نشرة “الإنسان والتطور”
الأثنين: 7-4-2014
السنة السابعة
العدد: 2411
الأساس فى الطب النفسى
الافتراضات الأساسية
الفصل الثالث: ملف التفكير (20)
اضطرابات التفكير
عودة ضرورية لتقسيم الضلالات
قبل العودة:
لا أجد مبررا للاعتذار عن استطراد أمس الذى قطع تسلسل عرضنا التقليدى لاضطرابات التفكير، وبالذات فى موضوع الضلالات، إلا أن ذلك قد أتاح لنا فرصة مجددة، بفضل ضيفنا المبدع أ.د. صادق السامرائى، لنطمئن إلى أن هذا المدخل الجديد الذى أتاحته لى فرصة تحديث هذا العمل، قد حرك قضايا معرفية أساسية فيما هو “نفس”، فى الصحة والمرض والإبداع، لا ينبغى أن نغفلها، و لكن لا ينبغي أيضا أن نتركها تحل محل المعلومات الأساسية التى ينبغى أن نتواصل بها ومن خلالها.
كذلك أود التنبيه إلى أن ما جاءنى فى بريد الجمعة هذا الأسبوع كان مهما لأنه أكد لى مخاوفى من احتمال الخلط بين تكوين الضلال وتشكيل الإبداع لدجة تشوه الإبداع، وفى نفس الوقت قد تقلل من تقييمنا لخطورة الضلال كدليل على تشكيل مغترب غير واقعى، غير نافع، وغير تكيفى، بل ومهدد لكل إيجابيات النمو وآليات البقاء، فهو مرضى بالضرورة برغم الاستعمالات الأحدث لوصف العلم المؤسسى بالضلال، وأحيانا توصف بعض الأديان تعسفا كذلك بمثل هذا، قد يكون لكلٍّ وجهة نظره، لكن علينا أن نحذر تماما من هذه الاستعمالات الاستسهالية المجازية غالبا، وأن نقصر صفة “الضلالى” على الناحية المرضية الصريحة، فلا يعود لها أدنى علاقة بالإبداع، ولنترك أصحاب الأيديولوجيات، والتنظير الجامد لمعاركهم الخاصة، أما الإبداع فهو باختصار عكس الضلال فى مآله على طول الخط، حتى لو كان المبدع يمرض أحيانا حتى التفكك المؤقت، أو غير ذلك، وهذا وارد مثل أى شخص، لكنه وهو فى حالة كونه مبدعا، حتى وهو مريض، لا يكون ضلاليا أبدا.
والآن إلى العودة إلى تقسيم الضلالات كما اعتدنا:
تذكرة:
استغرقنا فى الحديث عن طبيعة الضلالات وتكوينها وعملية تخليقها، وعلاقتها بالإدراك، وبالوجدان، ثم ظهورها كمحتوى فكرى خاطئ بعيدا عن الواقع بدون أية وظيفة تكيفية أو بنائية أو نمائية، وقد آن الأوان للنظر فى تقسيمات الضلالات بصفة عامة مع التركيز على محتواها حيث أن له قيمته الإمراضية الخاصة به، وبالتالى فإن فهمه الأعمق، هو ضرورة لاستكمال فهمنا لإمراضية كل مريض بما يسمح بترتيب الخطة العلاجية أفضل وأدق، وأيضا فإن تناولنا لمضمون الضلالات فى ممارستنا الخاصة له بعده الخاص المتعلق بثقافتنا بما قد يحتاج نظرة مختلفة فى كثير من الأحيان.
