نشرة “الإنسان والتطور”
الأثنين: 12-5-2014
السنة السابعة
العدد: 2446
الأساس فى الطب النفسى
الافتراضات الأساسية
الفصل الثالث: ملف التفكير (30)
اضطرابات التفكير
(تابع) التقسيم حسب محتوى الضلالات (2)
(9) ضلالات الغيرة والخيانة الزوجية:
هذا النوع من الضلالات يمثل طيف ما تحدثنا عنه من حضور هذه المجموعة من اضطرابات الفكر معا، أو فى تتابع، أو بالتبادل، وتفصيل ذلك:
الغيرة فى ذاتها ليست ضلالا، وهذا المبدأ – مثل الحال فى كل تناولنا للضلالات- يسرى على أفكار الغيرة بشكل خاص، بان نبدأ باعتبارها :
أفكارا(1)عادية متواترة، (2) بسطية مفهومة (3) أو كامنة مُستنتجة (4) وقابل للمناقشة عادة.
أى أنها ليست:
(أ) شاذة نادرة (ب) ولا معقدة متناقضة (جـ) ولا مقتحمة فارضة، ولا (ء) ثابتة وراسخة.
إذن فالغيرة تبدأ باعتبارها مشاعر وانفعالات عادية أكثر منها أفكار ومعتقدات ناشزة.
فإذا غلبت وسادتْ، وألحّـت وغَمَرت، وعطّلت وهددت العلاقة البينشخصية، فقد تخطت السواء، ولكن ليس إلى مرحلة الضلال بعد.
وهنا نتبين فى هذا المستوى القريب من العادى ما يشبه المزاج الضلالى، أو الخبرة الضلالية، قبل ان تنغرس فيها فكرة ثابتة راسخة صلبة، وهذا المستوى كثيرا ما يلجأ إلى الاستشارة الطبية، سواء ممن يغار، أو ممن يُغار عليه، بمعنى أن الزوج الغيور –مثلا- قد يجد أنه “زوّدها حبتين”، وأن هذه الزيادة اصبحت تهدد علاقته بزوجته، أو بالمؤسسة الزواجية نفسها، فهو ما زال يتمتع ببصيرة نسبية، لكنها (البصيرة) أصبحت غير قادرة على ضبط السلوك، أو إجهاض المشاكل قبل تفاقمها، فيذهب للاستشارة، أو قد تكون الاستشارة من الزوجة التى تعاني من هذه الغيرة، وليس فى يدها حيلة لوقفها أو التخفيف منها، فتذهب فى صحبة زوجها، أو بدونه، لاستشارة الطبيب، ربما لمعرفة هل تخطى زوجها حدود السواء أم ليس بعد، أو ربما لأنها هى شخصيا بدأت تعانى من عسر نفسى نتيجة لهذه المراقبة والملاحقة والشكوك، ويصل الأمر فى بعض الأحيان أن تكون الاستشارة الطبية ضمن وسائل البحث عن مساعدة لاكتشاف أدلة الخيانة.
على سبيل المثال الذى تخطت فيه الغيرة حدود المزاج الشاك إلى اليقين الضلالى، جاءنى ذلك المريض الصعيدى الطيب، هو وزوجته من أعالى الصعيد، وكل ما طلبه منى بوضوح هو أن أعطى زوجته حقنة من التى تجعلها تقول ما تُخفى، على شرط أن يَحْضَر ما سوف تتلفظ به تحت تأثير الحقنة، وحين سألته عن مصدر معرفته بهذه الحقنة، قال إنه شاهد برنامجا فى التليفزيون يتكلم عن الفضفضة تحت تأثير مثل هذه الحقن، والعجيب أنه كان قد أقنع زوجته الفاضلة بقبول هذا الامتحان، فقـَبـِلتْ بحب وطيبة شديدين، وحين قلت لها أن من حقها أن ترفض، هذا على فرض أننى قبلتُ، ولم أكن قد أعلنت رفضى بعد، وأنه مهما كانت شهادتها تحت تأثير الحقنة بيضاء مثل اللبن الحليب، فهو لن يعدم سببا آخر، وسوء تأويل جاهز يواصل به شكوكه، فاقتنعت لكنها بنفس الطيبة تركت الرأى النهائى لى ولزوجها، وحين رفضتُ وأفهمتُ الزوج قسوة وخطأ بل وجريمة ما يطلب قَـبـِلَ كلامى على غير توقعى، وقد قبل هذا الصعيدى الطيب أن يتعاطى هو عقاقير تساعده، كما قبل شهادتى لزوجته، من واقع خبرتى الطويلة