نشرة “الإنسان والتطور”
الأثنين: 3-3-2014
السنة السابعة
العدد: 2376
الأساس فى الطب النفسى
الافتراضات الأساسية
الفصل الثالث: ملف التفكير (10)
أعراض الاضطراب الجوهرى للتفكير
اعتراف ورجاء:
أقر واعترف أننى وجدت أغلب اصل هذه النشرة، وربما النشرات السابقة مكتوبا منذ أكثر من عشرين سنة، وكذلك أغلب الأشكال التوضحية، وحين وجدت أننى رسمت اضطرابات التفكير وشرحتها أكثر مما عرضت عينات محددة من واقع أوراق المرضى، خجلت وحاولت أن أحضر عينات مناسبة ومحددة أثناء هذا التحديث، لكننى بصراحة لم أجد ما يمثل هذا الشرح وهذه الأشكال بما يفيد، ثم إنى قد وجدت أن هذا الشرح قد يفيد لأغراض علمية كنوع من تشريح الظاهرة إلى مفرداتها وأصولها أكثر منه مطلوب لتصنيف أعراض بذاتها، ذلك أنه قد وصلنى بالاضطلاع على عشرات العينات، عشوائيا أن أى عرض من هذه الأعراض التى سيرد ذكرها فى هذه النشرة، وربما فى النشرات التالية، لا يرصد عادة منفردا، وإنما هو يظهر فى سياق عشرات الأعراض الأخرى.
هذا اعتراف مبدئى لم يمنعنى من أن احدّث فى المتن القديم وأن أعدّل فى الأشكال التوضيحية، أما فائدة هذا وذاك فأتركها للقارئ وللحوار. وشكرا.
وفيما يلى ما تيسر من أعراض الاضطراب الجوهرى للتفكير:
1- تراخى (فضفضة) الترابط Looseness of Association : هذا العرض يشيـر إلى تراخ فى الترابط بشكل عام أكثر من الإشارة إلى عرض نفسى محدد، وحين يستعمل هذا التعبير هكذا بلا زيادة، فقد يعنى درجة خفيفة أو متوسطة من تراخى الترابط، وهنا يكون التراخى والتفكيك النسبى بين الأفكار عموما أكثر منه بين الألفاظ أو مجموعات الألفاظ، وقد نلاحظ هذا النوع (أو هذه الدرجة) فى الحياة العادية، (كما ذكرنا) ويمكن اعتباره درجة من الاغتراب الدفاعى، ثم إن الدرجات الخفيفة منه يمكن أن تكون أقرب إلى التعتعة بما يشبه بداية الإبداع كما ذكرنا، ولا تكون عرضا إلا إذا زادت وتمادت نحو مزيد من التباعد.
تراخى الترابط تماسك الترابط
2- التفكير العـهنى Woolly Thinking(المنـفوش): يكون التفكير هنا أشبه بكتلة من الصوف المندوف، وهوالصوف المعد للغزل باليد عادة، والذى يكون وكأنه كتلة كبيرة لكنها هشة غير قابلة للإمساك أو التحديد (يوم تكون الجبال كالعهن المنفوش)، وأحيانا ما توصف هذه الظاهرة بأن المريض (أو تفكيره) يبدو كالباب المقفول الذى ليس وراءه شيء (هكذا وصفها إ.بلويلر E. Bleuler) حيث يبدو المريض فى بداية حواره متماسكا لكن مع الاستمرار نكتشف أنه لم يصل إلى معنى محدد ولم يوصل رسالة بعينها، (ليس وراءه شىء).
وما يطلق عليه “التفكير شبه الفلسفى” هو أقرب إلى هذه الظاهرة وإن كان التفكير فى هذه الحالة يستعمل رطانة فلسفية ووجودية وعقلانية توهم بأن الحديث يجرى فى منطقة الفلسفة أو ما شابه ذلك مثل التساؤلات عن هدف الحياة أو طبيعة الكون، وإذا بالأمور – إذا ما تمعنت فحصها- تتبين أنها ليست إلا رطانة غير متماسكة
3- فرط التضمين Overinclusion (التكثيف): وهذا يعنى أن الرمز (كعربة حاملة للمعنى) يحمل أكثر من مضمون فى نفس الوقت، وبالتالى يكون اللفظ حامل الفكر (مع التجاوز فى التعبير) مزدحم بأكثر من فكرة فى نفس الوقت بحيث تفقد الأفكار قدرتها على التماسك كوحدة فى سلسلة التفكير للوصول إلى الغاية، مصطلح “فرط التضمين” هوأقرب إلى أن يكون تعبيرا ينتمى إلى علم الإمراض (السيكوباثولوجى) أكثر منه إلى عرض من الأعراض، أما تعبيرالتكثيف فهو وصف سلوكى لعرض يمكن رصده أثناء الفحص. ونتذكر هنا بوجه خاص كيف أن فرط التضمين هو خطوة فى الإبداع والتوليف الأعلى أيضا، وقد يوجد فى حالات السواء وخاصة فى بعض الصيغ البلاغية مثل التورية.