وفيما يلى عودة إلى التقسيم التقليدى للضلالات (برجاء تحمل بعض التكرار)
تقسيم الضلالات:
يمكن تقسيم الضلالات من أكثر من بـُعد، مع تذكر تداخل الأبعاد فى كل حال
أولا: بحسب التعدد والتتابع
(1) الضلالات الأولية: تسمى أيضا، أو تتداخل مع ما يسمى، الأفكار الذاتيـّة اليقين autochthonous ideas، وكذا مع: الحدس الضلالي – (سبق ذكره):
وهى اعتقادات تظهر فجأة عادة، دون سابق إنذار وهى ليست نتيجة لاضطرابات عقلية سابقة، وهى تظهر ومعها قوة يقينها. ويكاد يتفق معظم الدارسين على طبيعة هذه المعتقدات من حيث: الفجائية، والحدّة وما تحمله من يقين مؤكــد لها منذ البداية. فجأة يعلن مريض ما أنه مرشح لجائزة نوبل للأدب وهو الذى لم ينشر حرفا، ولا أكمل كتابة قصة قصيرة واحدة، فجأة يعلن آخر أنه وجد الحل لمشكلة المجاعة فى العالم الثالث، فجأة يعلن ثالث أنه اكتشف الطريق للوصول إلى طريقة لتعلم لغة الطير فى أسابيع ..إلخ
هذا من الناحية السلوكية المعلنة، لكن هل يمكن أن تكون أية ضلالات تسمى أولية هى أولية فعلا كذلك من الناحية الإمراضية (السيكوباثولوجية= النفسِمراضية؟) الإجابة هى بالنفى لأنه- من عمق معين- لا تكاد توجد ظاهرة عقلية أوّلية أصلا، فكل ظاهرة مبنية على أساس ما فى قاعها أو ما هو أعمق منها، عرفناه أم لم نعرفه، وبالتالى تصبح تسمية هذه الضلالات بـ “الأولية” تسمية تقريبية، ويصبح التعبير الشائع لوصفها بأنها تظهر بلا سابق إنذار أو إرهاصات تعبير سلوكى أساسا، صحيح أنها تبدو مثل المطر الذى يهطل فجأة من سماء صافية (بالإنجليزية out of the blues) لكنها غالبا تظهر نتاج تراكمات خفية وغامضة، حتى تصل إلى عتبة معينة، تسمح لها بالظهور بهذه الفجائية
ثمَّ زعم يقول إن هذا النوع من الضلالات هو مرَضاني pathognomonic(تشخيصى تمييزى) للـفصام، وهو زعم غير صحيح، ذلك أن هذه الضلالات الأولية يمكن أن تحدث فى بداية حالات البارانويا الحادة وتحت الحادة وبداية حالات الهوس، بل غالبا فى بداية أى ذهان نشط.
ومن زاوية تركيبية فإن هذا النوع قريب الشبه من لحظة”الإلهام”عند المبدعين، وهذا ما ذكرناه فى حديثنا عن “الحدس الضلالى”. (نشرة 31-3-2014 “خلفية تخليق الضلالات (ومايقابلها 2”)
إن الطبيعة الخاصة لهذه الضلالات الأولية هى مسألة فيها نظر، فأغلب الثقاة يتفقون على حدتها، وفجائيتها، وما يصاحبها من قوة إقناع جاهزة وكاملة، وهى لا تدل على خلل فى الذكاء أو الفهم، وقد تأخذ صورة سوء تأويل ضلالى حاد، أما الزعم بأنها تتميز بــ “عدم قابليتها للفهم”، فهذا أمر يمكن أن يـُقبل بحذر أيضا خاصة فى المقابلات الأولى، ذلك لأنه بمرور الوقت ومع تكوين العلاقة المهنية والعلاجية التى تسمح بالحصول على معلومات أكثر فأكثر، وأعمق فأعمق، فإنه يمكن فهم وتفسير وتأويـل أغلب هذه الضلالات فهما إمراضيا (سيكوباثولوجيا) كافيا.