بأنها زوجة فاضلة، وأم مخلصة، وأن هذه الحبوب التى وصفتها له سوف تساعد على تأكيد شهادتى من واقع خبرتى، هذا وقد كان فى هذا المريض عرض آخر، لم أره إلا نادرا، وهو أنه كان يصر أن تجيب زوجته على بعض أسئلته، أو أثناء حوارات عابرة معه، بنفس اللفظ الذى ينتظره منها تحديدا، فإذا كانت الإجابة بالإيجاب مثلا، وكان هو ينتظر أن تقول “ماشى”، فهو لا يقبل أن تقول غيره مثل: “حاضر” أو “موافقة” أو تمام”، ويصل الأمر إلى التعدى بدنيا عليها وهو يطلب منها أن تواصل المحاولة لتجيبه باللفظ الذى فى ذهنه، وهى لا تعلم أى لفظ يريد، والمؤلم أن الزوجة الفاضلة كانت تسايره، وحين سألتها عن السبب، قالت “حتى يهدأ”، ولم تشكُ الزوجة لأهلها من كل ذلك، ولا قالته لصديقة أو قريبة لها، لكنه هو الذى جاء يشكو من سلوكها ويبحث عن الدليل. وبصراحة، كنت حريصا على متابعة الحالة برغم أنه من الصعيد “الجوانى”، إلا أننى لم أرهما ثانية.
عرضت هذه الحالة بسرعة، برغم أننى كنت قد فضلت من البداية أن يكون عرض الحالات إما فى عمل منفصل، (حالات وأحوال) أو فى الطبعة الورقية، لكننى أردت أن أبين طبيعة الشكوى التى تبدأ من الحدس الضلالى، وقد تنتهى إلى ضلالات الخيانة الزوجية كما سيرد حالا، وعلى فكرة، هذا الرجل لم يكن يعتقد أن زوجته تخونه تحديدا، ولكنه كان يشك أنها لا تحبه للدرجة التى تجيبه بها على ما يعتمل فى ذهنه من إجابات حرفية كما ذكرنا.
ثم قد يحدث التسلسل الذى ذكرناه فى “تكوين الضلال”، حين تضطرد المراحل بدءًا من هذه الحالة “الفكروجدانية” (الغيرة) حتى “تنغرس” فيها فكرة الخيانة الزوجية بشكل راسخ ثابت، وتعمى البصيرة نهائيا، وينقلب الشك إلى يقين مائة فى المائة ، لا يهتز عادة بالمناقشة حتى مع الطبيب،
هذا، وقد يبدو هذا اليقين متناقضا مع سائر السلوك واستمرار العلاقة، وقد استعملت ذلك التناقض ذات مرة لأهز من خلاله يقين مريض طيب من أقصى شمال البلاد هذه المرة ، حين زارنى يشكو من خيانة زوجته، ولم تكن معه زوجته، وحين سألته بعد أن شرح تفاصيل شكواه، وحكى بعض ما تصور أن زوجته تلبست به بما لا يدع مجالا للتراجع عن ما وصله، وكانت روايته مهزوزة، وأدلته متناقضة، وحين سألته إن كانت زوجته – بعد ذلك – ما زالت على ذمته، أجاب بالإيجاب، فاستطردت أكرر: هل أنت واثق مائة فى المائة مما تقول؟ فأجاب بالإيجاب، فقلت له فلماذا جئت لى وأنا طبيب، وأشرت له أنه يوجد مأذون جار لى، فى شارع الشيخ ريحان، وهو أقدر على إنهاء المشكلة، مادامت ثقته هكذا مطلقة، فلم يعد أمامه إلا الطلاق أما مهمتى أنا فهى لا يمكن أن تبدأ إلا إذا اتفقنا، ولو تمثيلا، أن يقينه ليس 100%، ولو حتى هززناه إلى 99%، فوافقنى على مضض، قلت فأنت ما زلت متزوجا 1% من إخلاص وطهارة زوجتك، فدهش ووافق، ثم داعبته أن يحترس من أن يخدعنى ، مع أننى أسمح له بذلك، لكن عليه ألا يخدع نفسه، وأن يعرف أنه لو استمر مع زوجته وهو على يقين من خيانتها بهذه النسبة التى بدأ بها 100% ، فإن ذلك قد يعنى أنه رضى أن يكون “…….”، (وقلت له الكلمة بالعامية المصرية)، وليس زوجا فقط، فصُدِم، ثم ابتسم فى خبث ومرارة معا، ووصله ما وصله، وأعطيته ما تيسر من عقاقير.