المثال فى الشكل الأعلى حين يرد أحدهم على سؤال يقول له “إزيّك”؟ (كيف حالك؟) فيرد قائلا: “زى الناس”، قد يتضمن الرد بتعبير “زى الناس” أكثر من معنى، ليس فقط بالنسبة للسائل المتلقى الرد، وإنما بالنسبة للمجيب نفسه أيضا، وقد يتوقف فهم أى من المضمونات هو الأرجح على تعبيرات أخرى مثل تعبيرات الوجه، وعلى السياق أيضا وهكذا، هذا فى الأحوال العادية.
أحيانا نكتشف فرط التضمين أثناء الفحص حين يجيب المريض إجابة تفيد للسائل (الفاحص) معنى محددا، مثل أن تكون شكواه أنه “مكسور”، وقد يعنى بذلك الهزيمة، أو اليأس، أو العجز، أو ما لحقه من إهانة محددة، وقد يوضح أى المعانى يقصد مع استمرار الحديث، أما حين يعجز تماما أن يختار من بين هذه البدائل، مع ظهور أعراض أخرى تدل على الغموض أو الحيرة أو أنواع أخرى من “ضجف” فإنه قد يكون أعجز من أن يجعل اللفظ الذى يستعمله “جامعا مانعا”.
وعلى ذلك فإن فرط التضمين يمكن أن يكون صفة عادية ، كما يمكن أن يكون سمة ثقافية، قد تتمادى أحيانا فى سياقات تحتاج مثل هذا التضمين المتعدد فى مواقف سياسية ، وأحيانا تفاوضية، أو تعاقدية.
وهكذا يظل الحكم على فرط التضمين بأنه مرضى أو غير ذلك بحسب درجته، ومدى تدخله كعامل إعاقة فى سلامة التفكير للتواصل أو لغير ذلك، بالإضافة إلى الأعراض المصاحبة الأخرى.
4- التفكير المماس Tangential Thinking: هنا تبدو الأفكار طرفية دون الدخول إلى جوهر التيمة الأساسية، فالأفكار تلامس أطراف بعضها البعض وكأنها تتماس دون أن تنتظم حول فكرة مركزية تقوم بترتيب الأوليات والتوالى وهكذا، ويدور الحوار فى هذه الحالة “بجوار” الموضوع الأساسى، وليس فى صلبه، وقد تستعمل أيضا هذه الآلية بقصد إضاعة الوقت فى المفاوضات، أو المناورات الكلامية، أو فى التحقيقات الهروبية، لكن إذا كانت بغير قصد، وأيضا بشكل عام يغلب على مساحة كبيرة من التفكير، وفى سياق منظومة إمراضية معينة، فإن الأمر قد يصل إلى مشروعية تصنيفها كعرض، عادة يكمل ويفسر أعراض أخرى، خاصة مما هى واردة فى هذا الاضطراب بصفة عامة.
5- تخطى الموضوع: :Past-Pointing ويعنى أن الاستجابة أو الفكرة تتجاوز الهدف لتصل بجواره فى أى اتجاه آخر، ويشبه هذا أحيانا “بحركة الفرس” فى لعبة الشطرنج، وفى كثير من الأحيان يتوقف الشخص (أو المريض) حين يكتشف ذلك، أو حين ينبهه المحاور إلى ذلك، فلا يكون عرضا.
أما إذا تمادى فى الاتجاه الجديد والموضوع الجديد البعيد تماما عن الموضوع الأصلى فإنه يطلق عليه اسم العرض التالى وهو :
6- “انحراف المسار: Derailment يشير إلى انحراف أو أكثر، ويكون عادة تدريجيا، فى مسار متباعد عن مسار الفكرة الأصل، وهو يحدث بفجائية أقل، من عرض تخطى الموضوع كما ذكرنا، على أنه إذا حدث أن هذا الانحراف كان مسبوقا بفترة توقف، فإن هذا التوقف يعتبر عرضا إضافيا يسمى “عرقلة” الفكر Block of Thoaght، قد يصفها المريض وقد يستنتجها الفاحص. (أنظر بعد) يسمى هذا العرض بالإنجليزية Derailment “أى الخروج عن القضبان” (كالقطار الذى يخرج عن قضبانه).
7- اللاتلاؤم: Inappropriateness
هنا تكون الإجابة (أو الاستجابة) غير ملائمة أصلا للسؤال أو المثير، أى عن موضوع آخر تماما.
ومثال ذلك سألت مريضه عن طبيعة عملها فأجابت:
“الست دى (مشيرة إلى أمها) مش عايزة تعترف أنها الخدامة بتاعتى”.