الضلالات الثانوية: هى الضلالات التى تنبنى على، وتنشأ من، مظاهر مرضية أولية سابقة مثل الهلاوس والضلالات الأولية، أو مثل اضطرابات العواطف والأعراض الجسدية، أوالإعاقات البدنية. وقد تكون هذه الضلالات الثانوية تأويلية (تفسيرية) للضلالات الأولية بحيث تضيف إليها وتطورها فتعطيها يقينا على يقين فى نفس الاتجاه.، كما قد تكون تفسيرية أيضا لأى مما بدا أنه هيأ لظهورها.
وقد توجد سلسلة من الضلالت مترتبة على بعضها ، بحيث يمكن أن نسمح بتعبيرات قياسية تصف ضلالات ثالثوية وهكذا، وقد تنتظم هذه الضلالات المتسلسلة المترتبة على بعضها البعض حتى تكون ما يسمى عادة المنظومة الضلالية.
المنظومة الضلالية Delusional System :
هذا هو ما أشرنا إليه حالا مع الحديث عن نشأة سلسلسة من الضلالات المتتالية بحيث يرتبط الضلال التالى بالضلال السابق وهكذا، وتتميز هذه المنظومة بتماسكها، ويحدث هذا التماسك بالذات فيما يسمى حالات البارانويا المزمنة (كما وصفها الدليل المصرى/العربى DMP I، وقد اقتبسها من التقسيم الفرنسى 1968 الذى لم يأخذ حقه فى الشيوع، حتى فى فرنسا). هذا ولكل منظومة ضلالية منطقها الخاص المترابط، وكلما أزمنت الحالة زادت تماسكا، ومما يميز أغلبها أننا لو افترضنا صحة الضلال الأولى الذى بنيت عليه المنظومة كلها، لأمكن قبول كل الأفكار التالية عليه على أنها صحيحة لشدة ترابطها، وتماسك منطقها الخاص.
الضلالات المتفردة:
نادرا ما نجد ما يسمى الضلالات الوحيدة أو المتفردة دون أن ينبنى عليها قليل أو كثير من الأفكار اللاحقة التى تنـفى تفردها، وحتى ضلالات “الهوس الغرامى Erotomania” (مثل اعتقاد وجود علاقة حب أو مشروع زواج بشخص مشهور: ممثل، أو مغنية، أو زعيم) ليست أحادية تماما لأنها ينبنى عليها المزيد من الأفكار والأفعال المتعلقة بهذا الغرام. ومع ذلك فيمكن أن نتقبل أن تظل نوعا خاصا على ندرتها وذلك لتميزها الإكلينيكى وخاصة أنها عصية على العلاج بشكل خاص.
ثانيا: بحسب درجة الفوضى أو الشذوذ
فى مقابل المنظومة الضلالية التى شرحناها حالا، فإن كثيرا من الضلالات تكون إما متناثرة، ومشتتة، ولا تمثل منظومة متماسكة مبنية على فكرة واحدة، حتى قد يسرى على نوع تشتتها ما سبق وصفه فى الاضطراب الجوهرى للفكر ، وإما هى سيئة التماسك بشكل غير مترابط وغير منطقى حتى بمنطقها الخاص، كما توجد ضلالات غريبة نادرة أيضا غير مترابطة عادة فى ذاتها، ولا مع بقية الوظائف، أوالواقع، ومن ذلك:
(1) الضلالات الفوضى Chaotic delusions: وهى التى تبدو شديدة التفسخ والتفكيك، والبعد عن بعضها البعض، والتغير أيضا بحيث لا يكاد المريض يعيد تيمة واحدة فى وقت قصير. وعلى الرغم من كل هذا التفسخ فلا ينبغى أن تعتبر هذه الضلالات بلا تأثير على سلوك المريض، لأن أية جزئية منها قد تنطلق مثل الشظايا أو النيازك الساقطة، وهو ما يحتاج إلى أن يوضع فى الاعتبار أثناء العلاج، وأيضا فى مجال القضاء، فيما يتعلق بما يسمى الطب النفسى الشرعي
(2) الضلالات سيئة التنظيم Mal-systematized Delusions: هنا لا تكون الفوضى مطلقة، كما فى الضلالات الفوضى، وإنما يكون الربط بين جزئياتها ضعيف، وغريب، وليس له ما يبرره عادة، ويصاحب هذا النوع بوجه خاص “فقرالأفكار”، بعكس نوع “الفوضي” الذى قد يصحبه اللاترابط الناتح عن دفق وتلاحق الأفكار بسرعة غير معتادة.
