركية المكد، فيصبح الأخير طاقة ضاغطة فى محاولة أن تجد طريقها إلى التعبير، مع احتمال أن تسلك السبيل إلى ما هو إبداع إذا ما تيسرت وسائله وأتيحت فرصه.
يعترف أريتى أنه فى مرحلة معلوماتنا الحالية لايمكن الحصول على دليل يمكن عن طريقه إثبات وجود ماهو”مكد”. لذلك فهو يقر بأن هذا المفهوم سوف يظل إلى أمد طويل بعيدا عن مجال التناول العلمى بالمنهج التقليدى، ولكن أريتى يشير إلى دلالات غير مباشرة على وجود هذا المستوى المكدى من المعرفة فيما نصفه أحيانا بألفاظ مثل “الجو العام”، أو “التوجه”، أو”الخبرة الكلية”، أو ما أطلق عليه فرويد تعبير “الشعور المحيطي Oceanic Feeling ويذهب أريتى إلى أن جزءا أكبر من حياتنا المفاهيمية إنما يلتحم بشكل أو بأخر بمقابلاته المكدية، أو يتحور إلى أشكال مكدية غائرة.
إن كلا من الصورة، والمكد، وسائر الوحدات المعرفية الأولية، إنما تنشط، وتتحرك، وتحرك فى مستوى من الوعى يمثل كلية شاملة، ويتفاعل بهذه الكلية مع مستويات أخرى.
ثم إن الإبداع ينشط أكثر من مستوى من مستويات الوعى (على أساس أن كلا منها تنظيم كامن، وليس مجرد مفردات أو معلومات متجاورة)- ينشطها من كمونها إلى ما هى، وفى الوقت نفسه إلى ما تتفاعل به مع غيرها من مستويات وعى آخر ليتخلق منها معا وعى أعلى (5) فلا يكتفى أى مستوى مفرد بأن يحضر دوريا ليتنحى “تبادلا ” مغلق الدائرة.
ثانيا: إن مستويات الوعى بما هى، “تركيبة كلية شديدة التداخل” لا ترادف تلقائيا ماهو تعدد الذوات، فهى بنيات موازية ومتداخلة أكثر منها مترادفة أو متطابقة. من هذا وذاك يجدر بنا أن ننتبه إلى أن الذى ينشط ليتفاعل فى جدل الإبداع ليس فقط مجرد وحدات أولية غامضة، مع لبنات مفاهيمية مصقولة، بقدر ما هو مستويات وعى وذوات كلية متضاعفة فى الوقت نفسه.
وهكذا نتعرف على أبجدية المعرفة الهشة أو وحدات تفاعلاتها وحركيتها وهى كل من الصورة والمكد ومستويات الوعى وحالات العقل جميعا، وهى فى نشاط الحلم (الريم REM) وفى الإبداع تتحرك معا فى تباديل وتوافيق لتحقق التشكيل الأقدر على النمو والتكيف والتجدد.
وبعد
هذه الحركية برغم أنها منضبطة فسيولوجيا ووجوديا وتطوريا إلى أنها معرضة نتيجة لخلل فى برامج الإيقاع الحيوى أو انحرافات فى مسار النمو أو تثبيتات وتليفات على مساره، معرضة للتوقف عند هذه المرحلة وللتمادى فى مزيد التعتعة إلى الملخ إلى التفسخ إلى التناثر نتيجة للعجز عن التشكيل بما ينشأ عنه ما يسمى “الاضطراب الجوهرى للتفكير”.