وحين كررت السؤال أصرت على نفس الإجابة، فسألتها عن عنوانها فأجابت:
“أمبارح اتحرشت بالناس فى الشارع، وشتمت الجيش، وساعات باسمع صوت الله عز وجل”….إلخ
ونلاحظ أن عدم التلاؤم لا يرتبط بالصورة باللاترابط، وقد يكون نتيجة لفرط الانشغال بالمعاناة، أو بالمحتوى الضلالى أو قد يكون نتيجة لعدم الحرص على فهم الرسائل الواصلة أصلا.
8- غياب أدوات الربط: Asyndesis حيث تأتى الكلمات متجاورة بلا حروف عطف (و- فـ – ثم) أو أدوات وصل (الذي- التى -) وبالتالى تصبح الكلمات متجاورة فحسب.
9- عرقلة الفكر Block of Thoaght: وهى تعنى توقف عملية التفكير فجأة، وقد يشكو منها المريض، وخاصة فى بداية الذهان، وفى بداية الفصام بالذات، كما قد يلاحظها الفاحص حين يتوقف المريض فجأة عن الحكي، ثم إنه إذا استطرد وجد نفسه -كما يجده الفاحص- يتحدث فى موضوع آخر. وهنا كما ذكرنا يجتمع الخروج عن المسار مع العرقلة، لكن فى أحيان أخرى ، عادة فى بداية المرض، قد يعلن المريض بنفسه أن فِكْرَه قد توقف رغما عنه، المرة تلو الأخرى فى كثير مع الأحيان، وقد تكون العرقلة نتيجة لتصادم فكرتين أو أكثر لدرجة توقف الاثنتين وعجز أيهما عن أن ترجح الأخرى، تماما مثلما يحدث فى إشارة المرور حين تتوقف حركة المرور لتنافس عربتين فى مواجهة بعضهما فى غياب جندى المرور أو عند عجزه.
وعلى أية حال فقد يتوقف الشخص العادى عن التفكير فى اتجاه ما حين يخطر عليه فكر آخر يشغله، وقد تحدث الوقفة فى حالات القلق الشديد، إلا أنه فى هذه الحالات يستدرك المتوقف الأمر ويعاود الاتجاه الأصلى، وقد يذكر ما يشغله وما شد انتباهه إلى الداخل. أما فى العرقلة فى حالة الذهان (الفصام خاصة) فإن المريض قد لا يلاحظها، فإذا لا حظها فإنه يبدى لها أسبابا غامضة أو لا يفسرها أصلا، وفى حالة أن الفاحص هو الذى يرصدها، فإن الذى يـثبت أن التوقف عرقلة وليست انشغالا أن المريض عادة حين يعاود الكلام يستطرد فى موضوع آخر، دون أن يشير إلى العرقلة عادة.
وثمة آراء تضع العرقلة كمرادف لـ”سحب الأفكار”، وهذا خطأ، لأن سحب الأفكار ليس مجرد فراغ الدماغ فجأة، الذى عادة ما يعزوه المريض إلى شخص آخر وأنه هو الذى يفرغ دماغه-فجأة مما بها من أفكار مما يترتب عليه هذا التوقف الذى لاحظه الفاحص أو الذى اشتكى منه المريض، ثم إن سحب الأفكار له علاقة وثيقة بالظاهرة السلبية المرتبطة بملكية الأفكار أكثر من ارتباطها بالاضطراب الجوهرى للفكر
10- ضغط الأفكار Pressure of Thoaght: هذا العرض هو عكس العرقلة -فى الظاهر - وفيه تتدفــق الأفكار فجأة فى ذهن المريض حتى يزدحم بها ولا يستطيع الانتقاء من بينها ما يخدم التسلسل والترابط، وقد يشكو المريض من هذا أيضا ويصفه وصفا واضحا (وخاصة فى الأطوار المبكرة من المرض) كما قد يلاحظ ذلك الطبيب. وأحيانا ما يكون هذا الضغط هو السبب فى العرقلة مثلما يؤدى ضغط السيارات فى ساعات الذروة إلى توقف(عرقلة المرور)، وضغط الأفكار غير طيران الأفكار (أنظر بعد) لأن الأفكار فيه تكون مكدسة ومزدحمة، وليست سريعة ومتنقلة كما هو الحال فى طيران الأفكار.
وكثيرا ما يكون ضعط الأفكار، أو ما يعبر عنه بكثرة الأفكار ليس دليلا مباشرا على الاضطراب الجوهرى للتفكير(ضجت) وإنما كنوع من الوسواس الاجترارى Obsrssive Rumination، ويفرق هذا من ذاك بأنه فى الوسواس الاجترارى يشكو المريض من فكرة بذاتها تلح عليه وتتكرر بوجه خاص، وتعود بإلحاح لحوح، مهما قاومها، أو استسلم لها، أما فى ضغط الأفكار (الوجه الآخر للعرقلة) فالمريض لا يحدد فكرة بذاتها وإنما يشكوا من “زحمة ” الأفكار وامتلاء دماغه بها طول الوقت دون تحديد، حتى قد تحول دون ممارسة التفكير بالشكل التسلسلى المعتاد.