(3) الضلالات الشاذة : يختص هذا الوصف بضلالات تبدوا نادرة وبالغة الغرابة إذا قيست بالمعايير الاجتماعية ، أو حتى بمقاييس الضلالات الشائعة مثل ضلالات الاضطهاد، أو الخيانة، وعادة يصعب فهمها تماما كظاهرة إمراضية لها غايتها الخاصة.، وبصفة عامة فإن الحكم على شذوذ الضلالات من عدمه متروك فى النهاية لتقدير كل فاحص، وأيضا حسب المرجع الذى يهتدى به فى تعريف الأعراض والأمراض، فمثلا نجد أن تقسيمات تصنيفية تعتبر أعراض الصف الأول لـ شنايدر شاذة، فى حين يرى غيرها -مثل خبرتنا هنا- أنها من أوضح الأعراض دلالة واتساقا من منظور تركيبي (أنظر بعد).
ثالثا: بحسب الاضطراب الأساسى القْبْلى والمصاحب:
وهذا هو ما سبق الكلام عنه فى حديثنا عن نشأة الضلالات وأنها ليست مجرد خطأ فى الحكم على الأمور، وقد أوفينا هذه المسألة شرحا مع كل من الحدس الضلالى، والمزاج الضلالى، والجوالضلالى، والذاكرة الضلالية، وعملية تنشيط تكوين الضلالات بغض النظر عن المحتوى المحدد. (أنظر قبلا)
رابعا: حسب العلاقة بالمزاج السائد، والوجدان
يختلف هذا المدخل عن ما ذكرناه عن “المزاج الضلالى الذى يكون هو ذاته مكافئ للضلال (أنظر قبلا نشرة 30-3-2014 “خلفية ظهور الضلالات، وما يقابلها)، ويقتصر على رصد الوجدان الموجود المصاحب، وعلاقته بالضلال الموجود التى يمكن أن تكون:
1) الضلال المتسق مع المزاج: مثل ضلالات العدمية فى حالة الاكتئاب الشديد (أنا غير موجود، أنا لست حيّا أصلا)، أو مثل وجدان الشك والتوجس فى حالة ضلالات المراقبة أو الاضطهاد، وهنا قد تكون الحالة الوجدانية نتيجة لما تحدثه الضلالات من آثار على العلاقات وتقدير الذات والسلوك عامة، كأن يتبع الاعتقاد بالاضطهاد إكتئاب أو هلع أو ما شابه، وقد يعزى ذلك إلى أن يكون كل من الضلال واضطراب المزاج نابعين من منبع واحد، أو أن يكون أحدهما هو السبب والثانى هو النتيجة، فالمريض قد يعتقد أنه لا بد من إيذاء نفسه وتعذيبها تكفيرا لذنبه لأنه مكتئب، أو لأنه صدق ما يشاع عنه من سوء، وعلى الناحية الأخرى، فهو حين يعتقد أنه المهدى المنتظر، أو الحاكم بأمر الله، قد تنتابه سعادة غامرة وزهو فوقى يتناسبان مع هذه القدرة الفائقة أو النعمة السابغة..
