نشرة “الإنسان والتطور”
الأثنين: 17-3-2014
السنة السابعة
العدد: 2390
الأساس فى الطب النفسى
الافتراضات الأساسية
الفصل الثالث: ملف التفكير (14)
اضطراب محتوى التفكير
مقدمة:
فجأة وصلتنى قصيدة معرفية جديدة من قصائد د. صادق السامرائى أرجعتنى إلى نفسى، إلى ما أحب، إلى ما بدأت مما لا ينتهى، إلى “الإدراك”. كتب د. صادق إلى شبكتنا “شعن” تحت عنوان “أفكار وتفكير قد حضر!!” بتاريخ 28/2/2014 قصيدة لا مثيل لها، ختمها بإشارة كريمة لما أحاوله شخصيا، فذكرنى بملف “الإدراك” التى تركته مرغما دون أن يكتمل، وهو لا يكتمل أبدا، وكان قد تفضل فكتب باكر تحت عنوان “إدراك الإدراك” بعد أرائه وإبداعاته عن الإدراك فانتهزتها فرصة وحاورته آنذاك دون إذنه فى نشرتين كاملتين فى ملف “الإدراك” (نشرة 11-11-2012) و(نشرة 12-11-2014) ولم يعقب، وما كنت أنتظر تعقيبا فقد وصلنى قبل أن أبدأ .
حين قرأت ما كتب فى قصيدته الأخيرة هذه، وصلتنى وحدته فى غربته، وحدته المليئة بالأنس وربنا ومعرفة الناس، بقدر ما وصلنى فضل الابن الأخ الصديق د. جمال التركى الذى فتح لنا هذه النافذة التى تحتمل كل اتجاهات الإيقاع الحيوى، تجمعنا عليه، وتفرقنا عليه، بما تحوى وتثرى.
ثم إنى وجدت فى قصيدة الدكتور السامرائى ما أضاف لى بعدا يخفف عنى ورطة الكتابة فى التفكير هكذا، وبالذات فى الأعراض، وبالرغم من أن رسالته/قصيدته عنوانها “أفكار وتفكير” فقد وصلتنى تكملة لقصيدته الباكرة “إدراك الإدراك” ففرحت إذ أعادنى إلى محيط الإدراك الأوسع والأرحب، وفى نفس الوقت انتبهت إلى مراحل تكوين الإبداع مقارنة بمراحل تكوين الضلال، وعلاقتهما بالوجدان والإدراك، وهذا ما قد أتناوله الأسبوع القادم.
التعقيب المباشر على قصيدة الدكتور السامرائى الأخيرة يحتاج وحده إلى عدة نشرات ننتقل بها إلى أنواع العقول من أول العقل المعلقن حتى العقل المطلق مرورا بالعقل الممتد، والعقل المحيط، والعقل الجسد، والعقل الإيقاع، إلى وجه الله تعالى، ولهذا حديث مفتوح.
(ملحوظة: يمكن، وربما أفضل، إحلال كلمة “الوعى” محل كلمة “العقل”،
شكرا يا عم صادق،
شكرا يا جمال
بعد حمد الله أولا وأخيرا).
****
ثم عودة إلى أنواع اضطرابات محتوى التفكير:
إن محتوى التفكير الظاهر والخفى إنما يشمل المعلومات والخبرات والذكريات المستمدة من الواقع الآن، ومن تاريخ الشخص كله. ثم إن المعلومات الوراثية تتجلى فى محتوى الفكر فى صورة سلوك أو منظومات مفاهيمية أو ضلالية.، وتقوم عملية التربيط باستعمال وحدات هذا المحتوى من مفاهيم أو ضلالات بمثابة اللبنات التى تبنى بها تركيب الدماغ والذات، فإذا أصيبت هذه العملية (التربيط المفاهيمى الغائى) بخلل مثل الذى ذكرناه فى النشرات السابقة، فإن التربيط يختل بالنسبة للمفاهيم فى شكل ما يسمى “الاضطراب الجوهرى للفكر” الذى أوضحناه سالفا، وهو ما قد يحدث هو هو بالنسبة للضلالات المتسقة Delusion Systematized التى تعتبر مفاهيم فى تكوينها وتركيبها لكنها شاذة فى محتواها وبعدها عن الواقع وعن ثقافة المريض، فإذا أصابها الاضطراب الجوهرى فإنها تصبح ضلالات غير متسقة Non-systematize Delusions، ومفككة أو متفسخة، Disorganizedوتدخل ضمن الاضطراب الجوهرى للتفكير.
إنه من الصعب الحكم على محتوى فكر معين بأنه سوى أو شاذ وذلك لاختلاف الفروق البيئية والثقافية والسياسية، وكذا لاختلاف المعتقدات والقيم والأديان، وبالتالى ينبغى الحكم على أى محتوى للتفكير على أنه “عادي” حتى يثبت العكس، وهذا الأمر نسبى دائما، ويحتاج لإفاضة طويلة تتعلق بمفهومى الصحة والمرض (أنظرالفصل الأول) ونكتفى هنا بأن المحتوى يصبح مرضيا ليس باختلافه عن محتوى فكر الفاحص أو حتى عن المحتوى الغالب فى مجتمع المريض، وإنما بآثاره المعيقة أوالخطيرة على مجرى حياة المريض و/أو مـَن حوله.