هذا المريض عكس المريض السابق، ظل يتردد علىّ بانتظام وسماح، وكلما جاء فى كشف أو استشارة، سألته عن زحزحة النسبة، وداعبته باللفظ إياه، فيضحك وهو “يزغر” واثقا معاتبا، ثم حين وصلنا إلى الاتفاق على أنه يعاشر نسبة 45 % ثقة فى زوجته (طبعا بتبادل المداعبة والتقريب ومع استمرار العقاقير)، جاء فى الاستشارة التالية وقد وصلت نسبة الشك فجأة إلى صفر % قالها هو نفسه وهو يضحك عاليا.
وقد عرضت لقطة من هذه الحالة أيضا، ضد تحفظى السابق، لأبين أن الضلال كما يظهر فجأة، قد يختفى فجأة، مع تراكم الرسائل العلاجية لدرجة كافية .
على أنه في معظم الحالات، لا يكون الأمر كذلك، وقد يغلب إلحاح هذا الضلال حتى يصل درجات قد تؤدى إلى الجريمة، أو إلى هدم العلاقة بلا رجعة، ويكون وراء كل هذا نوع من الشعور الكامن بالنقص، خاصة من ناحية الرجل، أو اللاأمان الدافع إلى التملك المرضى، وخاصة من ناحية المرأة، وهذا وذاك يمثلان عمق الإمراضية البارانوية بشكل أو بآخر.
(10) ضلالات الحب:
من واقع الخبرة (دون إحصاءات محددة) لاحظنا أن هذا الضلال يغلب عند الإناث فى ثقافتنا، وفيه تعتقد المريضة أنها واقعة فى حب شخص ليس فى المتناول (لم تقابله أبدا: زعيم أو ممثل أو مغنٍّ عادة)، وأنه يبادلها الحب، وقد تنسج حول هذه النواة قصصا خيالية، تدعم الضلال الأساسى، وتعتبر ضلالات ثانوية، أو تخيلات انشقاقية تنسج منها المريضة قصصا تصل إلى الزواج وأحيانا تتصور حملا كاذبا فى الحالات الشديدة تماما، وعلاج هذا الضلال عسير عادة، وخلخلة المعتقد من أصعب ما يمكن، وخاصة إذا ما أصيبت به فتاة مراهقة لم تنضج أبدا، أو عانس فى منتصف العمر.
وقد تظهر ضلالات الحب بشكل أكثر شمولا، بمعنى أن الضلال لا يتربط باسم نجم بذاته، أو مشهور معين، وهذا ما يحدث فى حالات الهوس حين يعتقد المريض أنه محبوب من كل النساء لميزة ظاهرة أو خفية، أو أنه معشوق ملكات جمال العالم،…وهكذا
ومن الغريب أن هذه الضلالات لا يصاحبها عادة هلوسات حسية جنسية، ولا تصف المريضة (أو المريض)– غالبا- علاقات جنسية مع المحبوب، لذلك فضلت أن أفصلها عن ضلالات الجنس هكذا:
(11) ضلالات الجنس:
حين تصطبغ الضلالات بصبغة جنسية تكون عادة مصاحبة بهلاوس حسية، (جنسية)، أو بصور خيالية جنسية، ونادرا ما تكون الضلالات مستقلة عن هذه المصاحبات، وفى ثقافتنا تتواتر هذه الظاهرة فى الطبقات الشعبية، وفى الريف بشكل خاص، وإن كانت موجودة بشكل أقل فى كل الطبقات، مما يشير إلى أنها ضمن ثقافتنا السائدة بشكل أو بآخر، وقد تصل الهلوسات والضلالات المصاحبة إلى خبرات حسية كاملة ، وقد تأخذ أحيانا شكل الزواج من الجان . ويسمى هذا الزواج من الجان أو معاشرته باسم “المخاوية”.
وفى كثير من الأحيان يكون ذلك تعويضا لحرمان جنسى حقيقى، مفروض من ظروف خارجية، أو نتيجة إمراضية صعوبة عمل علاقة واقعية متاحة حتى بالزواج، وقد يعزو الأهل الصعوبات الزواجية (بما فى ذلك الصعوبات الجنسية) إلى أنها بسبب منع هذا الشريك من تحت الأرض من أن يشاركه غيره فى حبيبته ..إلخ
وبعد
فضلت أن أرحّل ضلالات التحكم و ضلالات التأثير (ظاهرة السلبية الفكرية): إلى الجزء التالى الخاص بملكية الأفكار، والعلاقة بفعل إرادة التفكير، وهو ما سوف نبدأ به الأسبوع القادم.