2) الضلال غير المتسق مع المزاج: وهنا يظهر وجدان لا علاقة له بمحتوى الضلال أصلا، حتى أنه أحيانا يكون عكسه ، مثل أن يظهر على المريض انفعال المرح وهو يحكى عن ضلال العدم أو التصنت، أو العكس كأن يبدو مكتئبا تماما، وهو يعلن أن بريده الإلكترونى قد كسب مليون دولار ..، وأنه يعدّ نفسه للذهاب لاستلامه …إلخ
وإذا ما كان الضلال ثانويا للحالة الوجدانية فإنه قد يختفى باختفاء الاضطراب الوجدانى بعلاجه، أما إذا كان الوجدان المصاحب ما هو إلا تفاعلا لمحتوى الضلال، فإنه لا يختفى إلا بذهاب الضلال، على أن مهمة تحديد أيهما السبب وأيهما النتيجة، هى مهمة قد تكون شديدة الصعوبة فى كثير من الأحيان، مع أن تحديد أفضلية العقاقير المناسبة قد يعتمد على هذا التحديد إلى درجة كبيرة.
خامسا: حسب علاقة الضلال وتأثيره على بقية جوانب السلوك العادى
نظرا لموقفنا من السماح بأن يكون الضلال قريبا من بعض الأفكار العادية فى بعض الأحيان، لاحظنا أن وجود الضلال عند المريض (وأحيانا عند الشخص العادى) لا يكون بنفس جاهزية الحضور طول الوقت، وهو أيضا لا يكون معوقا عند كل المرضى (والأسوياء !!) بنفس الدرجة، لذلك أضفنا هذا البعد لتقسيم الضلالات حسب مدى تداخلها (وأيضا إعاقتهالـ ) السلوك العادى، وهو بعد غير مألوف، لأن الشخص العادى لا يعترف أصلا أنه يمكن أن يكون حاملا لضلالات خاملة أو كامنة اصلا.
وبالتالى نقدم التصنيف الآتى مقتصرا على المرضى فقط
1) – ضلال موازى Parallel Delusion: وهنا يسير الضلال جنبا إلى جنب مع محتوى التفكير العادى دون أن يلتقيا مثل الخطين المتوازيين، اللهم إلا بفعل فاعل من الداخل أو من الخارج، طبيبا كان أو ملاحظا قريبا أو صديقا، وقد يكون هذا التوازى نتيجة لدرجة من البصيرة يخفى بها المريض ضلاله عن من يعتقد جازما أنه لن يصدقه، وقد يكون “حلا وسطا” يحقق به المرض غائية تكوين الضلال، دون أن يسمح بتداخله فى أداء مهام حياته أو تدخله فى تفاصيل سلوكه، ويختلف موقف المعالجين فى مدى ضرورة التدخل فى مثل هذه الأحوال
2)- ضلال متداخل Interpenetrating Delusion: ويقصد به أن الضلال هنا يتداخل طول الوقت، أو معظم الوقت، مع السلوك العادى حتى يشوهه، أو يعوقه، ويكون عادة فى هذه الحالة مرصودا من المحيطين بالمريض، وهو النوع الأكثر إزعاجا وأوضح مرضا، وأكثر دافعا للمسارعة بالعلاج
3)- ضلال متحوصل: Encapsulated Delusion: فى بعض الأحيان تتراجع حدة الضلالات بمرور الزمن، لكنه يظل موجودا فى عمق ما، ليس بالضرورة كامنا تماما، حتى يكاد يضمر نتيجة لعدم تكرار حكـْيه، أو استثارته بالمناقشة أو محاولات التصحيح، فيحدث له ما يشبه “ضمور عدم الاستعمال” Disuse atrophy، فيتراجع حتى يكاد يختفى من ظاهر السلوك (والشكوى)، وقد يظهر فى الأحلام بين الحين والحين، أو لا يظهر إلا فى ظروف ضغط مفرط، واستثارة نوعية عشوائية أو مقصودة من سخيفٍ مؤٍذ.