[1] – المكد =المدرك الكلى الداخلى. كنت قد أطلقت-مترددا – على هذه الوحدة المعرفية الأولية قبل ذلك (دراسة فى علم السيكوباثولوجى 27، 123) لفظ “قبمدرك”، على أساس أنها تمثل “… مرحلة بدائية قبل الإدراك الشعورى المحدد، يختلط فيها الانفعال بالإدراك بالحدس…”، ولكنى بعد ذلك ، وبمراجعة وظيفة هذا المستوى المعرفى النشط رجـحت أنها مرحلة إدراك آخر، حتى لو لم يكن شعوريا أو محددا، إذ لايصح أن يحتكر الشعور مفهوم الإدراك، فيحتكر ضمنا حق المعرفة. وقد كان واضحا لدى منذ البداية- قبل الرجوع إلى “أريتي”- ما لهذا المستوى من علاقة بالإبداع، حيث حددت فى المرجع نفسه، “دراسة فى علم السيكوباثوجي”) أن “.. هذه المرحلة (مرحلة القبمدرك) يمر بها (بما هى حالة) بعض المبدعين فيما يسمونه مخاض الفكرة.. وهذا الخوف من التراجع عن التواصل الرمزى المحدد والمحافظ للكيان الفردى والمدعم للشكل الاجتماعى، يهدد بالوحدة المطلقة كما يهدد بالذوبان الشمولي”. وقد بينت أيضا هناك أن “هذه المرحلة برغم مابها من بقية حدس عنيف، هى مرحلة بدائية، تحمل مخاطر النكوص والتناثر لو استمرت دون استيعاب”. (نفس المرجع ص123). ويبدو أننى تراجعت عن إنكار صفة الإدراك عن هذه الوحدة الأولية فى العمل نفسه (ص415) حين عدت فأسميتها “المدرك القبلفظي” بدلا من القبمدرك. وقد رجعت إلى لفظ الأندوسبت Endocept الذى استعمله أريتى فلم أجد له أصلا فى المعاجم الإنجليزية. وقد أقر “أريتي” أنه نحته نحتا لتأكيد طبيعته الداخلية “Endo”، دون نفى صفة الإدراك عنه. وحين تبينت أبعاده من حيث إنه “مدرك، كلى، داخلي” فضلت أن أنحت له بدورى لفظ “مكد” بالعربية. وكنت بعيدا عن متناول معاجمى، لكننى حين عدت إلى المعاجم أستشيرها، وجدته لفظا عربيا أصيلا له أصل ومضمون آخر فى سياق آخر، لكننى وجدته لفظا مهجورا تماما، فكدت أعدل عنه، ثم عدت فقدرت أن هذا الاستعمال العلمى الجديد خليق بأن يحيى هذا اللفظ العربى الأصيل من منطلق آخر، لاسيما أن مضامينه الأصلية قد تشمل مفاهيم مشتركة مع ما نحن بحاجة إلى إيضاحه هنا، فهى تشمل معانى: الدوام، والغزارة، واستمرار العطاء (لاينقطع، شاة غزيرة اللبن، بئر ماكدة) وإن كانت هذه المعانى لاتشى مباشرة بكون أن ما هو “مـكـد”، هو داخلى، إلا أننى أمـلـت أن يكون مدلول غزارة لبن الشاة إنما يعنى أنها تحلب إذا ما حـلبـت، وليس أنها تتدفق تلقائيا. وكذلك البـشـر، “إنما تعطى إذا ما استسيقت من غائر مائها”، وإزاء طمأنينتى لكل هذه الإيحاءات لم أغير اللفظ داعيا إلى بدء استعماله فى هذا المعنى الجديد فى هذا السياق الخاص.
[2] – كنت قد وعدت الأسبوع الماضى أن أضيف هذا الأسبوع “خبرة شخصية” أشعر أننى مضطر لإضافتها فى هذه المرحلة ونحن فى موقع بين التفكير الإبداعي والاضطراب الجوهرى فى التفكير، لكن بعد قراءة التعليقات التى وردت إلىّ خلال الأسبوع، والتى رددت على بعضها فى نشرة “بريد الجمعة” 21 الجارى ، أجلت عرض هذه الخبرة، وقد أحذفها نهائيا لأسباب سوف أذكرها لاحقا.
[3] – نوم الريم كلمة نحتها المرحوم أ.د. أحمد مستجير مقابل نوم حركية العين السريعة REM وهو النوم الذى تحدث فيه الأحلام النشطة.
[4] – philosophy in the flesh
[5] – الإبداعية: الولاف السحرى (أريتى) Creativity the magic Synthesis