وفيما يلى أهم الشائع فيما يخص اضطراب محتوى الفكر
1- الانشغال: Preoccupation
2- لست متأكدأ إن كان يحق لى أن أضمن الانشغال ضمن اضطرابات محتوى الفكر أم لا، فهو ظاهرة تكاد تكون عامة ، خاصة هذه الأيام بعد أن اصبحنا عرضة لزرع مواضيع فاسدة، وأحيانا جيدة، وغالبا مغتربة، تجعلنا جميعا منشغلين بما لايعنينا غالبا.
كذلك ينبغى التفرقة بين الانشغال المتحرك فى اتجاه ما ننشغل به طولا وعرضا، مع اختلاف التناول، وهو أقرب إلى العادى، أو إلى القلق العصابى، وبين الانشغال الاجترارى الذى ينشغل به فكر صاحبه بأمر واحد، يتكرر عليه، رغما عنه، ولا يفلح أن يوقفه، وفى نفس الوقت هو يعرف أنه لا داعى له، وهو الوسواس الاجترارى.
2- الأفكار المغالى فيها Overvalued Ideas :
هذه الظاهرة من التواتر بحيث يمكن أن تكون أقرب إلى السواء وخاصة فى مجتمعاتنا العربية، وفيها يغالى الفرد فى أفكاره نتيجة لتحيز عاطفى أو دينى، أو تعصب عرقى أو ثقافى، أو قصور فى النضج وعدم تحمل الاختلاف، وقد تصل إلى حد مزعج يمكن أن يعد مرضيا، وخاصة فى بعض اضطرابات الشخصية. ولا يمكن الحكم بسهولة على درجة المغالاة، وما إذا كانت وصلت إلى درجة مرضية أم لا، وبالتالى نعود إلى مقياس الضرر والإعاقة، فأى أفكار مهما غالى صاحبها فى تقديرها هى من حقه ما لم تعقـه أوتهدد غيره.
وتختلف هذه الأفكار المغالى فيها عن الوساوس فى أن صاحبها لا يعتبرها غريبة أو شاذة، وبالتالى لا يتفرغ لمقاومتها ولا يحرص، على الرغم من غلبتها وإزعاجها له فى كثير من الأحيان، على التخلص منها. وهى تختلف عن الضلالات فى أنها ليست خاطئة فى العادة، وأن بعض الآخرين يمكن أن يشاركوا فيها دون أن يعتبروا ممن يقال عنه “الجنون المشترك” Shared Insanity نظرا لأنها قد تكون أقرب إلى ثقافة فرعية، أو أيديولوجيا فرعية مقبولة من جماعتها مهما كانت غريبة أو مغتربة.
4- الوساوس : (الوسواس) حين يقال وسواس عند العامة فعلى الفاحص أن ينتبه إلى اختلاف استعمال كلمة وسواس فى بيئتنا (ثقافتنا) اختلافا كبيرا، ذلك أن هذه الكلمة قد تستعمل لتفيد -عادة- أحد أمرين: إما كثرة الانشغال، وخاصة بالصحة والمرض، وإما: حديث النفس الذى يسميه العامة عادة فى صورة همس الشيطان الوسواس الخناس كما قد تشير الكلمة إلى الميل إلى النظافة مع تكرار الطقوس المتعـلقة بذلك (وهو المعنى الأقرب للاستعمال الطبى الشائع).
الأفكار الوسواسية هى مصاحبة عادة بفعل أو رهاب، لكننا سنتناولها هنا فى ذاتها، فهى أفكار داخلية مقتحمة تدخل إلى دائرة الشعور ضد إرادة الشخص عادة، وأيضا ضد مقاومته، ويكون الشخص واعيا-فى أغلب الأحيان- بطبيعتها الشاذة وعدم جدواها، ومع ذلك فإن ثمة أفكارا دخيلة قد لا يقوم الشخص بمقاومتها بنفس الدرجة بسبب أنها قد تصطبغ أحيانا بصبغـة ثقافة الشخص (مثل وساوس الحسد، أو”أنه معمول لفلان عملا”..إلخ)، لكن الوسواس بطبيعته يدفع صاحبه إلى المقاومة من ناحية، وقد يدفعه إلى الاستسلام له بعد كل “دورة” مقاومة من ناحية أخرى، وهكذا
والرُّهابات الوسواسية الاجترارية هى رهابات معقلنة يغلب فيها الجانب الفكرى عن الانفعال الأتونومى المصاحب، وكثيرا ما تكون الأفكار الوسواسية – فى مجتمعاتنا- موجهة ضد الله سبحانه، وقد يقتصر حدوثها أثناء الصلاة حتى تحول دون الصلاة أصلا، ويدرج التشاؤم والطيرة تحت هذا النوع من الفكر الوسواسى، ما لم يكن جزءا من تقليد سائد.