وتستعمل هذه الفكرة فى العلاج والتأهيل، حين نثبـّط النشاط المرضى المنبعث من تنشيط مستوى وعى أقدم بالمثبطات النوعية (النيورولبتات) وفى نفس الوقت نخطط مع المريض ما يجعله لا يحكى عن ضلالاته اصلا يا حبذا طول الوقت، فلا يتناقش فيها مع من حوله، ولا يشكو منها علانية إلا فى حدود المتابعة العلاجية الحذرة، وذلك ضمن خطة تأهيل محكمة، وكأننا نقوم بتخطيط مقصود لما أسميناه “ضمور عدم الاستعمال”، وفى نفس الوقت يجرى تنشيط وتدعيم بقية جوانب السلوك والتفكير والعلاقات السوية المغذِّية حتى تسود فى معظم مجالات سلوكه ، وربما لا يعود المريض فى حاجة إلى اللجوء إلى الحل المرضى بظهور مثل هذا الضلال من جديد، ويسمى هذا أحيانا “حوْصلة الضلال” Encapsulation of the Delusionsوهو تعبير لا يعنى اختفاءها تماما، وليس اختفاؤها، وقد تتم هذه العملية بدرجة ما من الإرادة ولو غير المباشرة
4)- ضلال قِطَاعِى Sectorial Delusion: قد يظهر الضلال فى قطاع محدد من قطاعات الحياة أو السلوك، فى حين تكون سائر القطاعات سليمة تماما، مثل أن يظهر عند مريض فى قطاع علاقاته النسائية دون غيرها، أو فى قطاع الممارسة الدينية دون غيرها، وفى هذه الحالة لا يكون الحل بأن يتجنب هذا المريض ارتياد أو الغوص فى هذا القطاع طالما الضلال لا يظهر إلا فيه، لكن يمكن أن يكون اكتشاف هذا الاحتمال منيرا للمعالج ليضبط جرعة فتح الباب فى هذه المنطقة الحرجة إلا بجرعات محسوبة تفيد العلاج.
5)- ضلال موقفىSituational Delusion : وهو نوع من الضلال القطاعى، لكنه لا يرتبط بقطاع بذاته من السلوك بقدر ما يرتبط بموقف معين أو مكان معين أو شخص بذاته ، مثل أن يظهر فى البيت دون العمل، أو عند التكليف بمهمة محددة فى العمل دون غيره، وقد يعزى ذلك أصلا إلى ما يشبه الارتباط الشرطى، سواء على مستوى العلــّية Etiologyأوالإمراضية Psychopathology، وأحيانا يتولّد الارتباط الشرطى لاحقا لظهور الضلال ثم ارتباطه بموقف بذاته أو شخص بذاته.
6) – ضلال تحت ضغط يتخطى العتبة ((Surpassing the threshold: لأى شخص “عتبة معينة يستطيع فى مستواها أن يمارس حياة طبيعية فى ظروف طبيعية متوسطة الحدة، لكن أحيانا ، بعد نوبة مرض أو بدونها، تتراجع عتبة التحمّل (الدفاعى) هذه إلى مستوى أدنى مما كانت عليه، وبالتالى يصبح الشخص عرضة لتفعيل كامن لضلالاته إذا ما تخطى الضغط المناسب التى كانت عتبة الوقاية هذه تحول دون ظهوره.
وتتفق هذه الإضافة النوعية لهذا التفاعل الخاص بالتوجه العام الذى نقدم به هذه المداخلات، وهو الذى يعتبر أن داخل كل شخص يتصف بالسواء عددا من الضلالات الكامنة التى لا تظهر فى الأحوال العادية (ربما إلا فى الأحلام) ، وبالتالى يؤخذ فى الاعتبار احتمال ظهور أى منها إذا تخطى أى منا عتبة دفاعاته العادية، وهذا الفرض أيضا مفيد فى العلاج والوقاية كذلك.
ونكمل الحديث الأسبوع القادم عن التقسيم تبعا للمحتوى(المضمون)،
وأيضا من حيث ملكية الضلالات (والأفكار) ومصدرها.