2- الضلالات: هى اعتقادات راسخة، غير منطقية، لا يشارك فيها أحد غير المريض ، ولا تتفق مع بيئة المريض وثقافته،وهى غير قابلة للتصحيح بالمنطق والبرهان، وعادة لا يشارك المريض اعتقاده فى صحة أفكاره أحد، إلا أنه فى مجتمعنا نقابل كثيرين من الأهل يصدقون أبناءهم فى ضلالاتهم ، وأحيانا تصدق الزوجة زوجها بسهولة. وليس معنى هذه المشاركة أن الضلال ليس ضلالا، وإنما هى ظاهرة ثقافية تشير إلى نوع ترابط الأسرة العاطفى الذى يزداد أكثر فأكثر فى ظروف مرض أحد أفرادها. وتسمى المشاركة فى الضلالات “جنون المشاركة” Shared insanity، وأحيانا تسمى “الجنون المزدوج”، إذا كان المشارك واحدا، و”الجنون الثلاثي” إذا كانوا ثلاثة، والجنون العائلى إذا اشترك فى تصديقه كل أفراد العائلة، أو أغلب المقيمين معا، وأخيرا ”الجنون الجماعي” إذا أصيبت جماعة بأكملها بالاعتقاد بنفس الاعتقاد الضلالى على غير أساس (شريطة ألا تكون أيديولوجيا جماعية لها مبرراتها المنظومية التى تقاس بمعايير أخرى بجوار المعاير الطبية والنفسية) (ويمكنك تصور مدى اختلاف الضلالات التى قد تفرزها ثقافات الأشكال التالية).
علاقة محتوى التفكير (الضلالات خاصة) بالاضطراب الجوهرى للتفكير:
لاتوجد علاقة مباشرة بين وجود الضلالات وبين الاضطراب الجوهرى للتفكير. ذلك أن تكوين الضلال مثل تكوين المفهوم (السوى) تماما، ولكى يكون الضلال متسقا فى ذاته لا بد من أن تكون”العملية” التى تصنعه سليمة، بنفس قدر سلامتها وهى ”تكون المفهوم” Concept Formation فى حالة الصحة، فإذا اختلت هذه العملية مثلما يحدث فى الاضطراب الجوهرى للفكر- فإن الضلال يتفسخ ويصبح غير منتظم، فى مقابل أن المفهوم أيضا يتفكك وينشأ عنه ما شرحناه سالفا تحت مسمى “الاضطراب الجوهرى للفكر”.
والضلالات ليست مجرد خطأ فى الحكم على الأمور وإنما هى مركز ظاهرة “فكروجدانية*” حيث ترتشق الضلالات فى بؤرتها (كما ورد فى دليل التشخيص المصرى)، معنى أن تكون الظاهرة “فكرية-وجدانية” فى آن هو معنى ظاهراتى وصفه أساسا الطب النفسى الألمانى والفرنسى قبل إغارة التقسيم الأمريكى الرابع على كل شيء.
وفى خبرتنا ثبت أن الضلال (المزمن المنتظم خاصة) لا يرتشق فقط فى هذا الوساد “الفكروجداني” وإنما هو منغرس ومختلط بالبدن ككل (بما فى ذلك العضلات مثلا) – وقد لاحظنا ذلك خاصة أثناء العلاج التنشيطى البدنى (مثل العدو الطويل) حيث أظهرت تعتعة التركيب العضلى أثناء الهرولة والعرق والتحريك، أظهرت أن ذلك قد يصاحبه تعتعة مقابلة لثبات الضلالات وتصلبها مما يجعلها فى متناول المواجهة والحوار، وفى النهاية “التمثل” (أى استيعاب الضلالات حتى هضمها وتمثلها ثم تلاشيها توليفا فى واحدية الذات النفسفيزيقية)، بل إن ذلك التحريك (التعتعة) يجعل الضلالات أكثراستجابة للنيورولبتات (يلاحظ هذاخاصة لمن لم يكن يستجيب لها قبلا).
وعلى ذلك ينبغى التعامل مع الضلالات بعمـق مناسب باعتبارها بنية غائرة، بدلا من التركيزعلى خطأ محتوى المعتقد من صوابه، ذلك أن الضلالات تتراوح على متدرج ما بين وجودها فى الوعى كخبرة كيانية متكاملة حتى كونها مجرد معتقد معقلن أو سوء تأويل ذهنى بحت على الطرف الآخر. وكل ضلال يمكن أن يجد له موقعه على هذا المتدرج بشكل أو بآخر، فمثلا نجد أن أعراض الصف الأول لشنايدر (مثل إقحام الأفكار Thought Insersion أو تسخير الإرادة Made volitional act) هى خبرة ضلالية تقع على أقصى اليمين النشط، ومع مرور الزمن فإن هذه الخبرة المعيشة قد تفقد حيويتها فتنقلب إلى ظاهرة السلبية المعلنة التى تظهر فى صورة ضلالات التأثير مثلا باعتبارها معتقدا ذهنيا راسخا معقلنا أكثر منه خبرة نفسبدنية كلية، وهذا المعتقـد المعقلن لا يؤثر فى نوعية الوجود ككل، وإنما يظهر أساسا كظاهرة ذهنية سلوكية.